الجمعة 28 يونيو 2024

أعطني إعلامًا بلا ضمير ؛ أعطك شعبًا بلا وعي

فن2-11-2020 | 18:58

 إحدى المقولات الشهيرة لأحد أهم صُناع الدعاية في التاريخ وفي العالم أجمع "جوزيف جوبلز" ؛ وزير الدعاية للزعيم النازي أدولف هتلر وألمانيا، والذي كان يُدعِم حملة هتلر الإعلامية للحرب العالمية الثانية وكرس لها كل وسائل الإعلام في ألمانيا، وهو صاحب شعار "اكذب حتى يُصدقك الآخرون"!، وكانت الدعاية النازية في الفترة ما بين 1933،1945 تهدف إلى غزو العالم عن طريق إثارة المشاعر والعواطف واللعب في عرض الحقائق وتشويهها وبث حربًا نفسية في صفوف الأعداء؛ مستخدمًا في ذلك كل الوسائل المُتاحة آنذاك من منشورات ومكبرات الصوت والإذاعة والصحافة والسينما. حيثُ قامت السينما أيضًا بدور كبير في تغييب الواقع وتزييف الوعي في الكثير من دول العالم ومن بينها مصر...

والوعي في أبسط معنى له؛ هو الحالة العقلية التي يتم من خلالها فهم الواقع وفهم حقيقة الأحداث التي تدور حولنا والتعرف على القضايا المختلفة الموجودة في البيئة المُحيطة بنا وطريقة فهمنا لتلك القضايا. وتوجد العديد من العوامل التي تُساهم في تشكيل وعي الفرد حول القضايا المختلفة؛ ومنها الأُسرة والتعليم والمؤسسات الدينية والاجتماعية والمُثقفين والأُدباء والفنانين والإعلاميين ووسائل الإعلام، بل وتُعد وسائل الإعلام هي الأكثر تأثيرًا في كل تلك الوسائل الأخرى؛ وذلك لما لها من شعبية وقدرة على جذب الانتباه والتأثير في الجماهير. ولذلك تنافست كل الدول لبناء وتمويل شركات وشبكات إعلامية ضخمة لاستخدامها في التحكم في وعي وأفكار الجماهير وتوجيه الرأي العام نحو ما يريدون، والتأثير في معتقدات الجماهير وتوجهاتهم وعقلياتهم، وهو ما ذكره الكاتب الصحفي الأمريكي الشهير "والتر ليبمان" في كتابه "الرأي العام" عام 1922؛ حيثُ يرى أن وسائل الإعلام تقوم ببناء صورة ذهنية لدى المتلقين وفي كثير من الأحيان تكون هذه الصورة زائفة. وبناء على ذلك ظهرت إسهامات عديدة مماثلة لباحثين آخرين في نفس الاتجاه وهو ما أطلق عليه خبراء الإعلام نظرية "وضع الأجندة" أو "ترتيب الأولويات" حيثُ تقوم وسائل الإعلام بدور كبير في وضع وترتيب الموضوعات والقضايا التي يهتم الناس بها ويفكرون فيها ويتحدثون عنها؛ وهي ليس فقط تضع وتحدد لهم الموضوعات والقضايا بل تُحدد لهم أيضًا الطريقة التي يُفكرون بها ويتحدثون بها عن الموضوع، وتؤكد على وجهة النظر المطروحة من خلالها. ويرتبط بتلك النظرية نظرية أُخرى يُطلق عليها "حارس البوابة" بمعنى أن القائم بالاتصال – ويُقصد به كل من يُساهم في اختيار وكتابة وتوصيل وصنع الرسالة الإعلامية بكافة أشكالها - هو الذي يتحكم في اختيار موضوعات وقضايا بعينها، وكذلك يُحدد كيفية تناول هذه الأخبار والموضوعات والقضايا.

كل ما سبق ذكره يُعد بشكل أو بآخر تزييف لوعي الجمهور؛ فلا تشعر بأنك تعرف الحقيقة وأن ما تشاهده وتسمعه وتقرأه في وسائل الإعلام المختلفة هو الحقيقة الوحيدة؛ فهناك في العالم توجد ملايين بل مليارات القصص والموضوعات والقضايا والشخصيات والأحداث الجارية؛ فلماذا يتم مثلاً الاهتمام بالحدث الفلاني ويتم إهمال حدث آخر، لماذا مثلاً يتم الاهتمام بحادثة بسيطة راح ضحيتها شخص أو اثنان على سبيل المثال في بلد ما؛ بينما يتم التغافل عن حادثة أشد منها راح ضحيتها الآلاف في مكان آخر؟! أليس ذلك تزييف للوعي؟! بل هو أشد من ذلك؛ هو خلق لوعي معين زائف وغير حقيقي لكنه مطلوب من قبل أصحاب المصلحة في كل مكان؛ ولكن تتنوع الأساليب والاستراتيجيات الإعلامية التي يتم انتهاجها في تزييف الوعي؛ نذكر منها :

1- أسلوب التجاهل العام أو التكتم التام؛ بمعنى تعمد منع نشر وبث ما يخص موضوعات أو أحداث معينة أو شخصيات معينة منعًا نهائيًا.

2- أسلوب التجاهل الجزئي أو التكتم الجزئي؛ بمعنى نشر وإذاعة بعض جوانب جزئية في الخبر، وإغفال وإسقاط وتجاهل جوانب أُخرى لنفس الحدث أو الخبر أو الشخصية.

3- أسلوب التأويل والتضليل؛ حيثُ تقوم وسائل الإعلام بنشر بعض الأخبار عن أحداث معينة بطريقة بها الكثير من التضليل والخداع للجمهور معتمدين في ذلك على تكرار المعلومات المغلوطة وإقناع الجمهور بها لقطع الطريق على المُشككين في تلك الرواية، وتلك تعتمد على إحدى مقولات جوبلز "الدعاية الناجحة يجب أن تحتوي نقاط قليلة وتعتمد التكرار".

حيثُ أن وسائل الإعلام وخاصة التليفزيون تصنع عالمًا من "الوهم الضروري" وهو مصطلح أطلقه الخبير الأمريكي في علم الأخلاق وعالم اللاهوت "راينهولد نيبور" (1892-1971)  – علم اللاهوت لمن لا يعرفه هو علم دراسة الإلهيات في المسيحية دراسة منطقية تعتمد على التحليل العقلاني لفهم المسيحية بشكل أوضح-  يُشير"نيبور"  إلى أن غالبية الجمهور هم من العوام والجاهلين؛ وبالتالي هم غير قادرين على اتخاذ قرارات ولا قادرين على التفكير المنطقي؛ لأن التفكير المُعتمد على المنطق هو خاصية تُميز فقط النُخبة من وجهة نظر"نيبور"، وهؤلاء النُخبة عليهم خلق هذا "الوهم الضروري" الذي يلعبون فيه على المشاعر والعواطف والتسلية والترفيه من خلال ما يبثه التليفزيون للجماهير من صور وأخبار وقصص وبرامج ترفيهية، وبالتالي فإن هؤلاء النُخبة المُتحكمة في الإعلام من رجال الأعمال وصانعي الإعلام ورجال السياسة والاقتصاد هم القادرون على اتخاذ القرارات المناسبة التي بالطبع تخدم أصحاب المصالح والسُلطة الحاكمة، وهي نفس الفكرة التي عبر عنها الكاتب الصحفي "والتر ليبمان" في كتابه "جمهور الأشباح" عام 1925؛ والذي تحدث فيه عن سلبية الجمهور؛ وتساءل هل تعود سلبية الجمهور إلى طبيعة الجمهور نفسه أم إلى النظام الإعلامي الذي يصنع تلك السلبية ويُريدها؟! وتوصل في الكتاب إلى الإجابة بأن تعقد القضايا والأحداث السياسية والاقتصادية تصعب على استيعاب الجمهور لها وبالتالي تم تعيين نُخبة تنطق باسم الجمهور؛ حيثُ النُخبة تُفكر وتُقرر والجمهور يقبل وينصاع، وهو ما يقودنا إلى مقولته الشهيرة "عندما يُفكر كل الناس بطريقة متشابهة، فهذا معناه أنه لا أحد يُفكر".

ومما لا شك فيه أن ظهور وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي جعلت الجمهور يرى ويُشاهد ويقرأ ويسمع أخبارًا وقصصا مختلفة من اتجاهات ووجهات نظر متباينة، وهو ما ظهر تأثيره واضحًا جليًا خلال ثورات ما أُطلق عليه "ثورات الربيع العربي" حيثُ وجد الشباب على هذه المواقع حقائق جديدة لم تكن تُذاع عبر وسائل الإعلام التقليدية، ولكن في رأيي ما حدث خلال تلك الفترة وما تلاها من أحداث وظهور العديد من الأخبار غير المعلومة من قبل وظهور نفس القصص والأخبار بروايات متضاربة ومتباينة، وظهور الرأي وعدة آراء أُخرى مُختلفة نحو نفس الموضوع؛ كل ذلك أدى إلى حالة عامة من الشك لدى البعض- وأنا منهم-  في كل ما يُسمع ويُقال ويُشاهد؛ حيثُ اتضح أنه لا توجد حقيقة ثابتة وأن كل ما يدور حولنا من الممكن تأويله كلٌ حسب رأيه وميوله وتوجهاته ومُعتقداته، وتخيلتُ أن هذا من الممكن أن يكون درسًا للجمهور بأن يكون أكثر وعيًا وأكثر قراءةً واطلاعًا، وأن يطلع على نفس المعلومة أو القصة أو الخبر في أكثر من مصدر، وأن يسمع نفس المعلومة من مصادر ومواقع مختلفة حتى يكون أكثر وعيًا ولا يسمح لأحد باستغلاله وتشكيل وعيه وسلب إرادته، ولكن هيهات.. فالآلة الإعلامية بإمكانياتها الهائلة الجبارة وباستخدامها للتكنولوجيا الحديثة والعلوم المختلفة المتطورة استطاعت أن تقتحم أيضًا مواقع التواصل الاجتماعي وتؤثر فيما يُبث عبرها، فنجد ظهور ما يُسمى باللجان الإلكترونية التابعة للتوجهات المختلفة؛ فالنصيحة لهذا الجيل وللأجيال القادمة ألا يتركوا أنفسهم وعقولهم للتحكم فيها من وسائل الإعلام المُختلفة سواء التقليدية أو الحديثة أو مواقع التواصل الاجتماعي، وأن يبحث بنفسه عن أصل وحقيقة أي معلومة يراها أو يسمعها في أي وسيلة كانت؛ بل ولابد أن يبحث عما لا نعرفه من ملايين الأخبار والقصص والأحداث التي تقع في جميع أنحاء العالم  والتي لا يصلنا عنها أي خبر أو معلومة حيثُ إن إعلامنا ومواقعنا يضعون ويُحددون لنا فقط الموضوعات فقط التي يُريدون منا معرفتها وتُصبح  تريند  بلغة العصر؛ وهي في الأغلب قصصا ليس منها نفع ويغفلون الأهم والأكثر أهمية لإلهائنا عن الحقائق الأكثر نفعًا.