راودني
حلم تكوين مجلس الثقافة والتنوير بجامعة القاهر منذ سنوات، فكنت أحلم بعقل جمعي
يقود عملية التنوير ونشر العقلانية لا كأفكار معزولة في الكتب والمجلات ومنتديات
النخبة، بل كرؤية للعالم ونمط للحياة في المؤسسات والشارع والمنزل. وكان هذا الحلم
أحد أهم أركان رؤيتي لتطوير جامعتنا العملاقة التي تقدمت بها للمنافسة على رئاسة
الجامعة العريقة، رغبة في استعادة ما قامت عليه الجامعة في عقول الآباء المؤسسين،
وتوسيعه والدخول به إلى أفق جديد يتواكب مع روح العصر وتحديات اللحظة الراهنة. فالجامعة
كانت عند إنشائها في "عصر جامعة الجيل الأول" والهدف الآن هو الدخول في
عصر "جامعة الجيل الثالث".
وفي
الأيام الأولى لتحمل الأمانة والمسئولية، تداولت كعادتي الأمر لتكوين هذا المجلس
مع مجموعة من العقول الكبيرة، وكان أصعب شيء هو اختيار أعضاء هذا المجلس، لأن
المؤهلين له من الكثرة بمكان؛ فمصر مليئة بالعقول العظيمة، ومن المتعذر ضم الجميع؛
لذا تم اختيار مجموعة ممثلة، تم مراعاة عدة معايير فيها، مثل أن تكون معبرة عن
تيارات وخلفيات فكرية متنوعة، وأن تكون ممثلة لعدة أجيال، وأن تكون لديها قدرة على
العمل في فريق واحد على الرغم من التنوع ، والدخول في حوار خلاق سريع الانتقال من
النظر إلى العمل. وفي تصوري أن عضوية المجلس مرنة وتسمح بضم اعضاء جدد في
المستقبل.
وفي
16 أغسطس 2017 ، اجتمع المجلس وتم إجراء عاصفة أفكار، وانضمت وسائل الإعلام لجزء
كبير من الاجتماع ومناقشاته حرصا على الشفافية ولتحقيق المشاركة المجتمعية في
صناعة الأفكار. وسار أعضاء المجلس في اتجاه وضع الأفكار الأولية لوثيقة التنوير،
وتم إعلانها في مؤتمر صحفي. وانتهى اللقاء الأول، لكن لم تنته المناقشات بيننا،
وتم تطوير هذه الأفكار، ونحن في انتظار اجتماع جديد لوضع اللمسات الأخير على
الوثيقة. وأتصور أن المشروع المطروح أمام المجلس في جلسته المقبلة للنقاش حوله
يدور حول الأفكار التالية:
مشروع
الوثيقة:
لابد
أن تكون النّظرة العقلانية المستقبليّة هي الحاكمة لمسيرة جامعة القاهرة، فالتحدي
القومي أصبح هو بناء إنسان مصري جديد وكوادر وطنية فنية مدربة لتحقيق التنوير والتنمية
وتأسيس دولة حديثة، بواسطة استحداث مناهج جديدة تعمل على تغيير طريقة التفكير عند
الطالب وتأخذ به نحو التفكير العقلاني النقدي ومهارات التحليل والفهم والمقارنة
والابتكار، وبناء شخصية مسئولة واعية؛ من أجل نهضة حقيقية، فمؤسسات التعليم- من
الحضانة إلى الجامعة - ليست مجرد مؤسسات لنقل المعارف إلى أبنائنا، بل مؤسسات
وطنية نهضوية يقع العبء الأكبر عليها في بناء شخصية المواطن بوصفه جوهر الدولة،
وأساس التنمية، لا بوصفه إرهابيا يكفر كل من حوله ويستحل دمه!
وإذا
كانت الجامعة عندما أسسها الآباء العظماء في "عصر جامعة الجيل الأول" تقوم
على التعليم ونقل المعلومات والمعارف، ودورها هو الدفاع عن الحقيقة، والإدارة فيها
تقوم على عمليات إدارية بسيطة، فإن "جامعة الجيل الثاني" تقوم على
التعليم مع البحث العلمي، ودورها هو
اكتشاف الطبيعة، والتدريس فيها وفق التخصصات الدقيقة، وتنتج موظفين وعلماء،
والتوجه فيها إقليمي، وتتكون من كليات، والإدارة فيها بيروقراطية.
والغاية
الملحة في هذه المرحلة من تطور جامعتنا هو الدخول في عصر "جامعة الجيل
الثالث" التي تستعيد فكر الآباء المؤسسين في التنوير والعقلانية والمدنية
والتعددية، لكنها تفتح مسارات جديدة تجمع بين
التعليم والبحث العلمي واستغلال وتوظيف المعرفة في التنمية؛ وتسعى إلى
إنتاج قيمة مُضافة للاقتصاد، والتوسع في التخصصات البينية، وتنمية فكر ريادة
الأعمال وإدارة المشروعات والبرامج التدريبية للإعداد لسوق العمل، والتدريب على
المشروعات الإنتاجية الصغيرة، وعدم الاكتفاء بانتاج موظفين وعلماء بل العمل على
تخريج رواد أعمال، والتوجه نحو العالمية والتوأمة مع جامعات الجيل الثالث، والتحول
نحو وضع المراكز البحثية والخدمية أعلى قائمة الأولويات، والتحول نحو الإدارة
اللامركزية وحوكمة الإدارة الأكاديمية والأخلاق العالمية وأخلاقيات الأعمال.
ونأمل
في الوصول إلى درجة النموذج الريادي
للمؤسسات العاملة في صناعة الثقافة والتنوير وتأسيس مجتمع المعرفة وتحقيق "التقدم" بمفهومه التنموي
والتنويري الشامل، وبوصفه تنمية ثقافية وعلمية واقتصادية واجتماعية، تنمية للعقول
والموارد والدولة والمجتمع والفرد.
وتم
طرح مجموعة من المبادئ المقترحة الأولية التي تحكم هويتها وتحدد مسارات عملها، وهي
تدور في مجملها حول المدنية والعقلانية والحرية، وتأكيد حق الاختلاف وقيم التعايش،
والتنوير بوصفه ممارسة عقلانية وتكوين خطاب ثقافي وديني جديد، وتأسيس تيار عقلاني عربي
مقاوم للإرهاب والتطرف والرجعية، وإزاحة التعليم المولد للإرهاب، والعمل على تغيير
نمط الحياة وترسيخ أخلاق التقدم واكتشاف المواهب وفتح المسارات الإبداعية أمامها.
بناء
على الأسس النظرية للتنوير التي تحرك منها مجلس الثقافة والتنوير بجامعة القاهرة،
والرغبة في تحويل جامعة القاهرة إلى جامعة من جامعات الجيل الثالث، فإننا نؤكد على
استعادة فكر الآباء المؤسسين في التنوير والعقلانية والمدنية والتعددية، مع فتح
مسارات جديدة للتقدم والانتقال إلى أفق جديد في حركة التاريخ العالمي، فالجامعة –
كما قلت أعلاه- كانت عند إنشائها في "عصر جامعة الجيل الأول" والهدف
الآن هو الدخول في عصر "جامعة الجيل الثالث".
وفي
هذا السياق لابد من التأكيد على مجموعة من الأفكار الأولية للمبادئ التي تحكم هوية الجامعة وتحدد مسارات
عملها، وهي مطروحة للنقاش المجتمعي، وموضوعة على طاولة اجتماع مجلس الثقافة والتنوير في جلسته المقبلة، ويمكن
بلورتها كالآتي:
1.
جامعة القاهرة مدنية، عقلانية، والحرية مكون أصيل من مكوناتها، وتأكيد حق
الاختلاف، وتنوع الفكر الخلاق. ومن ثم عدم التعصب لتيار ضد تيار، وعدم التمييز بين
الطلاب اجتماعيا أو فكريا أو دينيا.
2.
تأكيد هوية مصر المستنيرة القائمة على قيم التعايش وتقبل الآخر؛ خصوصا أن الجامعة
شريك في صياغة هذه الهوية.
3. تحديد مفهوم التنوير بوصفه ممارسة عقلانية
تقترن بالجرأة على استخدام التفكير العقلاني النقدي بالمعنى الحداثي؛ فالتنوير هو
التفكير العقلي بشجاعة.
4.
تكوين خطاب ثقافي وديني جديد يعتمد على التأويلات العقلانية المتعددة والقراءة
العلمية للنصوص الدينية بوصفها البديل عن التفسير الواحد والحقيقة المطلقة.
5. تأسيس تيار عقلاني عربي مقاوم للإرهاب والتطرف
والرجعية والأصوليات المتطرفة التى تدعو إلى إبطال إعمال العقل فى فهم الواقع أو
النص الدينى.
6.
الانفتاح على تجارب التنوير الأخرى والتيارات العالمية وتاريخ الأفكار والفنون
وتنوع مصادر المعلومات من منظور المصلحة الوطنية.
7.
بناء نسق فكري متحرر ومتطور في مواجهة النسق الفكري المحافظ والجامد، يقوم على
التفكير الإبداعي الخلاق والوعى النقدي بعيدا عن القوالب الجاهزة التي تعيق
الإبداع والتطور، وضد العقل السلبى القائم على الحفظ والتلقين والتسليم بالحقيقة
الواحدة التى لا تقبل التغيير.
8.
صنع الشخصية القادرة على العمل الفكري والسياسي والإداري هو مهمة العملية
التعليمية والأنشطة الإبداعية؛ لأن التعليم
هو العامل الأكثر تأثيرا في معادلة بناء شخصية إنسانية متوازنة الأركان:
روحا وجسدا ووجدانا ونفسا تحت قيادة عقل واع يقود ويوجه.
9.
إزاحة التعليم المولد للإرهاب، فتخلف مناهج التعليم أحد أهم أسباب مشكلة الإرهاب؛
ومناهج التلقين تصنع عقولا مغلقة. والتحول السريع والجذري من حالة العقم التعليمي
إلى مناهج جديدة عصرية تستفيد من مناهج الدول المتقدمة، وتطبق طرق التعلم الحديثة
التي تستهدف تكوين عقول منهجية مفتوحة، عقولا تبحث وتفكر وتوازن وتنقد وتختار
وتبتكر.
10.
الضلع الأهم من العملية التعليمية، هو"طرق التدريس التقليدية" بوصفها
مسئولة عن العجز المجتمعي عن الدخول في حوار منتج. ولذا نجد وجوب التوجه نحو
انتهاج طرق تدريس جديدة قائمة على فن الحوار المولد للحقيقة دون التلقي السلبي من
المعلم، وانتهاج التربية الحوارية Dialogical
Pedagogy، والتي
تهدف إلى تخريج شخصية حرة واعية قادرة على الحوار وغير متعالية أو رافضة له في
الآن نفسه؛ مما ينشأ عنه النمو في تكوين
المواقف والآراء الجديدة دون الخروج عن روح الفريق الواحد أو الدولة الواحدة.
11.
أهمية تطوير "محتوى التدريس" بحيث لا يتم الضغط على الطالب بحفظ المادة
العلمية إلى الدرجة التي لا يستطيع معها أن يفكر فيها على مسافة كافية منها. ولذا
يلزم الارتقاء بـالمحتوي التعليمي الذي يتواكب مع تشجيع "روح الاكتشاف"
لدفع الطلاب إلى مستويات جديدة من التعلم القائم على الأساليب التجريبية والفكر
التحليلي والإبداع في حل المشكلات، وتنمية ملكة الابتكار، والخروج من حدود المقرر إلى سعة البحث العلمي لحل المشكلات
الواقعية، وهذه هي أهم أداة في الحياة لمعرفة الحقائق ولتربية الفرد ولتكوين
المجتمع الديمقراطي.
12.
لا ينفصل عن هذا ضرورة إعادة تطوير أساليب التقويم وأسئلة الامتحانات لتختبر
المهارات وطرق التفكير، ومخرجات التعليم على أساس "النتائج" بدلا من
التركيز فقط على عملية التعليم والحفظ والتلقين التي تعد الأساس الخصب لتكوين عقول
مغلقة لا تفكر، ويستطيع أن يوظفها بسهولة صانعو الإرهاب الذين يلعبون لعبة الموت
فقط، الموت من أجل حياة بعينها يفرضونها على الجميع!
13.
العمل على تغيير نمط الحياة وترسيخ أخلاق التقدم وتغيير منظومة القيم الحاكمة
للسلوك وتغيير الشخصية السلبية إلى الشخصية الخلاقة فرديا واجتماعيا وعلميا.
14.
عدم التمييز على أساس ديني أو عرقي أو اجتماعي أو غيره من أسس التمييز التي تتعارض
مع فكرة المواطنة، فالجميع محكوم بمبدأ المواطنة، والجميع سواء أمام القانون،
والكل متساوون بوصفهم مواطنين، والديمقراطية هي أكبر ضامن للسلام الاجتماعي وهي
الأسلوب الأمثل في إدارة الخلاف بين الجميع. ولا يمكن أن تحقق الديمقراطية
أغراضها، دون نبذ العنف والإرهاب والتطرف وتفكيك الأصوليات المغلقة.
15.
اكتشاف المواهب وفتح المسارات الإبداعية أمامها سواء العلمية أو الفنية أو
الثقافية أو الرياضية أو غيرها، وتوسيع رؤية ورقعة النشاط الطلابي حتى يصل الطلاب
إلى قيم المعايشة والتنوير ولا يتحقق ذلك بندوات أو حفلات معدودة وإنما بخلق حالة
من الزخم الثقافي والتنويري للوعي الحقيقي لا الوعي الزائف، الوعي بمفردات الدولة
الوطنية ومبادئها المرتبطة بالحرية والديموقراطية، وذلك على نحو يجعل مبادئ الدولة
الوطنية مكونا من مكونات المناهج والدورات التدريبية.
هذه
هى مبادئ التنوير التي تقوم عليها جامعة القاهرة ، وبدون الالتزام بها ونشرها من
أعلى إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلى، يكون مصيرنا الخروج من التاريخ العالمي وحركة
التقدم.