في العام 1919 تجلت القومية المصرية في أكبر صورها حين اندلعت الثورة المصرية بزعامة سعد زغلول المطالبة بالاستقلال، خلالها وبحسب كتاب المؤرخ عبدالرحمن الرافعي "في أعقاب الثورة المصرية 1919" فإن الحركة الوطنية كانت عامة شاملة، موفقة ناجحة، اشتركت فيها البلاد من أقصاها إلى أقصاها، ريفها وحضرها، وساهمت فيها طبقات الأمة كافة، شيبها وشبابها رجالها ونساءها، وأثمرت هذه الروح العالية جهادًا رائعًا.
هذه الأمة التي يتحدث عنها الرافعي تبلور لديها وعي كبير بالقومية المصرية، تطور منذ سنوات طويلة، أحس به المصريون قبل قدوم الحملة الفرنسية وقبل وصول محمد علي للحكم، ظل ينمو تدريجيًا منذ غروب شمس السلطنة المملوكية، لتصبح مصر ولاية في مسبحة السلطان العثماني، ومنذ اللحظة الأولى حدث التنافر بين مصر بثقلها الديني والثقافي وبين السلطنة العثمانية بثقلها الفوضوي الاستعماري.
"الوعي القومي المصري" يمكن أن يكون قد بدأ مع الإحساس بوجود المستعمر العثماني، تكوَّن تدريجيًا وبطيئًا عبر قرون طويلة خضعت مصر فيها لويلات السقوط في بئر دولة اللصوص، حي يمكننا أن نستجلي صورة الغازي التركي عبر كتابات الباحثين غير العرب منذ سقوط دولة المماليك وحتى بلورة هذا الوعي.
دولة من اللصوص
قبل أربعة قرون من الثورة المصرية شهدت صحراء الريدانية هزيمة السلطان المملوكي الأشرف طومان باي، ومن يومها مارست الدولة العثمانية سياسة استنزاف ثروات تلك البلاد لصالحها، ومن المثير للاندهاش بيع العثمانية لخيمة كان السلطان قايتباي نصبها لإطعام الفقراء.
نقل ميكل ونتر مؤلف كتاب "المجتمع المصري تحت الحكم العثماني" إحدى الوقائع التي سردها مؤرخ الحقبة المملوكية ابن إياس الحنفي صاحب كتاب "بدائع الزهور في وقائع الدهور" والتي تقول إن العثمانيين تخلوا عن الاحتفالات التي كان المصريون يقيمونها في المناسبات الدينية مثل احتفال المولد النبوي، كما أنهم تخلوا عن عادة توزيع الطعام على الفقراء والتي نصب لها السلطان المملوكي قايتباي خيمة كبيرة، احتاجت في نصبها قرابة 500 عاملا، وبلغت تكلفتها قرابة 30 ألف دينار، وكانت الخيمة مكانًا لإكرام الناس والفقراء، وكل من تولى مصر عمل على الاهتمام بها دومًا، لكن العثمانيين أحدثوا بها ضررا، ثم باعوها لتجار مغاربة بثمن بخس وصل لـ400 دينارا.
تأثر ونتر بمؤلف "بدائع الزهور" وأعجبه معاصرته للأحداث، في الوقت نفسه ترك تنبيهًا أن ابن إياس ينحاز للعصر المملوكي، وأن الأرقام التي يوردها لبيان فساد العصر العثماني بها مبالغة وتضخيم، مثل الرقم 10 آلاف الذي أعطاه لعدد المماليك الذين تم تصفيتهم آنذاك، يصفه أنه "مضخم تضخيمًا كبيرا"، لكن ونتر في نفس الوقت الذى يرى فيه أن الانتباه للمبالغة مهم يرى أيضا أن ابن إياس هو الصوت الجمعي لعامة سكان القاهرة، والمعبر الحقيقي عن مشاعرهم تجاه الغازي الجديد الذي استباح ديارهم لمدة ثلاثة أيام.
وصف ابن إياس الغازي الجديد سليم الأول بأنه رجل متعطش للدماء وليست له هيبة الملوك كما أنه لا يحفظ كلمته فلقد وعد عددًا من المماليك بالعفو فلما تمكن منهم قتلهم، وأيضا يصف جنوده باللصوص، ومثل هذه الصفات نجد ونتر ينقلها عنه حين يكتب: "ويقول هذا المؤرخ الحولي أن الجنود العثمانيين كانوا عامة ممن يشربون الخمر، وكانوا من مدمني الشبك (غليون طويل القصبة) ولم يكن بعضهم يقيم الصلاة، ينتهكون حرمة الأضرحة والأماكن المقدسة، كذلك كثيرا ما كان الجنود يسرقون الطعام من أصحاب الحوانيت أو لم يكونوا يدفعون الثمن المقرر، وكان الناس يُكرهون على جذب المدافع الثقيلة، أو يَشحنون أعمدة الحجارة التي يكون العثمانيون قد انتزعوها من بعض القصور داخل بعض السفن المتجهة إلى اسطنبول، كما أن الرخام يُخلع من المباني ويُشحن إلى الحاضرة العثمانية، وكثيرا ما كان الجند العثمانية يتحرشون بالنساء والصبية في الدروب".
تعزيز الألق المادي
ركزت المصادر التاريخية على جوانب النهب التي اعتمدها العثمانيون في استنزاف ثروات البلاد، منها أن السلطان سليمان القانوني أرسل المساحين إلى مصر لحصر أملاك الأراضي الزراعية التي باتت في ملكيته.
ففي كتابه "تاريخ الشعوب الإسلامية" يشير كارل بروكلمان إلى أن منظم الشئون المالية لمصر شمس الدين بن كمال باشا وجد أن "الموارد التي يمكن أن تعود على السلطان هزيلة إلى حد بعيد، ومع ذلك فقد تعاظم مقدار الجزية المستوفاة من مصر حتى في عهد سليمان تعاظمًا كبيرًا بعد أن استعادت البلاد حيويتها بسرعة وطفقت إمكانياتها الاقتصادية الكبرى تؤتى ثمراتها".
ولأن الثروة تمثل قيمة كبير للغزاة العثمانيين فإن بروكلمان أوضح في كتابه أن "البكوات ما لبثوا أن انتهوا بفضل ممتلكاتهم الغنية إلى غاية من النفوذ السياسي بعيدة حتى لقد اضطر حاكم مصر من قبل السلطان أن يقنع من السلطة بمجرد جمع الجزية".
بينما سجل قسطنطين بازيلي في كتابه "سوريا وفلسطين تحت الحكم العثماني" أن سليم على غرار كل أسلافه وأخلافه في المأثرة العظيمة لتأسيس الامبراطورية لم يحرص إلا على ألق فتوحاته المادي على المدى المفرط للسيف العثماني، ولم يفكر إلا قليلا في المأثرة المدنية التي ينبغي لها أن تعزز عمل السيف".
صراعات السلطة
في ظل حكومة مركزية بعيدة لا تسعى إلا لجمع الثروات انفرد مراد بك وإبراهيم بك بالبلاد، اقتسموا كل شيء فيما بينهما، وبات محمد باشا الوالي مجرد صورة، ونشب بين الأميرين صراع وقتال ثم توافق وانسجام مرة أخرى، ولما لم يذهب للسلطان عبدالحميد شيء من وراء وجودهما في مصر أرسل لهما حملة تأديبية فانهزموا وفروا إلى الصعيد وبيعت محتويات بيوتهما في مزاد علني.
في مصر تصارعت على السلطة ثلاث كيانات: الوالي، والمماليك، والفرق العسكرية العثمانية، ويوضح هذه الصراع أندرية ريمون في كتابه "المدن العربية الكبرى في العصر العثماني"، حيث يقول: "في القاهرة نصب العثمانيون أحد الباشوات ممثلا للباب العالي، يحكم بمساعدة فرق المليشيات، وأقوى هذه الفرق كانت الانكشارية، وترك العثمانيون الأرستقراطية المملوكية المحلية مستمرة في بقائها وقد تحصنت بقوة داخل الحكومة وفي استثمار الريف، وقد نمى في البلاد نظام ثلاثي يسعى أطرافه إلى السيطرة على السلطة وعلى المغانم التي تحققها".
الشكل والجوهر
عقب سيطرة العثمانيين على القاهرة وبعد هزيمة المماليك تقول المصادر التاريخية إن سليم الأول قبض على الخليفة العباسي المتوكل على الله محمد بن المستمسك بالله يعقوب، وهو آخر خلفاء الدول العباسية، كان يعيش في القاهرة، وأخذه معه إلى اسطنبول فأمر له بإقامة كريمة ورتب له مكانًا يليق به، وهناك تنازل المتوكل عن الخلافة لسليم وسلمه مفاتيح الأماكن المقدسة.
هذه القصص تتماشى مع ثقافة التبرير التي ينتهجها أتباع العثمانية الجدد؛ لتجميل وجه دولتهم القديمة، مثلها حادثة تحويل "آجيا صوفيا" إلى مسجد مبررين ذلك بشراء محمد الغازي لهذه الكنيسة من ماله، وهو ما يخالف المنطق والتاريخ.
على كل حال، فإن قصة تنازل المتوكل عن العرش وترتيب إقامة تليق به هناك في اسطنبول مجرد خيال، وذلك وفق بروكلمان الذي اعتبر هذه الواقعة أسطورة موضحًا أن سليم أعلن نفسه خليفة قبل تلك الفترة واستولى على مفاتيح المقدسات عنوة بعد هزيمة القوى المسيطرة في الشرق.
تجميل الشكل في الوقت الذي يكون الجوهر فيه سيئا سمة من سمات الدولة العثمانية، وهو ما يشير إليه مؤلف كتاب "التاريخ الإسلامي" آدم جيه سيلفرستاين بترجمة إيناس المغربي، من أن الدولة العثمانية نهبت ثروات البلاد العربية التي استولت عليها، ووفق كتابه فإن "السلاطين العثمانيين سارعوا بالاستفادة من مكاسبهم ليحققوا النفوذ والثروة والهيبة، فاستجلبوا الأموال والمكتبات والمحفوظات والعلماء إلى اسطنبول من المناطق التي فتحت مؤخرًا في مصر وسوريا وادَّعى السلاطين وراثتهم لسلطة الحكام الذين فتحت بلادهم ولأراضيهم".
بل سعت الدولة للسيطرة على بلاد أجنبية في حين أن عددًا كبيرًا جدا من المسلمين يتجاوز عدد نصف الرعايا العثمانيين خارج عن سيطرتها، ولا يعملون من شأنها، وتساءل سيلفرستاين عن فائدة خضوع ألبانيا أو كرواتيا إذا لم تكن تلك العزيمة مستخدمة في العمل من شأن المسلمين جميعًا!
ويقول مؤلف "التاريخ الإسلامي": "الحقيقة أنه حتى في ذروة مجد الامبراطورية العثمانية كان نصف الرعايا بالكاد من المسلمين وأقل من نصف مسلمي العالم عثمانيين وتوحيد الأمة على النحو الذي حققه الخلفاء الأوائل وإن كان سياسيًا فحسب كان يمكن أن تكون جدواه لحاكم مسلم أكبر من جدوى السيطرة السياسية على ألبانيا وكرواتيا، علاوة على ذلك فإن التطورات التي شكلت أهمية حقيقية للإسلام والمسلمين كانت تقع أيضا في أماكن أخرى أي في الأراضي الصفوية والمغولية".
نمو الوعي المصري
في مايو من العام 1523 قاد جانيم السيفي واينال وهما من حكام الأقاليم في مصر الوسطى أول تمرد مملوكي، إذ بدا الوقت مناسبًا للقيام بتمرد، بعد أن مات سليم وخاير بك، وكان مصطفى باشا حاكمًا ضعيفًا، وكان الأمراء المتمردون يريدون أن يستردوا سلطنتهم وأيدهم في ذلك الكثير من المماليك والعرب.
هذه أول محاولة للخلاص من الحكم العثماني وفق ما يقوله ميكل ونتر في كتابه عن تلك الحقبة التاريخية، وهي محاولة في غضون قرابة الست سنوات الأولى، ومنها يمتد تاريخ طويل من التنافر بين المصريين وبين العثمانيين، وتتخلله محاولات جادة ومضنية لاسترداد الاستقلال لكن الظروف لم تتح النجاح لأي محاولات منها حتى سقطت تلك البلاد العربية في يد المستعمر الأوربي.
أندرية ريمون في كتابه "المدن العربية الكبرى في العصر العثماني" يرى أن هذه الدولة فقدت الاعتبار خاصة تجاه حكمهم لدى الدول العربية لعدة أسباب منها التفكك والسقوط في يد المحتل الإنجليزي والفرنسي والإيطالي، فـ"العرب ترددوا كثيرا في أن يأخذوا على عاتقهم مسئولية عهد اتسم بسيطرة جنس أجنبي (تركي)، فكان العرب يشعرون بأنه عهد استعماري وانتهى الأمر باستبعاده من التاريخ القومي".
كان ريمون يتحدث عن صعوبات البحث في تاريخ المدن العربية، منوهًا بفقد الدولة العثمانية للاعتبار عند الدول العربية الحديثة التي أسقطت تلك الفترة من تاريخها القومي بوصفها "عهد استعماري".
أما ميكل ونتر فيرى أن السيطرة العثمانية أوجدت ببعض الطرق العميقة وبلا وعي ما يعرف بـ"الكيان المصري".
يتطرق ونتر إلى طريقة المصريين في مقاومة العثمانيين، حيث كانت تلك الأوقات عصور سابقة على العصور الحديثة، فعبروا عن مقتهم لسوء الحكم العثماني عن طريق الدين، وحمل شيوخ الأزهر، وبصفة خاصة من تولوا منصب مشيخة الأزهر، حملوا على عاتقهم الوقوف في وجه الظلم، بجوارهم الصفوة الدينية والقادة الشعبيين: علماء ومتصوفة وأشراف. موضحًا أنه "في القرن الثامن عشر أصبحت الصفوة العسكرية والمدنية في مصر أكثر تفتحًا واستقلالية في التفكير من العثمانيين، وصار الأمراء المماليك والقضاة أكثر مصرية وعروبة بالتدريج لكنه نادرًا ما ظهرت الهوية العثمانية أو التركية وجها لوجه قبل القرن التاسع عشر لكنها كانت كامنة بالفعل قبل الحملة الفرنسية وحكم محمد علي".