يخطئ من يسبق إلى ظنه أن الأزهر وأنصاره يقفون بالمرصاد لكل من يهاجم التراث لأنهم يقدسون التراث.فالواقع أن التراثيين هم أعلم الناس بما في التراث من مغالطات وأباطيل، وخرافات وأساطير، ومخازي ومهازل، تثير السخرية والعجب من القدرة الفائقة لواضعيها على صبها في قوالب جادة ورصينة وجذابة ضمنت لها هذه الحياة الممتدة والمفعول القوي.
إن السبب الحقيقي من وجهة نظري في استماتة المؤسسات والجماعات الدينية في الدفاع عن التراث هو لما يمثله التراث من رمزية دينية في عقول ونفوس العوام وأشباه العوام من المتدينين الذين يدينون بالولاء والتعظيم والتوقير لكل من يمثل التراث، فمن يمثل التراث فهو يمثل الدين، كما أن التراث من وجهة نظر أنصاره هو الحصن الحصين للنص المقدس.
اتهم شيخ الأزهر رئيس جامعة القاهرة بأن انتقاده للتراث مزايدة "على التراث" لأن كثيرا من مقولاته النقدية مستمدة من التراث ذاته، وهذا صحيح إلى حد كبير؛ ولا يغيب بالطبع عن فطنة شيخ الأزهر أن السبب في ذلك هو أن المتحمسين للتجديد وجدوا أنفسهم مضطرين لتأصيل أفكارهم الثورية من التراث بسبب سطوة المزايدين "بالتراث"، ونفوذهم وحضورهم الاجتماعي الممتد، وسلطاتهم الواسعة السياسية والقانونية، التي قد يستغلها البعض في التحريض على مقاطعة وحصار خصومهم، واستحلال إيذائهم، بل تحطيمهم جسديا أو أدبيا أو نفسيا. وأصحاب هذه الجهود المبذولة لتضييق الطريق على نقاد التراث يدركون جيدا أنهم إن تهاونوا مع نقد التراث، فسوف ينتقل النقد إلى مرحلة أكثر خطورة وهي نقد الدين نفسه، وعندئذ تبور بضاعتهم وتذهب سلطتهم وتزول من نفوس الناس هيبتهم وتخرب دولتهم وتتهدد أرزاقهم.
إن مشكلة المزايدين بقضية التراث - وهم رجال الدين الرسميون، والجماعات الإسلامية والإسلاميون بشكل عام – هي أنهم حوَّلوا التراث الديني وما فيه من نصوص وأحكام وتعاليم إلى أيديولوجيا تستوعب كافة مناحي الحياة. وهؤلاء أخطر أصناف المتدينين على المجتمع والأخلاق والعلم والفن والعقل بل على الإنسان نفسه؛ لأن الدين عندما يتحول إلى أيديولوجيا ينتج تدريجيا الاغتراب عن الذات، والعزلة النفسية والفكرية عن المجتمع، والشخص المؤدلج لا يفهم من الأخلاق إلا ما ينبثق من أيديولوجيته أو يصب في صالحها، حتى لو قادته إلى استخدام العنف في سبيل فرض آرائه على الآخرين، ولهذا تحول الدين على أيديهم إلى أداة لمسخ الإنسان، واغترابه عن ذاته الحقيقية، وتكريس الأنانية والنفاق والازدواجية، ورؤية الأنا أفضل من الآخرين، والكراهية للآخر المخالف.
وبالتالي فإن محاولة تجريد الأفكار والأطروحات الدينية التراثية من هالاتها المزيفة تبدو مهمة بالغة الصعوبة بل وخطرة في كثير من الأحيان؛ فقد تم تسويقها على أنها حقائق لا تقبل النقاش، وتسلطت على العقول فأفقدتها قدرتها على إدراك المغالطات الكامنة فيها. وهو ما جعل المجتمع منذ عهود بعيدة فريسة سهلة لكثير من أصحاب الطموح والمغرمين بالتسلط والتصدر والشهرة، ونجحت دعايتهم لتحيزاتهم المعرفية والمذهبية والسياسية تحت لافتة الدين والنص الديني معتمدين على أن هيبة الدين في نفوس الناس سوف تدفعهم عاجلا أو آجلا إلى الخضوع والاستسلام لهم.
ولكل مذهب ديني مهاراته الخاصة في توظيف النص الديني لصالحه، وتراث الفرق الإسلامية جميعها، قديما وحديثا، يظهر مقدرتهم الجبارة على توجيه دلالات النصوص لخدمة مذاهبهم، إذ قاموا بجهود تنظيرية مضنية لـضبط علاقة اللفظ بالمعنى، وتقنين دلالة المنطوق على المضمون، ووضع قوانين واجبة الاعتبار عند الاستدلال بالنص لتثبيت المعتقدات وإثبات الأحكام، وحراسة هذه القوانين بحزمة من المفاهيم اللغوية والدينية، ورفض أي قراءة لا تنطلق من قوانين التأويل المتمثلة في طرق الاستنباط التي أسسوها.
وحسبنا دليلا على ذلك تلك المساحة الواسعة التي تم تخصيصها لمباحث دلالة الألفاظ في علم أصول الفقه، وهو علم مذهبي بامتياز، فلا نجد كتابا في أصول الفقه يخلو من مباحث في الحقيقة والمجاز، والعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، والمنطوق والمفهوم، والاقتضاء، والإشارة، والتنبيه، والإيماء، وغيرها من مباحث لغوية عالجها الأصوليون بطريقتهم الخاصة.
بذلك تم إحاطة النص الديني في التراث الإسلامي، بسياج مشدود، خاضع لمنهج محكوم بنظام لغوي مغرض، من الصعب تجاوزه في فهم الخطاب لأنه ينطلق من معتقدات دينية، فارتبط مجال قراءة النص بطبيعة النص ارتباطا وثيقا في التراث لسبب واضح؛ وهو "قداسة النص الديني"، وهو ما يعني أن التعامل مع النص الديني يختلف عن التعامل مع أي نص آخر، حيث تتعطل الميول النقدية في النظر إلى النص الديني، وتتظاهر الميول الذاتية، والدوافع السياسية والمذهبية والطائفية، والمؤثرات الثقافية والاجتماعية، بالتراجع عن سطح الوعي لتحتل باطنه.
وبمناسبة حديث الدكتور الخشت في سجاله مع شيخ الأزهر عن القطعي والظني، وتقليدا للمجددين الذين يحرصون على تأصيل أفكارهم من داخل التراث، ونظرا لأنني من المدمنين على مطالعته، وأتعثر بين الحين والآخر بعدد من المفاجآت فيه، يسعدني أن أقدم للقارئ واحدة منها، وهي أن واحدا من الأسماء الكبيرة في التراث الإسلامي، قد أثار إشكالية تستحق التأمل. أما فارس هذه المشكلة فهو فخر الدين الرازي (544 - 606 هـ = 1150 - 1210 م) الأصولي الشافعي والمتكلم والمفسر الأشعري المعروف، وأما المشكلة فملخصها أن قابلية النص لتعدد المعاني وللتأويلات المختلفة، حقيقة واقعة لا مفر منها، وتشهد على ذلك كتب التفسير المطولة. وحيث تتعدد التأويلات، وتتسلط الاحتمالات، فليس للقطع سبيل. وقد أثار الرازي هذه الإشكالية في خضم معاركه الجدلية مع أصحاب الفرق والمذاهب المختلفة في تفسير بعض آيات القرآن محل النزاع بينه وبينهم.
إن الفخر الرازي يشكك في قطعية دلالة أي نص على معناه، ويرى أنَّ دلالة الألفاظ على معانيها لا شيء منها يفيد القطع أو الجزم المطلق، وأن أقوى ما يمكن أن يصل إليه قارئ النص هو غلبة الظن، وهو ما يضفي على أي دلالة مستفادة من النص صفة الترجيح لا القطع، وهو ما لا ينطبق على الدليل العقلي الذي يفيد – عنده - اليقين والقطع في أحكامه، أما الدَّليل اللفظي فهو - وإنْ تواتر في النَّقل - حمَّال أوجه، لا يمكن أَنْ يكونَ قطعيًّا في الدّلالة؛ لعدم انقطاع الاحتمالات عنه.
وقد عالج الفخر الرازي هذه الفكرة باقتدار في تفسيره الكبير "مفاتيح الغيب" في أكثر من موضع، وفي كثير من كتبه الأصولية والكلامية مثل "المحصول في علم الأصول" و"المطالب العالية في العلم الإلهي" و"أساس التقديس" و"معالم أصول الدين" وغيرها.
بل يذهب الرازي إلى أن الأدلة السمعية النقلية– مثل القرآن والحديث- لا تفيد المعرفة اليقينية؛ لأنها أدلة لفظية، موقوفة على النقل؛ نقل الألفاظ والتراكيب اللغوية بتصريفاتها وإعراباتها، ومن المعلوم أن النّقَلة غير معصومين من الخطأ غير المقصود أو الكذب العمد، وقد كانوا أول الأمر آحـادا، ورواية الآحاد لا تفيد إلا الظن، فالنقلة قد اختلفوا فيما نقلوه، فالقرآن قراءات، والسنة روايات، واللغة لهجات، والتاريخ حكايات. كما أن الفهم الدقيق للنصوص المنقولة موقوف على عدم الاشتراك، وعدم المجاز، وعدم الإجمال، وعدم التخصيص، وعدم النسخ، وعدم الإضمار بالزيادة أو النقصان، وعدم التقديم والتأخير، وعدم المعارض العقلي، ولا شك أن اعتقاد هذه المقدمات ظن محض، والموقوف على الظن أولى أن يكون ظنا، وهو ما يعني تطرق الاحتمالات إلى دلالة النصوص بما يزيل القطع عنها. واختلاف المختلفين حول فهم النص هو في حقيقته اختلاف بين متأولين، ولا مجال للجزم في التأويلات، وعلى ذلك فإن الاعتقاد بصحة رأي أو بطلانه – أيا كان هذا الرأي - بناء على استنباط من نص لغوي أو تأويل له – أيا كان هذا النص - ليس سوى مجازفة في الحكم، وتحكّم محض، تأباه طبيعة اللغة وبداهات العقول. وهذا يعني - فيما يتعلق بتفسير النصوص الدينية - أن الحكم على مراد الله بالظن والتخمين خطر، فإننا لا نجزم بمراد المتكلم إلا إذا أَظْهَر المتكلم مُرَادَه، فإذا غاب، فكيف نجزم بِمُرَادِه؟! إلا أن تنحصر الاحتمالات، والاحتمالات في كلام العرب وطرق التوسع فيها تستعصي على الحصر! وإن انحصرت، فلمَ يكون احتمالٌ أولى بالحق من احتمالٍ آخر؟
وتطبيقا لهذا المنهج قدم الفخر الرازي للمرة الأولى داخل الوسط السني نموذجا فريدا وتجرية غير مسبوقة في قراءة النص الديني لمتدين يقدس النص الذي يقرؤه لا نجد لها نظيرا في أي تفسير آخر ظهر للقرآن. وكان الملمح الأبرز لهذه التجربة هو أن الرازي استطاع قراءة النص قراءة تقترب من الحياد الذي ينعدم تقريبا في قراءة المؤمن للنص الديني الذي يقدسه. وأقصد بالقراءة المحايدة هنا تلك القراءة التي تستلزم استقلال القارئ عن سلطة المقروء وهيمنته، إذ وضع الرازي نصب عينيه المشكل المنهجي الأكبر الذي يواجه القارئ إزاء النص المقدس، وهو استحالة تملصه كليًّا من انتمائه الديني الذي يغذي فيه شعورا لا إراديا بهيبة آسرة حيال النص المقدس تصعب مقاومته. ووجد نفسه محاطا بسور من التحيزات العقائدية والمعرفية سوف تعترض روح الباحث المستقل داخله، فقرر خوض تجربة جديدة في قراءة النص المقدس حاول فيها الجمع بين وجدان المؤمن وعقل الباحث الحر، وذلك عن طريق تغيير موقعه من النص بشكل مستمر، فهو قارئ سني تارة، وقارئ معتزلي تارة أخرى، وهو قارئ صوفي مستغرق في التجربة الدينية الروحية مرة، وهو قارئ لا يمت إلى الإسلام والأديان بصلة مرة أخرى، وهو مدافع عن النص حينا، ومثير للإشكالات والتساؤلات المحيرة حياله حينا آخر. إذا احتل موقع المهاجم فإنه يقرر مذهب المهاجمين تقريرا لو أرادوا أَن يقرروه بأنفسهم ما استطاعوا مجاراة الرازي في القدرة على إثارة الإشكال وعرضه وتقصي جوانبه، وإذا انتقل إلى موقع المدافع جد في البحث عن الجواب وقلب القضية على الطرف الآخر ما استطاع إلى ذلك سبيلا، مستعرضا قدرته المذهلة على الاحتجاج والاعتراض.
كان الرازي باختصار الممثل الوحيد لعشرات الملل والنحل والطوائف والمذاهب في مناظرة معلنة موضوعها النص القرآني. ورغم إعلان الرازي في مواضع مختلفة من تفسيره وكتبه أن موقعه الأصلي هو الإسلام على مذهب أهل السنة والجماعة إلا أن طريقته في قراءة النص القرآني بل والموروث الديني كله حَيَّرَتْ أهل السنة مثلما حيرت خصومهم على السواء، مما جعله دوما هدفا للتشكيك في ولائه للدين ورميه بالزيغ عن منهج أهل السنة إجمالا، بل واتهامه بالزندقة والإلحاد من قبل أئمة سنيين مثل ابن تيمية وابن القيم وأتباعهما. وبالرغم من أن بعض أنصاره من الأشعرية الشافعية اعتبروه مجدد الإسلام في القرن السادس الهجري لدوافع مذهبية واضحة إلا أنهم اضطربوا وضاقت عليهم الطرق والمخارج حيال مسائله وإشكالاته. واحتل الفخر الرازي دون غيره موقع الغصة في حلق الأشاعرة، فلا استطاعوا هضمه ولا قدروا على لفظه.
كان الفرق بين الفخر الرازي والآخرين هو أنه كان يقدس النص بوجدانه لا بعقله، يقدس النص ولا يقدس المنهج الرسمي المعتمد لقراءته، فتنقل بحرية بين مواقع النظر وأساليب التفكير، وتعامل بمرونة وانفتاح مع قراءات الآخرين.