الأحد 1 سبتمبر 2024

الشباب والذكاء الاصطناعى

فن2-11-2020 | 17:38

فى عالم مغاير لما كانت عليه الإنسانية قبل دخول القرن الحادى والعشرين، برزت التكنولوجيا وثورة الاتصالات التى كانت بداياتها فى أواخر القرن العشرين لتنطلق بصورة لم تكن متوقعة لتتحكم فى كثير من شئوننا وتغير عديد من أنماط معيشتنا وطبيعة علاقتنا وواقع حياتنا، فأصبحنا إزاء واقع جديد يحتاج إلى معارف ومهارات جديدة قادرة على التعامل مع متطلبات هذا الواقع وأدواته، والذى تحكمه ثورة اتصالية متطورة باستمرار وتقدم تكنولوجى متغير بشكل سريع.

فى قلب هذه الثورة التكنولوجية والاتصالية، واجه الشباب عديد التحديات التى استوجبت التعامل مع تداعياتها على حياتهم الراهنة وقدرتهم على التعامل مع مستقبل وجودهم، إذ أفرزت هذه الثورة تطورات وتغيرات مستمرة تتطلب ملاحقتها بشكل دائم بما يمكنهم من التعامل معها، وإلا تحولت هذه الثورة إلى حالة مدمرة لمستقبلهم، وهو ما أدركته الدولة المصرية منذ البدايات، فتبنت سياسات عديدة فى مختلف المجالات بدءا من تطوير البنية التحتية للتعامل مع هذه المستجدات، وصولا إلى محاولات التغيير فى النظم التعليمية، إذ يمثل التعليم نقطة الانطلاق الأولى لإعداد الشباب للتعامل مع هذه التحديات.

ولكن فى خضم ما كانت تقوم به الدولة المصرية واجهت تحدى ما جرى عام 2011، وما أعقبه من أزمات وجودية للدولة المصرية فى ظل التهديدات الداخلية والخارجية، لتتمكن الدولة بتلاحم الشعب المصرى مع جيشه الوطنى فى إنقاذ الوطن بثورة الثلاثين من يونيو 2013، لتنطلق الدولة من جديد فى استكمال سياستها فى التعامل مع متطلبات العصر ما بعد التكنولوجى أو ما يمكن أن نطلق عليه عصر الذكاء الاصطناعى، إذ دخلت الإنسانية فى مرحلة جديدة أكثر تطورا مما كان الوضع فى العقد الأول والثانى من القرن الحادى والعشرين، إذ تطورت العديد من الأدوات والوسائل الاتصالية والتكنولوجية، فكما عرفت الإنسانية عصور التقدم منذ العصر الحجرى ثم الزراعى ثم الصناعى وما بعد الصناعى أو ما يطلق عليه البعض عصر الحداثة وما بعد الحداثة، أخذا فى الاعتبار أن الفترات الزمنية بين هذه العصور تقل كلما تقدمت الإنسانية، بمعنى أكثر وضوحا إن الانتقال من العصر الزراعى إلى الصناعى أخذ فترة زمنية أوسع من الفترة التى مرت للانتقال من العصر الصناعى إلى ما بعد الصناعى وهكذا.

هذا الشرح المستفيض لما آلت إليه التطورات الإنسانية فى عالم اليوم، يهدف إلى قراءة سريعة لواقع متغير لا يزال الكثيرون بعيدين عنه، فى حين أنه يقحم بيوتنا ويؤثر فى حياتنا ويغير نمط استخدامنا لكثير من منتجات هذا العصر. ولكن رغم ذلك أيضا لا يزال الكثيرون يفكرون دون منهجية صحيحة فى التعامل مع التحديات التى يفرضها هذا الواقع المتغير.

من ثم، تحدث الفجوة بين استخدام أدوات العصر فى حياتنا، وبين طريقة التفكير أو كيفية الفكر فيما يمكن أن تؤول إليه أوضاعنا التى أصبحنا فى ظل هذا الواقع مجرد مستهلكين أو متلقين لما يُفرض علينا، دون أن نسهم فى صناعته أو فى الحد الأدنى ندقق فيما نستهلكه أو نتلقاه. وهذه هى بداية القضية التى تستوجب من الشباب إدراكها حتى لا تنتهى بنا الأوضاع إلى أن نصبح مجرد أدوات فى يد الأقوى والأقدر ليس فقط عسكريا أو اقتصاديا وإنما تكنولوجيا ومعرفيا.

وغنى عن القول إن حجم التحديات التى يفرضها واقع اليوم على المجتمعات التى لم تستطع خوض غمار المنافسة، تؤول بها هذه الأوضاع إلى مجتمعات فاشلة أو على حافة الفشل، ولعل ما يجرى فى بعض دول المنطقة التى نعيش فيها كاشف عن هذه الحقيقة المؤلمة.

ومن ثم، يتحمل الشباب القسط الأكبر فى كيفية مواجهة هذه التحديات كونه الأقدر على التعلم من ناحية، والأقدر على التعامل مع تداعيات هذه التحديات من ناحية أخرى، وكذلك الأقدر على الاستفادة من مخرجات النجاح إذا ما تحقق من ناحية ثالثة فهو المسئول عن بناء المستقبل. ولكن تحقق ذلك كله مرهونا بتوافر شرطين أساسيين، هما:

*الأول، الإدراك، ويعنى أن يدرك الشباب بشكل صحيح من خلال قراءة دقيقة لحجم التحديات التى أفرزتها التحولات والمستجدات الناجمة عن التطورات المستمرة فى عالم التكنولوجيا والاتصالات، والتى جعلت العالم كله فى أقرب نقطة اتصالية وتشابكية بشكل جعل مجرد وجود فيروس فى منطقة فى أقصى الشرق يصيب العالم كله بالشلل والتوقف على غرار ما جرى مع فيروس كورونا المستجد الذى أفرز عالما مختلفا فى كثير من سياساته وإجراءاته، بل لا تزال ملامحه فى طور التشكل. فإدراك هذا الواقع وفهمه جيدا هى نقطة الانطلاق الأولى، فكيف يمكن للفرد التعامل مع تحدى لم يدركه ولم يستوعب أبعاده وتداعياته؟

وهنا نكون إزاء مسئوليتين: الأولى، تتحملها الدولة بمؤسساتها المختلفة خاصة المؤسسات التربوية والثقافية والإعلامية والدينية والشبابية، وذلك فى معاونة الشباب للوصول إلى الإدراك الصحيح والفهم السليم لهذه التحولات والمتغيرات، حتى لا يقع فريسة لجهات أخرى تتبنى وجهات نظر معادية تحاول استقطاب هؤلاء الشباب برؤى مغلوطة وأفكار خاطئة، فيتحول الشباب من أداة داعمة وفاعلة فى بناء الدولة إلى أداة هادمة ومدمرة لما تقوم به أجهزة الدولة من جهود مضنية فى سبيل النهوض بالأوضاع المجتمعية والمعيشية للمواطنين، وهذه هى الخطورة التى يجب أن يعى لها الشباب جيدا. لننتقل إلى المسئولية الثانية، والتى يتحملها الشباب، إذ إنه فى ظل قيام الدولة من خلال مؤسساتها بدورها فى نشر الوعى الصحيح، بل ووضع البرامج العديدة من أجل تأهيل هؤلاء الشباب وتمكينهم ومنحهم الفرص الحقيقية للمشاركة فى صنع القرارات الوطنية، ولعل ما جرى فى اختيار الشباب داخل البرلمان وفى مختلف الأجهزة التنفيذية يدلل على ما تقوم به الدولة فى هذا الخصوص. ليصبح الجزء المتبقى من المسئولية فى كنف الشباب، وذلك بضرورة وعيه بالمخططات التى تُرسم، والمؤامرات التى تُحاك ضده وضد مستقبله ومستقبل وطنه، ليتفاعل مع مؤسسات دولته سواء للحصول منها على المعلومات الصحيحة والرؤى السديدة أو للاستفادة مما تنظمه من برامج تأهيلية وتثقيفية تصحح بها كثير من الأفكار المغلوطة والتصورات الخاطئة والمعلومات المضللة.

أما الأمر الثانى، يتعلق بآليات العمل، ويقصد به آليات العمل الواجب على الشباب القيام بها، إذ إن الأمر لا يجب أن يقف عند حد الإدراك أو المعرفة أو الوعى وإن كان هذا الأمر مهما، إلا أن الأمر يتطلب كذلك أن يكون لهؤلاء الشباب دور فاعل فى العمل الوطنى، أخذا فى الاعتبار أن المشاركة فى العمل البرلمانى أو التنفيذى كما سبق الإشارة ليست كافية بل هى صورة مصغرة لما يجب على الشباب عمله تجاه وطنه ودعما لدولته.

ولذا، ثمة حاجة ضرورة لأن يدرك الشباب أهمية البحث عن كيفية تعظيم الاستفادة من هذه التطورات المتسارعة تكنولوجيا، إذ إن دخول العالم عصر الذكاء الاصطناعى يتطلب المعرفة الدقيقة بآليات عمله وكيفية التعامل معه وتأثيراته، خاصة على مستقبل عمالة الشباب، فعلى سبيل المثال حينما يستخدم الذكاء الاصطناعى فى مختلف المجالات كما هو مخطط له، فلا شك أن لذلك تأثيرات على مستقبل الشباب وفرص عمله، بما يستوجب فهم هذه التغيرات والتحولات الجديدة وكيفية التعامل معها حتى لا يصبح هؤلاء الشباب فريسة للضياع. بمعنى أكثر تحديدا، ثمة مجموعة من التساؤلات واجبة الإجابة عليها، منها: كيف يمكن للشباب التعامل مع عصر الذكاء الاصطناعى؟ وكيف يمكن إعدادهم وتأهيلهم؟ هل البرامج المتاحة اليوم ملائمة لمتطلبات هذا العصر الذى اقتحم كل حياتنا؟ هل مناهج التعليم الراهنة قادرة على إكساب الشباب القدرات والمهارات المطلوبة للتعامل مع هذه المستجدات؟ هل الإعلام بكافة صوره يقدم النماذج والصور التى تدعم جهود الشباب فى هذا الخصوص؟ هل الثقافة المجتمعية داعمة لهذه الجهود؟

هذه التساؤلات وغيرها تحتاج إلى دراسات وبحوث تضع السيناريوهات المتاحة، وترسم السياسات المطلوبة، وتحدد الإجراءات الواجب اتخاذها حتى لا نكتشف أننا خسرنا سباقنا مع الزمن.

خلاصة القول إن الشباب هم عماد المجتمعات ورهانها على المستقبل، وإن إعدادهم وتأهيلهم هو الاستثمار فى هذا المستقبل، وإلا ظللنا ندور فى حلقة مفرغة من الخسائر والهزائم ليس شرطا هزائم عسكرية أو انكسارات سياسية، إذ إن مثل هذه الهزائم سرعان ما تنجح الشعوب فى تصحيحها واستعادة مكانتها وقدراتها. ولكن الهزائم التى يمكن أن نُصاب بها هى هزائم وجودية إذا لم نقرأ مستجدات العصر ومتغيرات الواقع، فقد يصل بنا الأمر إلى الخروج من سجلات التاريخ والاختفاء من خريطة الجغرافيا، وهذا هو التحدى الذى يجب أن نخوض غماره من خلال الوعى بمتطلباته والتسلح بأدواته.