في يونيو من عام ٢٠١٤،
كانت درجة الحرارة في العراق تقترب من الخمسين، لكن درجة حرارة الأحداث والمعارك
المشتعلة بين القوات النظامية، وعناصر تنظيم “داعش” الإرهابي تجاوزت حدود الغليان،
في تلك الفترة كانت المعركة في الموصل وعليها قد تجاوزت كل الحدود، فالتنظيم
الإرهابي الأخطر، لا يسعى فقط من أجل ضربة هنا أو تفجير هناك، لكنه كان يسعى إلى
تحقيق ما راود أحلام كل التنظيمات الإرهابية التي سبقته، وهو إقامة الدولة، وكانت
السيطرة على الموصل واحدة من الخطوات الرئيسية على طريق تحقيق ذلك الحلم القديم.
وبحسب دراسة نشرتها إحدى الجامعات الأمريكية قبل
عامين، فقد نجح نحو ١٥٠٠ مقاتل من تنظيم داعش، في احتلال واحدة من أكبر محافظات
العراق، في معركة خاطفة لم تستغرق سوى أربعة أيام، لم تكن موازين القوة العسكرية
أو على الأرض في صالح التنظيم الإرهابي، ولم تتنزل الملائكة للقتال إلى جوار عناصر
“داعش” كما يحلو لبعض المأفونين خداع البسطاء والمضللين (بفتح اللام)، بل كانت
كلمة السر في ذلك الانتصار غير المتوقع للتنظيم الإرهابي هي أدوات "السوشيال ميديا"
التي حولها الداعشيون إلى سلاح
استراتيجي فقد حطمت "السوشيال ميديا الداعشية"
آنذاك قوة نظامية يبلغ عددها ٢٥
ألفاً من الجنود والضباط المدربين والمسلحين تسليحاً جيداً، ودفعتها إلى الانسحاب
والتخلي عن محافظة الموصل، بسكانها البالغ عددهم نحو مليوني نسمة، وترك عتادها
غنيمة للغزاة، الذين حصلوا على أنساق تسليح ضخمة، ساهمت لاحقا في ترسيخ وجود داعش
على أرض بلاد الرافدين لسنوات لاحقة.
سلاح تخريبي
إلى هذا الحد يمكن أن
تكون وسائل التواصل الاجتماعي سلاحا تخريبيا في يد من يستطيع استخدامه، لكن
المتأمل لتأثيرات تلك الوسائط يدرك أن استخداماتها لا حدود لها، وأنها باتت ذات
قدرة هائلة على تشكيل الوعي والوجدان، وبخاصة لأجيال من الشباب، الذين باتت تلك
الوسائط مصدرهم الأول للحصول على المعلومات، وتشكيل منظومة القيم التي توجه
سلوكياتهم، وتحدد إلى حد بعيد مساراتهم في الحياة.
كل الدراسات الإعلامية
الحديثة - في حدود إطلاعي- إضافة إلى
دراستي لنيل درجة الدكتوراة، تشير كلها إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي باتت
المصدر الأول للمعلومات لدى فئات واسعة من الجمهور، يتصدرها الشباب، الذين تحولوا
إلى أسرى حقيقيين في سجون “السرايا الزرقاء”.
ويثور هنا سؤال منطقي:
وما الضرر من أن تكون السوشيال ميديا المصدر الأول للمعلومات لدى قطاعات متنامية
من الجمهور؟، أليس ذلك تطورا للعصر، وكما احتل التليفزيون موقع الصحف والراديو في
ترتيب المصادر المعلوماتية الأكثر انتشارا لدى الجمهور، فقد آن الأوان ليتنازل التليفزيون
عن عرشه لصالح الوسيط القادم بقوة من عالم الإنترنت، متحررا من كل القيود التي
تكبل وسائل الإعلام التقليدية؟
والحقيقة أن السؤال
يحمل الكثير من حسن الظن، وكان يمكن أن يكون سؤالا بريئا، لولا تلك النتائج التي
تكشفت عنها الممارسة على أرض الواقع، والتي كشفت الدور الخفي لوسائط التواصل
الاجتماعي، والتي تجاوزت كل حدود دورها الإعلامي والاجتماعي، وباعتراف أباطرة تلك
الوسائط، فقد خرجت استخدامات تلك الوسائط عن هدفها الأول، ولنأخذ مثالا واحدا فقط،
وهو دور وسائل التواصل الاجتماعي في نشر وترويج الشائعات والأخبار الكاذبة، فبعد
ثبوت تورط تلك الوسائط في ترويج ملايين الشائعات والأخبار الزائفة حول العالم، لم
تجد الشركات التي تدير تلك المنصات سوى الاعتراف بذلك الدور المخزي لها في تضليل
العالم، والكثير من ذلك التضليل متعمد، ومحبوك لخدمة أهداف تتجاوز سلامة القصد، أو
عفوية الأداء.
أداة للتضليل
والكذب
اعترفت منصات التواصل
الاجتماعي بأنها تحولت إلى أداة للتضليل والكذب، وأعلنت أنها ستعمل جاهدة من أجل
التصدي للشائعات والأخبار الكاذبة على صفحاتها،
فعلى سبيل المثال بدأت شركة فيسبوك مطلع ٢٠١٨ عملية ”لتقصي الحقائق“ فيما يخص الصور ومقاطع الفيديو للحد من الأخبار الملفقة
والكاذبة التي انتشرت في أكبر شبكة للتواصل الاجتماعي في العالم.
ويواجه موقع “فيسبوك”
انتقادات حادة من مستخدمين يشتكون من أمور متعددة بدءا بانتشار أخبار كاذبة مرورا
باستخدام الشبكة للتأثير على الانتخابات، ونشر شائعات ومحتوى يضم أفكارا متشددة.
وبالمثل حاول “تويتر”
تجاوز الكثير من الفضائح التي تفجرت بسبب استخدامه كمنصة لترويج الأخبار الزائفة،
وتسخير الآلاف من حساباته المجهولة لنشر الكراهية والأفكار المتطرفة في العالم، من
خلال تنظيمات وجماعات إرهابية حول العالم،
حتى الدول الراسخة في
الديمقراطية مثل فرنسا وألمانيا، أدركت مؤخرا أن ترك حبل السوشيال ميديا على
الغارب لا يمت للحرية بصلة، بل هو تقويض لقيم الحرية والديمقراطية الحقيقية، فقدمت
وزيرة الثقافة الفرنسية في فبراير ٢٠١٧ خطة
لمكافحة رواج الأخبار الكاذبة والشائعات على الإنترنت،
وتضمن القانون تعديلات واسعة
النطاق للتشريعات الفرنسية التقليدية، حتى تتمكن من التعاطي مع متغيرات
التكنولوجيا الحديثة، وفي مارس من نفس العام وافقت الحكومة الألمانية على مقترحات
قوانين جديدة تجبر شبكات التواصل على المشاركة في محاربة خطاب الكراهية على
الإنترنت وإلا واجهت غرامات تصل إلى ٥٠ مليون يورو.
صناعة الإحباط
ورغم خطورة الأخبار
الزائفة، إلا أنها ليست الخطر الوحيد في الحروب غير التقليدية التي تمثل السوشيال
ميديا سلاحا جوهريا بها، فصناعة الإحباط، وفقدان الأمل لدى أجيال الشباب يعد واحدا
من أخطر البذور التي تزرعها وسائط السوشيال ميديا في نفوس مستخدميها، وهو ما
يدفعهم إلى الانعزال والتقوقع داخل جدران واقعهم الافتراضي، ومن ثم يصبحون صيدا
سهلا لعمليات الاستقطاب الديني والمذهبي والطائفي، فضلا عن الاستقطاب السياسي
والعنصري.
وكثير من قصص شباب وفتيات
في عمر الزهور، سقطوا في حبائل التنظيمات الإرهابية وجرى تجنيدهم عبر ساحات
التواصل الاجتماعي، تقدم دليلا دامغا على حجم الخطر الكامن وراء صفحات لا تخضع
لأية رقابة، ولا تلتزم بضوابط.
وإذا كان البعض يرى في
تلك المرونة الهائلة، والتنوع الكبير في محتوى وسائط التواصل الاجتماعي عنصرا رئيسيا
في شعبية وبريق تلك الوسائط، فإن تلك المرونة والحدود الغائمة لضوابط النشر، تتحول
إلى نصل ذي حدين تذبح به الحقيقة، وتُطعن المصداقية، لا سيما مع تنامي مفهوم
“صحافة المواطن” Citizen Journalism، الذي بات واحدا من أبرز
المصطلحات التي غزت أدبيات الإعلام سواء على مستوى الممارسة المهنية أو حتى على
مستوى التنظير العلمي، وهناك كثير من المبشرين بصعود هذا النمط الجديد من الصحافة
ليكون بديلا لوسائل الإعلام التقليدية التي اعتادها الجنس البشري عبر قرون ماضية،
إلا أن أولئك المبشرين هم أنفسهم من يتحدثون - ولو على استحياء- عن الأضرار
الجانبية للاعتماد على صحافة المواطن، فعدم وضوح هُوية من يقدم المعلومات، وعدم
التزامه بضوابط النشر، وأخلاقيات المهنة، تجعل الأمر أداة خطيرة في أيدي من يريدون
التلاعب بالعقول، وترويج الصور الذهنية التي تخدم مصالح معينة، كثير منها لا يبدو
عفويا أو حقيقيا.
قيم السطحية
و“التفاهة”
وللإنصاف، فإن صحافة
المواطن قدمت الكثير من الإنجازات، ولفتت الانتباه إلى نماذج كانت مهمشة وبعيدة عن
اهتمام وسائل الإعلام التقليدية، واستطاعت في كثير من الأحيان أن تفرض أجندتها على
وسائل الإعلام التقليدية، فبدا الأمر وكأن وسائل الإعلام تلهث وراء متابعة ما
تطرحه “السوشيال ميديا”، وهذا في حد ذاته تعبير عن مأزق مهني خطير تعانيه تلك
الوسائل، لكن في مقابل العديد من النماذج الإيجابية، طفحت وسائط التواصل الاجتماعي
بنماذج سلبية، إذا ما وضعناها على سلم القيم، ووزناها بميزان الأخلاق، ولا أتحدث
هنا فقط عن الكثير من النماذج التي استخدمت الأساليب المشروعة وغير المشروعة من
أجل الفوز بأكبر عدد من المتابعين، أو تصدر “التريند” فقط، لكنني أشير هنا إلى
منظومة متكاملة من نشر قيم السطحية و“التفاهة”، وكذلك تعزيز قيم المظهرية و”الشو”،
وتغيير معايير الحكم على الآخرين، من قيمة ما ينجزونه، وجودة ما يقدمونه، إلى
قدرتهم على “تسويق” أنفسهم وما يقدمونه، مهما كان رديئا أو خاليا من أي فائدة أو
مضمون.
وفي تقديري أن ذلك أحد
أخطر تداعيات أدوات السوشيال ميديا على العقل البشري، وعلى المجتمعات، وبخاصة على
تلك المجتمعات التي تشهد تحولات جذرية وسريعة في منظومتها القيمية، مثل المجتمعات
العربية خلال السنوات الماضية، فالأمر هنا لا يقتصر فقط على تصعيد النماذج
السلبية، أو ترويج محتوى فارغ من أي مضمون، لكن التأثير الأخطر إقصاء المبدعين
الحقيقيين، وأصحاب المواهب الجادة، ومن يمتلكون قدرات حقيقية لخدمة مجتمعاتهم
وتقديم شيء ذي قيمة، وربما لا يمتلك هؤلاء - وهم غالبا كذلك- تلك القدرات الفائقة
على التسويق، أو تقديم منتجهم بأدوات الترويج الإلكترونية، فيضيع ما يقدمون هباء
وسط ضجيج “السوشيال ميديا” وحمى صناعة “التريند”.
وبدلا من أن تتحول
الوسائط الإلكترونية من وسيلة لاكتشاف المهمشين ومنح فرص ظهور عادلة لمواهب حقيقية
لم تدخل في دائرة اهتمام وسائل الإعلام التقليدية، يتحول الأمر إلى وسيلة
للاستبعاد الاجتماعي، ودافع واضح لانعزال أصحاب المواهب الحقيقية، وهو ما يعني
حرمان المجتمعات من قوة الدفع الحقيقية التي تحتاجها من أجل بناء مجتمع المعرفة،
وصياغة مستقبل يعتمد على العمل الجاد، والتخطيط والبناء العلمي، لا وفقا لقاعدة
“البقاء للأتفه”!!
بناء محتوى مقابل
وبالتأكيد فإن أفكار
التقليل من دور السوشيال ميديا أو الهجوم المستمر عليها لن يحل المشكلة، بل
سيفاقمها، فهذه الوسائط نجحت فعليا في التغلغل إلى عقول قطاعات واسعة للغاية من
مجتمعاتنا، أغلبهم كما ذكرت من الشباب، ومن المتوقع أن تواصل التغلغل في عقول
المزيد من الأجيال الصاعدة، بالنظر إلى حجم اعتماد تلك الأجيال المتنامي على التكنولوجيا،
وبالتالي فإن المطلوب ليس الانفصال عن الواقع، أو إنكار الحقائق، بقدر ما هو مطلوب
الاشتباك الحقيقي، واستخدام نفس الأدوات التي تستخدم في الهدم من أجل البناء،
والاستفادة من نصيحة أبو نواس “دَعْ عَنْكَ لَوْمي فإنّ اللّوْمَ إغْرَاءُ...
ودَاوني بالّتي كانَتْ هيَ
الدّاءُ”.
المطلوب بناء محتوى
أكثر فائدة، وأكثر تعبيرا عن منظومة القيم التي يحتاجها المجتمع من أجل بناء
قدراته ومستقبله، وهذا دور بالغ الأهمية يقع على عاتق المؤسسات التعليمية
والثقافية ومؤسسات التنشئة الاجتماعية مجتمعة.
وهناك أيضا دور لا يقل
أهمية على وسائل الإعلامية التقليدية التي تحتاج إلى مواكبة العصر، واستخدام أدوات
الصحافة الجديدة بطريقة أكثر احترافية، وتقديم نموذج للجمع بين السرعة والدقة،
فضلا عن تقديم مراصد فعالة لمحتوى السوشيال ميديا، وتقديم محتوى مقابل بنفس
الأدوات، لكنه لا يخضع لنفس القيم، بل يسعى إلى تغييرها.