الثلاثاء 14 مايو 2024

ثورات الفوضى الخلاقة..أزمة الوعي بـ"حدود الدم"

فن2-11-2020 | 18:58

كلما عظمت الأحداث في تاريخ الأمم، كلما كانت التحولات سريعة ومتلاحقة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وما من مجتمع يمر بتحولات كُبرى كأحداث الحروب والثورات، إلا وكان لهذه الأحداث تأثيرها على عاداته وتقاليده وسلوكياته، إن إيجابًا أو سلبًا، ولكن المُتحكّم في طبيعة هذه التحولات والمُحدد الأول لمسارها فهم ما حدث، لماذا وكيف حدث؟ وهو المُنطلق الأول الذي تبدأ الأمم على أساسه بناء طريق نهضتها بعد هزة عنيفة؛ سواء خارجية مثلما حدث مع اليابان في أغسطس 1945، حين قصفت الولايات المتحدة مدينتي هيروشيما وناجازاكي بالقنابل النووية، أو داخلية مثلما حدث في فرنسا إبّان الثورة الفرنسية 1789م.

بطبيعة الحال مثّلت الثورات العربية - التي عُرفت إعلاميًا بثورات الربيع العربي -نوعًا من التغيرات الكُبرى التي وقعت في العالم، ففي العام 2011 اندلعت موجات ثورية في أغلب بلدان العالم العربي وهو أمر ليس من قبيل الصدفة، فمن غير المنطقي أن يكون هناك اتفاقٌ بين شعوب هذه البلدان مجتمعة على أن يكون العام 2011 عام الثورات العربية، ولأن هذه التحركات لم يكن مخطط لها بشكل مُحكَم ومدروس على الأرض من قِبل الثوار الذين خرجوافي البداية - بعفوية لغايات ومطالب مشروعة، وكذا لم يكن لهذه الثورات رأس أو قيادة شعبية في مختلف البلدان العربية، إضافة إلى قفز الجماعات والتيارات المُتطرفة عليها، مما حوّلها لتحركات فوضوية لم تأت بالنتائج المرجوة منها شعبيًا، وكان القتل والتدمير ثمرتها الآثمة التي تغذت عليها الجماعات الدموية والمتطرفة والتي نبتت بشكل مفاجئ وسريع ومنظم في خضم الأحداث؛ وكأنها كانت تنتظر اللحظة المناسبة للظهور والإعلان عن نفسها. وبات المواطن العربي لا يعرف ماذا حدث، ولماذا تطورت التحرّكات الشعبية بهذا الشكل الدموي والهمجي؟. وتبادر  سؤال إلى الأذهان مفاده "من المتسبب والمستفيد في هذه الفوضى الكُبرى؟".

الشاب العربي نزل إلى الشارع يحمل آمالا عريضة بالحرية والكرامة والعدالة، إلا أن هذه الحرية تحولت إلى تشريد على السواحل الأوروبية، والكرامة أصبحت تبيت في مُخيّمات مُقبضة على حدود تركيا، والعدالة تجسّدت في تغذية الجماعات المتطرفة بالأسلحة بشكل متكافئ لتُكمل مهامها في تدمير ما تبقى من أطلال هذه الأوطان التي تحولت ثوراتها من باب لجنة خضراء تحلم الشعوب بالولوج إليها، إلى جحيم قضى على الوجود الفاعل والبقاء الآمن لهذه الأوطان.

بعد فترة وجيزة أدرك الشباب أن الأمر لم يكن من قبيل الصدفة حينما شاهد الأرض المحروقة من حوله بعد أن رحلت الثورات وتركت خلفها أشباه أوطان ودول، ووقف المواطن العربي يُقلّب كفيه لا يعرف ماذا حدث، هل الثورات من فعل ذلك بأوطانه وأحلامه أيضًا؟. هل مطالبته بحقوقه السبب في كل هذا الخراب والدمار؟ وإن كانت الإجابة لا، فماالسبب؟  

بداية الكابوس كانت في العام 1983 عندما وافق الكونجرس الأمريكي بالإجماع على مشروع صاغه المستشرق البريطاني الأصل اليهودي الديانة الصهيوني الانتماء الأمريكي الجنسية برنارد لويس، هذا المشروع الذي أُطلق عليه اسم "حدود الدم BloodBorders"، والذي نشرته مجلة وزارة الدفاع الأمريكية. ويهدف الى تقسيم وتفتيت الدول العربية والإسلامية الى دويلات على أساس ديني ومذهبي وطائفي؛ وتم حينها تنقية المشروع واعتماده وإدراجه في ملفات السياسة الأمريكية الاستراتيجية بعد وضع خطة وآليات تنفيذه في السنوات المقبلة.

لقد قُسّمت المنطقةوفق مخطط لويس - إلى 19 دولة، كلها تتكون من خليط من الأقليات والطوائف المختلفة، والتي تعادي كل منها الأخرى، وعليه فإن كل دولة عربية إسلامية مُعَرَّضَة اليوم لخطر التفتت العرقي والاجتماعي في الداخل إلى حد الحرب الداخلية، كما هو الحال في بعض هذه الدول مثل ليبيا وسوريا والعراق واليمن، أوضحت ذلك وثائق "كيفونيم" التي نشرت في فبراير 1982م في الدورية التي تصدر باللغة العبرية في القدس، تحت عنوان "استراتيجية إسرائيل خلال الثمانينيات"، وكتبها "يورام بيك"، احتوت هذه الوثائق على الخطة الكاملة لتفكيك وتقسيم العالم العربي إلى دويلات صغيرة، ويحمل المشروع تفاصيل المشروع الصهيوأمريكي لتفتيت العالم الإسلامي، وكانت البداية بدول شمال أفريقيا؛ حيث يتم تفتيت "ليبيا والجزائر والمغرب"؛ بهدف إقامة دولة البربر، ودويلة البوليساريو، والمتبقي من دويلات المغرب والجزائر وتونس وليبيا يتم تقسيمه إلى عدد من الدويلات على أساس الأقليات العرقية والقبلية، وتقسيم مصر إلى 4 دول "دولة النوبة، دولة مسيحية في غرب البلاد، دولة إسلامية في الوسط، دولة خاضعة للنفوذ الصهيوني، وتشمل شبه جزيرة سيناء حتى نهر النيل"، وهو المخطط الذي سقط مع سقوط دولة الإخوان في بيان 3 يوليو 2013. وفي شبه الجزيرة العربية والخليج، يتم إلغاء دول الخليج بالكامل ومحو وجودها الدستوري؛ بحيث تتضمن منطقة شبه الجزيرة العربية والخليج 3 دويلات فقط، وهي دولة الأحساء الشيعية، وتضم الكويت والإمارات وقطر وعمان والبحرين، وأجزاء من المملكة العربية السعودية، ودولة نجد السنية وتشمل جزءًا من المملكة العربية السعودية الحالية وأجزاء من اليمن، ودولة الحجاز السنية وتشمل جزءًا من المملكة العربية السعودية، وأجزاءً من اليمن. وكان المخطط بالنسبة للعراق أن يتم تفتيته على أسس عرقية ودينية ومذهبية دولة شيعية بالجنوب حول البصرة، دولة سنية في العراق حول بغداد، دولة كردية في الشمال والشمال الشرقي حول الموصل بكردستان تقوم على أجزاء من الأراضي العراقية والإيرانية والسورية. بينما تم وضع خطة لتقسيم سوريا إلى أقاليم متميزة عرقيًّا ودينيًّا ومذهبيًّا "دولة علوية شيعية على امتداد الشاطئ، ودولة سنية في منطقة حلب، ودولة أخرى سنية حول دمشق، ودولة الدروز  في الجولان ولبنان "الأراضي الجنوبية السورية وشرق الأردن والأراضي اللبنانية"؛ وهذا ما حاولوا تنفيذه على الأرض في سوريا عبر  تحطيم الجيش السوري، وإنهاكه في حرب طويلة برعاية الجماعات والحركات المتطرفة، مثل "داعش" و"جبهة النصرة" لولا المساعدة الروسية التي قدمت لنظام بشار  الأسد، من وحي الوعي الروسي الكامل بالمخطط وضرره على المنطقة. واعتمد المخطط تقسيم لبنان إلى عدة دويلات متميزة عرقيًّا ومذهبيًّا ودينيًّاأيضًا - "دويلة سُنِّية في محافظة الشمال عاصمتها مدينة طرابلس اللبنانية، ودويلة مارونية في الشمالأيضًا - عاصمتها جونيه، ودويلة سهل البقاع العلوية عاصمتها بعلبك خاضعة للنفوذ السوري شرق لبنان، ودويلة في بيروت تحت الوصاية الدولية، وكانتون فلسطيني حول صيدا وحتى نهر الليطاني، وكانتون كتائبي في الجنوب وتشمل المسيحيين والشيعة، ودويلة درزية في الأجزاء من الأراضي اللبنانية والسورية والفلسطينية، وكانتون مسيحي تحت النفوذ الإسرائيلي". بينما اختلف المخطط تجاه الأردن حيث هدف إلى تصفية الدولة وإلغاء كيانها الدستوري ونقل سلطتها للفلسطينيين. مع هدم مقومات "فلسطين" وإبادة شعبها في طريق تكوين إسرائيل الكبرى.

كما اضطلع المخطط إلى تقسيم إيران وباكستان وأفغانستان إلى عشرة كيانات عرقية ضعيفة، وهي "كردستان، وأذربيجان وتركستان، وعرب ستان، وإيران ستان، وما بقي من إيران بعد التقسيم وبلونستان، وبخونستان، وما بقي من أفغانستان بعد التقسيم، وما بقي من باكستان بعد التقسيم، وكشمير، بينما كان المخطط بالنسبة لتركيا انتزاع أجزاء منها وضمها إلى الدولة الكردية المزمع إقامتها بأجزاء من دولة العراق الحالية، وربما يخدم العدوان الذي شنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على الأكراد في الشمال السوري مؤخرًا، مصالح الكيان الصهيوني في تنفيذ مخططه الباقي كما هو لخدمة مصالح أمريكا في المقام الأول، وضمان أمن واستقرار  إسرائيل ثانيًا، بدليل أن الدولة العبرية المُغتصبة للأراضي الفلسطينية الوحيدة التي لم تتأثر بما حدث في المنطقة بالكامل منذ العام 2011، وبداية تنفيذ مخطط برنارد لويس رغم رعب ودموية الإرهاب الذي ذاق مرارته العالم أجمع، رغُم ادعائه أنه ذو خلفية إسلامية، لا سيما تنظيم "داعش" الذي جعل الدول العربية هدفه الأول.

يُعد مخطط برنارد لويس أخطر مشروع في القرن العشرين لتفتيت العالم العربي والإسلامي من باكستان إلى المغرب. ولد "لويس" في لندن عام 1916م،تخرَّج في جامعة لندن 1936م،وعمل فيها مدرسا في قسم التاريخ للدراسات الشرقية الإفريقية. كتب "لويس" كثيرًا، وتداخل في تاريخ الإسلام والمسلمين؛حيث اعتبر مرجعًا فيه،فكتب عن كلِّ ما يسيء للتاريخ الإسلامي مُتعمّدًا، فكتب عن الحشاشين، وأصول الإسماعيلية، والناطقة،والقرامطة،وكتب في التاريخ الحديث نازعًا النزعة الصهيونية التي يصرح بها ويؤكدها. نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" مقالاً قالت فيه: "إن برنارد لويس "90 عامًا" المؤرخ البارز للشرق الأوسط وقد وَفَّرَ الكثير من الذخيرة الأيديلوجية لإدارة "بوش" في قضايا الشرق الأوسط والحرب على الإرهاب؛حتى أنه يُعتبر منظرًا من الطراز الأول لسياسة التدخل والهيمنة الأمريكية في المنطقة العربية.

في 9 أبريل 2005،أدلت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس بحديث صحفي لجريدة الواشنطن بوست الأمريكية، أعلنت خلاله عن نية الولايات المتحدة الأمريكية الرسمية في نشر الديمقراطية في العالم العربي والتدخل لإرساء حقوق المرأة وغيرها من السياسات المتعلقة بالحريات والانفتاح على عالم أكثر تقبلًا للثقافات والقيم الغربية،وذلك في إطار الخطة الكُبرى التي عُرفت باسم "الشرق الأوسط الجديد"،والغريب والمدهش - حينها - أن وزيرة الخارجية استخدمت أحد نصوص الماسونية، وهو نص أحد بروتوكولات حكماء صهيون، لتوضّح ملامح خطتها أو مشروعها للعالم، وتشرح الطريقة المثلى لانتقال الدول العربية والإسلامية من ما أسمته بـ"العهد الديكتاتوري" إلى العصر الديمقراطي ،وكانت المفاجأة أنها أعلنت أن أمريكا ستلجأ الى نشر "الفوضى الخلاقة Creative Chaos"  في منطقة الشرق الأوسط لنشر الديمقراطية والحرية في هذه الدول.

    Dr.Radwa
    Egypt Air