رغم أن تصريحات الرئيس الأمريكي ترامب حول
السد الإثيوبي تعرضت لتفسيرات شتى مختلفة، خاصة أنه فاجأ بها العالم فى مناسبة الإعلان
عن تطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل خلال مكالمة تليفونية مشتركة له مع رئيسي وزراء
البلدين، إلا أن ما جاء فى هذه التصريحات التى أثارت اهتماما عالميا وأغضبت إثيوبيا
بشدة، تؤكد أن مصر أحرزت الكثير من التقدم فى معركتها الدبلوماسية لحماية حقوقها فى
مياه نهر النيل، فهي نجحت فى إقناع المجتمع الدولي فى أنها لا تستطيع التفريط فى هذه
الحقوق لأنها مصدر لحياة شعبها، وليست مجرد وسيلة لتحقيق تنمية اقتصادية كما هو الحال
بالنسبة لإثيوبيا، والفارق كبير وشاسع بين الحق فى الحياة والحق فى التنمية..
وقد عبر عن ذلك ترامب بصراحة ووضوح وبدون
عبارات دبلوماسية حينما قال إنه لا يمكن لوم مصر على قلقها من المراوغات الإثيوبية
التي عطلت التوصل إلى اتفاق حول قواعد تشغيل وملء السد، وهو الاتفاق الذى كان جاهزا
واستعدت واشنطن لتوقيعه فى الربيع الماضي، وأن هذه المراوغات إذا استمرت قد تدفع مصر
إلى سلوك طريق آخر غير الطريق الدبلوماسي لحماية حقوقها المصيرية فى مياه نهر النيل
التي تراوغ إثيوبيا حتى لا تلتزم باتفاق يقلل أضرار سدها بهذه الحقوق المصرية التاريخية
والتي يقرها القانون الدولي، غير أن مصر أعلنت بوضوح وجلاء على لسان الرئيس السيسي
شخصيا أنها ستخوض معركتها الدبلوماسية حتى نهاية المطاف من أجل حماية وصيانة حقوقها
فى مياه نهر النيل التي تريد إثيوبيا أن تتحكم فيها بدعاوى باطلة تخرق بها القانون
الدولي وتعرض العلاقات مع مصر والسودان للخطر والتأزم وتثير أزمة فى منطقتنا تهدد الأمن
والسلم الدوليين كما قالت مصر ذلك فى رسالتها إلى مجلس الأمن وهى تحيل مشكلة السد الإثيوبي
لينظر العالم فيها بعد أن أوصلت المماطلات الإثيوبية المفاوضات الثلاثية إلى طريق مسدود،
وهو ما دفع الاتحاد الإفريقي الذى يرأس دورته الحالية رئيس جنوب إفريقيا للتدخل لرعاية
المفاوضات لحل هذه المشكلة والتوصل إلى اتفاق ملزم قانونا لإثيوبيا بقواعد تشغيل وملء
السد، خاصة فى أوقات الجفاف.
ويضمن أيضا سلامة وأمن السد الذى يعتبر أولوية مهمة
بالنسبة للسودان الذى أقيم السد الإثيوبي بالقرب من حدوده وسوف يتعرض لأخطار غرق أراضيه
إذا ما هدد شيء سلامة بناء هذا السد, وبغض النظر عن التفسيرات المختلفة، سواء المرحبة
أو المتشككة فى دوافع الرئيس الأمريكي للإدلاء بهذه التصريحات، فإنها تأتى لتمثل مزيدا
من الضغط على إثيوبيا لكى تتخلى عن مراوغاتها وتعنتها وتمضى فى المفاوضات الثلاثية
مع مصر والسودان للتوصل إلى اتفاق خاص بقواعد تشغيل وملء السد، اتفاق ملزم يتضمن آليات
محاسبة مخالفة هذه القواعد أو الخلاف على تطبيقها، كما تصر مصر على ذلك وتبنى الاتحاد
الإفريقي وقبلها أمريكا وجهة نظرها .. وربما يفسر ذلك مطالبة ترامب رئيس الوزراء السوداني
أن يبذل جهدا لدفع وحث إثيوبيا على ذلك، وإعلانه أيضا أن إثيوبيا لن تتحصل على دولار
واحد من المساعدات الاقتصادية الأمريكية التى تم تجميدها إلا إذا تم حل مشكلة السد
وتم التوصل إلى الاتفاق مع مصر والسودان بخصوص سدها.
وقد شعرت إثيوبيا بحجم الضغط الأمريكي هذا ولذلك
سارع رئيس وزرائها بإصدار بيان يعلن فيه أن بلاده ستمضى فى بناء السد ولن تثنيها أية
تهديدات خارجية، وكأن الأمر يتعلق ببناء السد أو استكماله وليس قواعد تشغيله وملء بحيرته
حتى لا يقع ضرر جسيم بكل من مصر والسودان اللتان تشاركان إثيوبيا فى النيل الأزرق وبذلك
صار نهرا دوليا، وليس إثيوبيا كما تبغى إثيوبيا بالتحكم فى مياهه التى تتدفق من هيبتها
إلى كل من مصر والسودان .. وهذا الضغط الأمريكي الجديد على إثيوبيا سوف يكون له تأثيره
بالقطع عليها حتى إن ادعى مسؤولوها غير ذلك، فهم لا يقدرون أن الصدام قد بتزايد مع
أمريكا.
ويمكن استنتاج ذلك من صياغة بيان آبى أحمد رئيس الوزراء
الإثيوبي ردا على تصريحات ترامب بخصوص السد، فهو حرص على أن ياتى كلامه عاما ولا يتوجه
به إلى الرئيس الأمريكي شخصيا صاحب التصريحات التي كان يرد عليها، فهو أراد أن يبدو
أمام الإثيوبيين أنه يتخذ موقفا متشددا يساعده فى الصراع السياسي الداخلي الذى نشب
فى بلاده، دون أن يزيد من غضب الرئيس الأمريكي، انتظارا كما تفعل دول عديدة مثل إيران
والصين وروسيا ودوّل الخليج وكوريا الشمالية لنتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية
التي بدأ التصويت فيها فعلا وبلغ عدد الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم حتى كتابة هذه
السطور أكثر من عشرين في المائة من الناخبين الأمريكيين, لذلك فإننا نتوقع تحركا جديدا
فى نطاق المعركة الدبلوماسية حول السد الإثيوبي، التي اختارت مصر التي لا تعرف المغامرات
العسكرية وتتفهم أن النيل الذى ربط بيننا وبين الدول التي يمر بها، خاصة إثيوبيا والسودان،
آلاف السنين سوف يبقى كما هو يحث الجميع على التعاون وليس الشقاق والصراع مادام الجميع
يحترم حقوق الآخرين.
والأغلب أن هذا التحرك الجديد سوف يأتي في إطار استكمال
جهد الاتحاد الإفريقي الذى توقف مؤخرا انتظارا لموقف رئاسته لحلحلة هذه المفاوضات التي
راعته للتوصل إلى اتفاق ملزم لتشغيل وملء السد الإثيوبي، وهو الجهد الذى تشارك فيه
أمريكا والبنك الدولي كمراقبين.