ليست المرة الأولى التى أجلس إلى مكتبى وأمسك قلمى بيدى، وتدور الكلمات فى
خاطرى، وأصاب برعب من منظر الورق الأبيض الذى أمامى. فما أكتبه الآن يختلف عن أية
كتابة أخرى سبق أن كتبتها. الارتجاف الذى أشعر به ينتقل من قلبى، يزلزل كيانى،
ويصل حتى إلى سِنْ القلم الذى أمسكه بيمينى.
أمى هى المرحومة مبروكة إسماعيل حسانين حمادة، ولدت 14/10/1920، وانتقلت
إلى جوار ربها فى 16/12/2006، أى منذ أربعة عشر عاماً بالتمام والكمال. أما أبى فقد
ولد فى 1/11/1916، وتوفى 28/10/1995، أى منذ ربع قرن من الزمان. يفصل بين رحيله عن
الدنيا ورحيل أمى 11 سنة.
أحاول الآن أن أكتب عن أمى فقط. وليتهم استجابوا لكثير من الطلبات. وكنت
أنا واحدا من الذين طالبوا بأن يصبح عيد الأم عيداً للأسرة، ولكن تم الإبقاء عليه
لكى يكون عيداً للأم. وقبل أن أدلف للجَنَّة أو الواحة التى تمثلها أمى، أذكر فقط
أن العبارة الأولى فى روايتى: أربع وعشرين ساعة فقط. وهى عن يوم الزلزال الذى ضرب
مصر فى أوائل تسعينيات القرن الماضى. بطلة الرواية "أم". وهى أيضاً التى
تروى أحداثها بضمير المتكلم. وقد نشرت أول ما نُشرت فى روايات الهلال. كانت هذه
العبارة الأولى تقول:
- لأن الله
سبحانه وتعالى أراد أن تصل رحمته إلى عباده أجمعين، خلق الأمهات.
كانت أمى أُميَّة، لم تقرأ ولم تكتب. أى أنها لم تقرأ حرفاً واحداً مما
كتبته فى حياتها، وهو كثير جداً. لكنها كانت تشعر به، يصلها عبر وسائل غير القراءة
والكتابة. إنه قلب الأم. وإحساس الأم، ومشاعر الأم تجاه ابنها. رغم أننى لست ابناً
وحيداً. لكنى أكبر أشقائى. ومن أنجبته قبلى توفاه الله بعد طفولته مباشرة. لذلك
كانت تنظر إلىَّ على أننى رفيق دربها وصديق عمرها، أكثر من كونى ابنها.
هى أول من اشترت لى الصحف عندما كنت صبياً على أبواب مرحلة الشباب. وكانت
تجلس بجوارى على رأس حارتنا لكى تسمعنى وأنا أقرأ. كنت أرى على وجهها سحابة فرح.
وتباشير سعادة وهى تتأمل ما أقرؤه من كلمات. وقبل أن أترك القرية - فى رحلتى التى
لم أعد منها حتى الآن - إلى المدن. مدينة تسلمنى لمدينة. مع أننى مؤمن بلا حدود
بالتعبير الذى كتبته ذات يوم، ولا أستطيع نسيانه ولا الهروب منه. فالقرى خلقها
الله، والمدن بناها البشر.
ما إن حُوِّلَتْ أول رواياتى: "أخبار عزبة المنيسى"، إلى مسلسل
إذاعى، ثم حولت رواية: "البيات الشتوى" إلى مسلسل تليفزيونى، ثم تحولت
روايتاي: "يحدث فى مصر الآن، والحرب فى بر مصر" إلى فيلمين سينمائيين
تحت عنوانين جديدين -رغم أنفى- الأولى أصبح عنوان فيلمها: "زيارة السيد
الرئيس"، والثانية أصبح عنوان الفيلم المأخوذ عنها: "المواطن مصرى".
عرضهما التليفزيون المصرى، حتى حدث التواصل الذى كنت أبحث عنه وأحلم به وأرجوه.
سمعت وشاهدت ما كتبته لم يصلها على شكل كلمات مكتوبة. لكنه وصلها عبر وسائط لا
تتطلب القراءة ولا الكتابة.
أشعر بالعجز والتقصير تجاهها. لماذا لم أحاول أن أعلمها القراءة والكتابة.
أو أن أشجعها على ذلك؟ هل بسبب نضج عقلها؟ وكون عمليات التفكير تتم فيه بطريقة
توشك أن تقترب من المثال؟ هل تم هذا بسبب تركى المبكر لقريتى وبداية السباحة فى
أنهار ثم بحار الغربة؟ أم أن محو الأمية فى ذلك الزمان البعيد، لم يكن متاحاً
بسهولة ويسر يمكن التوصل إليه دون متاعب؟ وربما لم يكن قد وصل إلى أبواب القرية
المصرية.
والدى كان يقرأ ويكتب. وشعرت بالعجز الشديد تجاهه، لأن خطه كان شديد الجمال.
كأنه يرسم ولا يمكن القول إنه يكتب. وكان يحتفظ بِنُوتة صغيرة. يُدوِّن فيها أرقام
تجارته. فوالدى رغم أننا كنا فى قرية، لم يكن فلاحاً بالمعنى التقليدى. الذى
جسَّده لنا عبد الهادى، فى فيلم: الأرض، المأخوذ عن رواية عبد الرحمن الشرقاوى
الجميلة. ولكنه كان تاجراً باع ما كان يزرعه فى الأرض المستأجرة فى أسواق الحضرة فى
الإسكندرية. ومع تقدم العمر أصبح يستأجر أرضاً من الحاج عبد القوى أحمد سمك،
ليزرعها. ويسافر بالمحصول إلى الإسكندرية ليبيعه. وحكاية الحاج عبد القوى تفرض
علىَّ أن أجلس ذات يوم لأكتبها. ولكن الكتابة بقدر ما تُسعد من يقرءون. بقدر ما قد
تُغضب الذين يمكن أن أقترب منهم بقلمى. أقول لنفسى: حذار.
أعترف أننى مع أمى لم أشعر لحظة واحدة بأنها أُميَّة. كانت لها نظرة عميقة
للدنيا، وكانت تختار تعبيرات كنت أحاول أن أحفظها بينى وبين نفسى، وكانت تنفذ إلى
ما وراء السطوح والأشياء. تحاول أن تصل إلى العمق، تفعل هذا بعفوية شديدة وبدون أن
تستخدم الكلمات الكبيرة التى لم أجد سواها عندما تركت قريتى، وأصبحت وراء ظهرى
وجئت إلى المدينة، وأصبحت أتعامل مع نخبة المجتمع المصرى.
بدأت غربتى الأولى طلباً للعلم، وغربتى الثانية عندما جُندت فى جيشنا 9
سنوات منذ 1965، حتى 1974، لكنى عندما كنت أحصل على أية إجازة كنت أجرى على محطة
مصر، محطة قطارات القاهرة لكى أسافر لقريتى. طوال طريق السفر أتخيل أمى وكيف
ستستقبلنى؟ وطوال رحلة العودة -ولم تكن المواصلات سريعة وسهلة كما هى الآن- كنت
أحاول أن يلوِّح لها قلبى تلويحة الوداع. كانت كلمة الوداع تخيفنى، فكنت أهمس
لنفسى حتى الملتقى، وأستحضر المثل الشعبى الذى يقول: مسير الحى يتلاقى.
كانت تنتمى لعائلة كبيرة فى الضهرية، ربما لها امتدادات فى قرى أخرى "عائلة
حمادة"، كنا نقول عنهم "الحَمَادَاتْ"، وإن كانت أمى قد جاءت
للدنيا وعاشت عمرها كله وحيدة، لكنها اعتبرت أن أولاد أعمامها إخوتها، وكل من كان
يكبرها سناً كانت تناديه بكلمة: يا أخويا. وعندما كنت أسمعها تقولها أشعر بحنان
الدنيا كلها وهى تنطق بها.
عندما كانت تُسَلِّمْ على الغرباء، كانت تأخذ طرحتها لتلف بها يدها -كطقس
اجتماعى- وإن كانت تتصور أنها حرمانية، والسلام على الغريب قد ينقض الوضوء. إنها
جزء من مجتمع لم يبق منه شىء الآن سوى هذه الذكريات التى لا يسعدنى شىء فى الدنيا
سوى أن أعيشها لحظة بلحظة، وكأنها تجرى الآن.
إنها ليست ذكريات بالمعنى التقليدى للذكرى، بل إنها الزاد والزواد الذى
يساعدنى على أن أواصل الحياة فيما بقى لى من العمر.