الإثنين 20 مايو 2024

الاحتلال العثماني للسودان... تجريف الثقافة والدين والوجدان

فن1-11-2020 | 20:31

كان عام 1821 مفصليِّاً في تحديد مصير السودان وهُويته الثقافية الراهنة، فلولا احتلاله من قبل العثمانيين، لكان تطور في مسار أو مسارات أخرى. 

 قبل الغزو العثماني (محمد علي باشا)، وابنه (إسماعيل) كان السودان ممالك وسلطنات متعددة ومختلفة تتعامل مع بعضها وفقاً لمبدأ المصالح المشتركة، وتغزو بعضها إذا ما حدثت خلافات جوهرية، لكن قيم الأمن والسلام والتعايش كانت السائدة، وكان الانصهار بين مختلف المجموعات الإثنية يحدث بطريقة سلسلة وناعمة لا على شفير السيوف ودفقات الدماء.

ومع مرور قرون من التغلغل والانصهار الناعم بين المجموعات  تبلورت ولأول مرة في تاريخ الجغرافيا الواقعة جنوب مصر، مملكة أكثر اتساعاً وقوة وهيمنة ونفوذاً في العصور الحديثة، فقد ضمت سلطنة الفونج وعاصمتها سنار (شرق السودان) أجزاء واسعة من السودان الحالي، ولعل تمكنها من بسط نفوذها على هذه المساحات الشاسعة نتج عن اتخاذها صيغة التحالف والشراكة في تأسيس الدولة التي انطلقت عام 1504 بتحالف بين قوميتي الفونج والعبدلاب، ثم لاحقاً انضمت إليهما في كونفدرالية عظيمة الكثير من القوميات والأعراق والطرق الصوفية ورجال الدين.  

وهكذا، استمرت سلطنة الفونج أو السلطنة الزرقاء (بمعنى سوداء)، في الحكم لأكثر من 300 عام، إلى أن دخلت الجيوش العثمانية غازية البلاد السنارية (السودان) في عام 1821، من أجل الذهب والرقيق (العبيد)، لكنها لم تتوقف عند ذلك بل عمدت إلى أسلمة وتعريب مجموعات عرقية بأكملها بجانب مجموعة (العبيد) التي كانت ترسل إلى مصر وإسطنبول والحجاز، ولا حقاً تم وضع أنساب عربية لها ومُكِّنتْ من حكم السودان.   

بطبيعة الحال، كانت هنالك أسواقٌ للرقيق في عهد السلطنة الزرقاء، إلاّ أنها ازدهرت وتضاعفت في العهد العثماني الذي ابتدر تنظيم حملات وغزوات إلى الجنوب والغرب الأقصى من البلاد، لا يزال السودان يعاني آثارها النفسية في السياسة والاقتصاد والعلاقات المجتمعية والسلم الأهلي. 


لولا الدولة العثمانية: 

بجانب ذلك، شهد السودان تسامحاً دينياً لا نظير له في المنطقة منذ ما قبل الميلاد وإلى المسيحية واليهودية ثم الإسلام، فقط كانت الأسرة الواحدة تضم وثنيين ويهودا ومسيحيين ومسلمين، ولم يكن الدين – كما في إفريقيا كلها – إلاّ توجهاً فردياً يخص الشخص بمفرده دون أن يتعداه لغيره، وهكذا ظلت المسألة الدينية تمضي بتسامح في حقبة السلطنة الزرقاء التي كان حكامها وطبقاتها العليا من التجار والمحاربين مسلمين، وقد ورد ذلك تفصيلاً في كتاب "الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان" لمحمد النور ضيف الله، وهو الكاتب السوداني الوحيد الذي أرّخ للتعايش الديني في حقبة الفونج؛ إلاّ أن دخول المؤسسة الدينية الرسمية العثمانية إلى الساحة السودانية، أحدث انقلاباً عقلياً ووجدانياً، عندما أصبح للدين مؤسسة حكومية، رسمية، مهمتها أن تكون ذراعًا تستخدمه السلطة في السودان، لتكريس الاستبداد الفكري والديني، والسياسي". بحسب عبارة النور حمد في كتابه "مهارب المبدعين".

الفقهاء الثلاثة والإسلام السوداني الجديد:

فعندما اجتاحت القوات التركية السودان ونجحت في قهر جميع أشكال المقاومة القبلية بسبب تفوقها التقني بمعايير ذلك الوقت، وبعد اكتمال دمج السودان الدولة العثمانية، عمدت الإدارة الجديدة إلى استجلاب ثلاثة فقهاء (شافعي، وحنفي، ومالكي) ليدشنوا بهم المؤسسة الدينية الرسمية التابعة للسلطة السياسية، والتي لم يكن السودان يعرفها من قبل، فقد كان الفقهاء وعلماء الدين في الدولة السنارية مستغلين تماماً عن السلطة، لذلك لم يكن هنالك إسلامٌ سياسيٌ. 

 صيغة التدين الجديدة، التي تم فرضها بقوة السلطة ونفاذها في الربع الأول من القرن التاسع عشر، أثرت لاحقاً في مجمل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في السودان ولا تزال تؤثر، فالإسلام السياسي لم يكن ليكون له أثرٌ في البلاد لولا (الفقهاء الثلاثة) الذين تم جلبهم مع الاحتلال التركي كنواة لهذه المؤسسة الدينية الجديدة، التي عملت كداعم للاستبداد والأحادية الثقافية والدينية ومركزية الحكم.

التدين بوصفهِ سلوكاً وتربية:

وبحسب النور حمد ( باحث سوداني) فإنّ قلة من السودانيين تكاد لا تذكر كانت تهتم بالدين في العهود التي سبقت الحكم العثماني التركي وكانوا ملتفين حول بقاع التصوف، أما بوادي السودان المحيطة بمجرى النيل فقد بقيت صلتها بالدين، ضعيفة جدًا. وتاريخ سلطنة سنار يحكي عن ذلك أفضل حكاية، بعبارةٍ أخرى، لم يكن الفقه سوى أرضية استخدمها المتصوفة لتعريف الناس بالعبادة الصحيحة، في هيئتها المظهرية، أما تركيزهم الأساسي فقد كان منصبًا على التربية، والترشيد، وتعليم أصول الأخلاق والسلوك.

وكانت الصوفية السودانية – قبل الاحتلال العثماني – تركز على التربية والتهذيب، أكثر مما تهتم بقواعد الفقه والفتاوى واستظهار المتون وحفظها، وقد أشار الكثير من الكتاب والمؤرخين السودانيين - بينهم محمد إبراهيم أبو سليم والنور حمد، إلى ذلك في كتبهما ومقالاتهما، ومما ذُكِرَ في هذا السياق أن الشيخ حمد الترابي (متصوف سناري)، كان الوحيد الذي بدأ حياته الدينية بتدريس مختصر خليل في تلك الحقبة، لكنه حين شرع في التصوف والروحانيات، رمى بمختصر خليل جانبًا، وقال: "تركناك يا خليل ومسكنا درب الجليل". 

العثمانيون والإسلام السياسي في السودان:

ما من تجريف ديني وثقافي حدث في المجتمع السوداني وتسبب في معاناة ضاربة الجذور وممتدة إلى الوقت الراهن، كذاك الذي حدث في الحقبة التركية - العثمانية، فقد كّرس العثمانيون الإسلام السياسي في السودان بامتياز، وعمدوا إلى قمع المؤسسة الدينية الصوفية التقليدية وتكفيرها، وحصروا الدين في المؤسسات الرسمية التابعة للدولة (الشؤون الدينية ودار الفتوى)، لكن كل هذه التدابير لم تمنع اندلاع الثورة ضدهم بقيادة محمد أحمد المهدي (المتصوف)، وأتباعه مما عرفوا في أدبيات ذلك العهد بـ"الدراويش"؛ وهذا المصطلح وحده دليلٌ كافٍ على أن ثورة المهدي كانت ثورة متصوفين ضد إسلام رسمي (سياسي)، قبل أن تنحرف عن مسارها لاحقاً وتقع في ذات الأخطاء. 

 لم يعرف السودانيون قبل الحكم التركي، مؤسسات دينية رسمية، فقد كانوا يمارسون شعائرهم عبر تشكيل طرق صوفية وأخويات، فقد دخلت الطريقة القادرية في وقت مبكر من القرن السادس عشر إلى البلاد، وتبعتها الكثير من الطرق الأخرى، ولعل الطريقة الختمية أو (الميرغنية)  التي أسسها محمد عثمان الميرغني في أوائل القرن التاسع عشر كانت ولا تزال الأقوى والأكثر تنظيماً وتأثيراً ثقافياً ودينياً وسياسياً. 

بطبيعة الحال، فقد مارس الاحتلال العثماني تضييقاً على التصوف، وشن حرباً شعواء عليه، باعتباره حاضنة للقوة الاجتماعية الناقدة لتجاوزات الحكام وفسادهم، بحسب تعبير المفكر النور حمد؛ فدأبت الطرق الصوفية على تذكير مريديها وأتباعها بما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وكبار الصحابة من زهد واستقامة وتوخٍ للعدل والإنصاف، وهذا ما كان يتناقض مع الاستبداد العثماني تناقضاً تاماً. 

وهكذا، كان لا بُدَّ من التخلص من الطرق الصوفية واستبدالها بالفقه المدرسي الذي كرّس لاحقاً للإسلام السياسي، وجماعات الهوس الديني، فغيّر من البنية الثقافية والاجتماعية وشوه الوجدان السوداني تمهيداً لوضع البلاد كلها في مسار قهري جعل السودان تابعاً أو مستتبعاً لسياقٍ آخر؛ غير الذي "اِنوجد" فيه أصلاً، وتم قطع صلته واتصاله بحضاراته القديمة في نبتة، أو مروى، أو سوبا، وإلحاقه قهراً بحضارات أخرى لم ينشأ ويتبلور فيها لا وجدانياً ولا فكرياً ولا ثقافياً، وبالتالي صار  بسبب ذلك الطغيان التركي - العثماني، كالمنبّت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. 

حافة الهاوية:

لا يزال السودانيون يعانون التكريس العثماني للإسلام الرسمي بديلاً للصوفية، فقد أنتج هذا الإسلام الجديد القادم مع الاستعمار؛ بالنسبة للسودانيين نظاماً دينياً غير متسق مع وجدانهم مخاصماً لأساليب عيشتهم وعلاقاتهم الاجتماعية والأسرية، وبالتالي أحدث نوعاً من القطيعة الوجدانية القاسية بينهم وبين عاداتهم وتقاليدهم وأنظمتهم الاجتماعية، وصار كل هذا الإرث التليد محل سخرية وتندّر، بل ومحل حرب وتكفير من قبل (الإسلام التركي الجديد). 

وقد أفرزت المؤسسة العثمانية الدينية الرسمية، مفارز من (الأفندية) المستفيدين منها اقتصادياً واجتماعياً، هؤلاء أنفسهم هم من أسسوا لاحقاً جماعات الإسلام السياسي التي عانى منها السودانيون أشد المعاناة، وآخرها جماعة الإخوان الإرهابية التي حكمت البلاد فأوصلتها حافة الهاوية.