الأربعاء 26 يونيو 2024

القائد إبراهيم والدولة العثمانية

فن1-11-2020 | 20:53

«أستطيع أن أصل إلى الأستانة ومعي محمد رشيد باشا، وأستطيع خلع السلطان حالًا ومن دون صعوبة، لكني مضطر أن أعرف هل تسمح لي بتنفيذ هذه الخطة حتى أتذرَّع باتخاذ الوسائل اللازمة»


هذه هي نص الرسالة التي أرسلها إبراهيم باشا إلى محمد علي باشا حينما قارب على دخول الأستانة لم يكن يفصل بينه وبين مقر حكم الدولة العثمانية سوى خمسمائة فرسخ، وبعدما حقق انتصارات عظيمة على الدولة العثمانية في حمص وقونية وبيلان وكبد الدولة العثمانية أكثر من 30 ألف قتيل و60 ألف أسير بالإضافة لمئات الغنائم العسكرية من بنادق وسفن ومدافع، وغيرها من الخسائر الفادحة التي كادت أن تعجل بفناء الدولة العثمانية.

تبدأ قصة إبراهيم باشا مع الدولة العثمانية حينما قرر الباشا محمد علي ترك ابنه الفاتح إبراهيم رهينة أو كضمان لدى الباب العالي حتى يستطيع دفع الضرائب التي فرضتها الدولة العثمانية على مصر، وربما هنا بدأت مشاعر الكراهية لدى إبراهيم باشا تتكون، هذا بغير أن الدولة العثمانية لم تكن أيضا تريد محمد علي نفسه على سُدة الحكم المصري، حيث استطاع الشعب المصري وقتها أن يفرض جلوس محمد علي على كرسي الولاية، كما أن الدولة العثمانية لم تكن ترضى عن طموحات إبراهيم باشا ونزعته القومية التي تجلت في إحدى رسائله إلى أبيه، وذلك بعد فك حصار عكا، واليكم نص الرسالة:

«ومهما بعثوا من القواد العظام والجيوش الجرارة فلا يُعقل أن يرسلوا أو يستحصلوا على أقوى وأشجع من عبدكم المخلص إبراهيم، ومهما بحثوا فلا يمكنهم أن يعثروا على مثل جنود العرب الذين أقودهم أنا» 

وهنا يجب علينا أن تتبع قصة الخلاف بين محمد علي والدولة العثمانية من بداياتها، ولعل البداية كانت؛ حينما طلب السلطان العثماني من محمد علي باشا أن يخوض معارك شرسة في شبه الجزيرة العربية للقضاء على الحركة الوهابية، التي انتزعت من السلطان العثماني حق الإشراف على الحرمين الشريفين، وخلال هذه المرحلة خاض محمد علي 30 معركة مع الوهابيين،  وانتهت بسحق إبراهيم باشا الوهابيين في أربع معارك، وتسليم حاكم الدرعية إلى السلطان العثماني ليتم إعدامه، كما أرسل محمد علي باشا ابنه إسماعيل كامل باشا لتسليم مفاتيح الكعبة الشريفة التي حُرمت الدولة العثمانية من الإشراف عليها.

في بادئ الأمر لم يكن ممكنا أن يخرج محمد علي باشا من تحت مظلة الدولة العثمانية آنئذ ولكنه أقدم على تدعيم شخصيته وجعل مصر ذات طابع خاص، فقام  بإنشاء أول نواة للجيش المصري بأسوان، والجدير بالذكر أن هذا الشهر يتوافق مع العيد المائتين لتأسيس الجيش المصري الحديث، حيث بدأت النواة الأولى بأسوان سنة 1820م تحت قيادة الضابط سييف (سليمان باشا الفرنساوي) حينما أرسل محمد علي خمسمائة من مماليكه للتدريب على يدييه فتخرجوا ضباطا، هذا بجانب مدرسة أخرى في فرشوط الذي كان كبير مدربيها الجاويش التركي الهارب من إسطبنول إبراهيم أغا، والذي درب أيضا خمسمائة ضابط. 

وهذه رسالة من محمد علي إلى نواة جيشه بأسوان ..

«إليكم يا مفاخر الأماثل والأقران بكباشية جنودنا الجاهدية المقيمين في أسوان وضباطهم من رتبة الصاغ قول أغاسي واليوزباشي والملازمين وحاملي الأعلام والضباط الآخرين: نبلغكم أن سلك الجهادية الشريف هو أعز المسالك وأكرمها من الوجهتين الدينية والشعبية، وأن الشؤون الحربية هي أهم الشؤون والمصالح بالنسبة للحكومة والوطن، وقد أثنى الله - سبحانه وتعالى - أحسن الثناء على من سلكوا هذا المسلك القويم، لقد واتاكم السعد ونالكم الحظ الأوفر وأمدكم التوفيق الأزلي، فجاء كل منكم وأصبح مظهرًا للعطف والعناية، ومصدرًا للشرف والسعادةكل على قدرها، وتراعوا حقوقها، لهذا التقدير وهذه المراعاة لا يكونان مرة أخرى إلا إذا تركتم عاداتكم التي كنتم مطبوعين عليها ونبذتموها ظهريًّا، وتشبثتم بقواعد المسلك الجديد والحمد لله، فكل منكم محترم الجانب مرعي الخاطر، وكل قوانينكم ونظمكم موافقة، فارجعوا إلى أنفسكم، واقرأوا ضمائركم واعملوا بمقتضى الرجولة، وليقُم كل منكم ببذل همته في أمور تعليم وتدريب الموجودين في أورطتكم، ولا يهملن في ذلك، وليسعَ إلى أن يكون كل شيء منظمًا أحسن نظام وفقًا لقوانينكم وقواعدكم المقررة، أما ناظركم محمد بك فهو رجلي الأمين الوفي، وهو ناظركم الرؤوف بكم كأنه أبوكم؛ فرضاؤه رضائي وإرادته إرادتي، فلا تخرجوا عن رأيه ولا تنحرفوا عن طاعته ولا تحيدوا عن إدارته بأي حال من الأحوال...»().

بدأت الدولة العثمانية هنا تشعر بالقلق من طموحات والي مصر، وبالتالي بدأت تطلب منه الكثير من الطلبات لإنهاكه وإنهاك جيشه، فقامت بالاستنجاد بمحمد علي، ولكن هذه المرة كانت في حروب الاستقلال اليونانية بجيشٍ مصري خالص، هدا الجيش المصري الخالص كان أول جيش يغزو أوروبا التي عجزت الدولة العثمانية عن مواجهتها بجيشها.

 تكالبت أوروبا على العثمانيين وجيش مصر في نهاية حروب الاستقلال التي حُسِمَت لصالح اليونان، أما الدولة العثمانية فأرادت تعويض محمد علي باشا فأعطته جزيرة كريت وهو ما رآه الباشا غير مُجزٍ لجهوده فطلب الشام سلميًا ليضمها إلى مصر؛ لكن السلطان العثماني رفض مطلب الباشا فأعلنت مصر رسميًا الحرب على الدولة العثمانية التي دامت 10 سنوات بـ 6 معارك.

فجرد الباشا حملاته إلى بلاد الشام تحت قيادة الفاتح إبراهيم باشا وما لبث أن أسقط الشام وفك حصارها، فكان سقوط بلاد الشام في يد مصر كارثة سياسية بالنسبة للعثمانيين فقرر الباب العالي الدخول في موجة جديدة من الحروب ضد مصر بعدما رفضت الأستانة نصيحة أوروبا بعدم الدخول في مواجهة عسكرية مع محمد علي باشا ونجله إبراهيم باشا.

وفي المجمل فإن عدد حروب مصر ضد تركيا العثمانية وصل إلى 6 معارك من الشام حتى حدود الدولة العثمانية وتكبدت تركيا في المعارك الستة 30 ألف قتيل و60 ألف أسير بالإضافة لمئات الغنائم العسكرية من بنادق وسفن ومدافع، وتهديد علني لصولجان السلطان، وكلها تمت على يد إبراهيم باشا.

أحست الدولة العثمانية بضعفها الشديد مقابل الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا، فطلبت من أوربا التدخل لحل الأزمة، وتدخلت أوروبا لعقد معاهدة كوتاهية؛ بين مصر والعثمانيين واقتضت بتنازل الدولة العثمانية عن الشام والحجاز وكريت لمحمد علي باشا مع تثبيته على حكم مصر للأبد، في مقابل انسحاب إبراهيم باشا من بلاد الأناضول وعدم التوغل في الأراضي العثمانية، وكان إبراهيم يرفض العمل بمعاهدة كوتاهية لكن موافقة أبيه ألزمته حده فرضخ لبنود تلك المعاهدة، كما أن محمد علي لم يكن يرضى عن هذا الوضع وبدأ بجمع قناصل الدول الأوروبية في مايو 1838م وقال لهم:

{لا يمكنني أن أرضى بترك ما شيدته من المنافع والمرافق بمصر طول هذه السنين مما كلفني أموالاً طائلة في يد الباب العالي بعد موتي، وإن قلبي لينفطر كلما فكرت في أن ثمرة أتعابي ضائعة ومصيرها للفناء وأن أولادي وأسرتي ستصير بعد موتي تحت رحمة الباب العالي}

لكن قناصل ووزراء خارجية الدول الأوربية اعترضوا آنذاك على الأمر، وحذروا محمد علي باشا من الأمر وبدأ تحيزهم للعثمانيين، ثم خرقت الدولة العثمانية معاهدة كوتاهية وما لبثت الدولة العثمانية أن وجدت إبراهيم باشا فوق رءوسهم، ويسحقهم في نصبيين، وخسرت الدولة العثمانية فيها 12 ألف قتيل، غير أسر 15 ألف جندي، غير خسائر المعدات التي وصلت إلى أكثر من 20 ألف بندقية و144 مدفعا.

أحست الدول الأوروبية بخطورة مصر وجيشها، فقامت بعمل اتفاقية لندن 1840م؛ التي نصت على «أن يحول محمد علي وخلفاؤه حكم مصر الوراثي، ويكون له مدة حياته حكم المنطقة الجنوبية من سورية، المعروفة بولاية عكا (فلسطين)، بما فيها مدينة عكا ذاتها وقلعتها، بشرط أن يقبل ذلك في مدة لا تتجاوز عشرة أيام من تاريخ تبليغه هذا القرار، وأن يتبع قبوله بإخلاء جنوده جزيرة كريت وبلاد العرب وإقليم أدنه وسائر البلاد العثمانية عدا ولاية عكا، وأن يعيد إلى تركيا أسطولها، وإن لم يقبل هذا القرار في مدة عشرة أيام يُحرَم الحكم على ولاية عكا، ويُمهل عشرة أيام أخرى لقبول الحكم الوراثي لمصر وسحب جنوده من جميع البلاد العثمانية وإرجاع الأسطول العثماني، فإذا انقضت هذه المهلة من دون قبول تلك الشروط كان السلطان في حِلٍّ من حرمانه ولاية مصر.

وكانت هذه الضربة القصوى لجيش مصر، ومحمد علي الذي تحجم طموحه ودوره في المنطقة، وخاب أمل إبراهيم باشا الذي ظل كثيرا يعاتب أباه على عدم تركه مواصلة انتصاراته ضد العثمانيين. وتوفى إبراهيم باشا في 10 نوفمبر 1848م في حياة والده، ودُفن في مصر، وعلى تمثاله دوّن «سلامٌ على إبراهيم.. قاد جيشه من نصر إلى نصر».

وللتمثال قصة، حيث يوجد تمثال «إبراهيم» باشا في ميدان الأوبرا (إبراهيم سابقًا)، وهذا التمثال من صُنع الفنان الفرنسي «كوردييه»، وذلك بأمر من الخديو «إسماعيل» عام 1872م، أقيم هذا التمثال في ميدان العتبة الخضراء أولًا، لكنه نُقل بعد ذلك في مكانه الحالي، أحدثت إقامته أزمة بين مصر وتركيا، فقد حدث أن صنع «كوردييه» لوحتين لوضعهما على قاعة التمثال الرخامية، إحداهما تمثل معركة «نزيب»، والثانية تمثل معركة «عكا»، وكانت اللوحتان على وشك أن توضعا على جانبي قاعدة التمثال، لكن السلطات التركية تدخَّلت ورفضت اللوحتين لأنهما تمثلان هزيمتها أمام جيوش مصر، وأخذ «كوردييه» اللوحتين وسافر إلى فرنسا، وعرضهما في معرض باريس عام 1900م، وبعد انتهاء مدة العرض، أخذهما إلى بيته وحفظهما في استوديو صغير؛ حيث دفنهما التاريخ. يُذكر أنه حينما عزمت الحكومة المصرية على الاحتفال بمرور مائة سنة على وفاة «إبراهيم» باشا، وذلك عام 1948م، أرادت أن تضع اللوحتين في مكانهما، فاتصلت مصر بفرنسا، وبحثت عن اللوحتين عند حفيد «كوردييه»، وفي متاحف باريس الكبرى، فلم يعثروا لهما على أثر، وقيل إنه وُجدت صورتان فوتوغرافيتان لهما، ولكن بعد ذلك قام الفنانان المصريان أحمد عثمان ومنصور فرج بصنع لوحتين شبيهتين بلوحتي «كوردييه»، وهما الموجودتان حاليًّا على جانبي التمثال.

«فسلامٌ على إبراهيم.. قاد جيشه من نصر إلى نصر».