احتفل الأرمن حول العالم واحتفلت معهم حوالي عشرين دولة، بذكرى مرور قرن على المذابح الأرمينية الكبرى، التي ارتكبها الجنود العثمانيون بحق المواطنين الأرمن في تركيا ومناطق الأناضول، والتي راح ضحيتها حوالي مليون ونصف المليون قتيل، وإن كانت بعض التقديرات الأرمينية تصل بالرقم إلى ما يتجاوز 2 مليون أرمني وأرمينية.
بابا الفاتيكان اعتبر المذابح، إبادة جماعية، مما أغضب أردوغان وحكومة داوود أوغلو واحتجت رسميًا ضد هذا التصريح، لكن تواصلت التصريحات من هذا النوع، من الرئيس الفرنسي "أولاند"، ومن الرئيس الألماني، وخطورة الأخير أنه يمثل ألمانيا، التي كانت حليفًا للدولة العثمانية، أثناء الحرب العالمية الأولى، وهذا يؤكد المذابح التي مازالت الحكومة التركية تنكرها.
نعرف أن الاعتراف التركي بالمذبحة سوف يكلفها كثيرًا، تعويضات مالية وسياسية، التي قد تصل إلى تسليم أجزاء من أراضيها للأرمن، وإن كان الأرمن يؤكدون أنهم لن يطالبوا بتعويضات ولا يريدون، لكن يريدون فقط اعترافًا تركيًا بالمذبحة، والأمر المؤكد أن الرئيس أردوغان، الذي يحاول أن يكون سلطانًا عثمانيًا بعد قرن من سقوط السلطنة لن يعترف أبدًا بتلك المذبحة ولا بغيرها من المذابح العثمانية.
مصر لم تحتفل رسميًا بهذه المناسبة، ولا صدرت تصريحات رسمية عن كبار المسئولين تتعلق بهذا الأمر، غير أن التاريخ يجعلنا ننظر إلى مصر بفخر، كان موقف المصريين مساندًا للأرمن ومدافعًا عنهم، استقبلت مصر أعدادًا منهم وأقاموا بيننا، بل إن الأزهر الشريف أصدر فتوى؛ دفاعًا عن الأرمن والتنديد بما تعرضوا له على أيدي رجال السلطنة العثمانية، وفي الأسبوع الماضي احتفلت واهتمت بعض وسائل الإعلام والمراكز البحثية بهذه المناسبة، أقام مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة عين شمس ندوة علمية حول تلك المذبحة، شرفت بالمشاركة فيها، وأقامت بعض المؤسسات احتفالات مماثلة، واحتفى الأرمن المصريون بالذكرى، وأقامت الكنيسة الأرمينية قداسًا حول هذا الأمر، وقام الأنبا تواضروس بتوجيه رسالة بهذه المناسبة.
وقد يتصور البعض أن الإمبراطورية العثمانية في سنة 1915 كانت تحارب معركتها الأخيرة، وكانت معركة وجود، بعد قرن من اعتبارها رجل أوربا المريض، ولهذا السبب أصاب قادتها وجنودها الجنون، هكذا فسر المذبحة وغيرها من المذابح الأخرى أحد العثمانيين الجدد، قبل عشرين عامًا، غير أن من يتأمل تاريخ الدولة العثمانية يجد أنها كانت دولة وإمبراطورية المذابح طوال تاريخها، في زمن القوة أكثر منها في زمن الضعف، لم يكن زمن السلطان عبد الحميد ومن جاء بعده هو فقط زمن الاستبداد والمذابح، كان الذبح هو المعيار السائد زمن السلطان سليم الأول، الذي أسقط دولة المماليك، واجتاح المنطقة العربية بدءًا من بلاد الشام ثم مصر، تاريخنا المصري يعرف هذه المذابح جيدًا، على أيدي سليم الأول وسجله عدد من المؤرخين المصريين، وفي مقدمتهم ابن إياس الذي عاصر تلك الأيام ودون لنا يومياتها، وكذلك ابن زنبل الرمال، بالإضافة إلى مؤرخين آخرين.
المعروف أن السلطان قانصوه الغوري، سلطان مصر والشام، خرج لملاقاة العثمانيين في بلاد الشام، وكان أن هزم جيشه بفعل خيانة أمير الشام "جان بردي الغزالي" وأحد قادته - خابر بك - وقتل الغوري في المعركة، قيل إن أحدهم قتله لتدب الفوضى في الجيش، وكان أن تقدم العثمانيون نحو مصر، فقابلهم السلطان العادل طومان باي، الذي اختير على عجل بدلاً من الغوري، ودارت المعركة بين طومان باي وسليم الأول عند صحراء الريدانية– منطقة العباسية بالقاهرة الآن، وكان أن هزم طومان باي، فانسحب ما بقي معه من القوات، وبدأت طلائع العثمانيين تدخل القاهرة، وكان أول ما فعلوه أن ذهبوا إلى "المقشرة" أي السجن، وأطلقوا المساجين جميعًا، من كل السجون، وفي وقت وجيز، كان هؤلاء المساجين يجوبون الشوارع طلقاء أحرارًا، وساد المدينة خوف وذعر حقيقي، ولم يكن الخوف من فراغ، فقد تحول هؤلاء إلى نهب البيوت والمحلات وانضم إليهم "الزعر والغلمان" بتعبير ابن إياس، وكان لابد للأهالي أن يدافعوا عن بيوتهم وعن ممتلكاتهم، وحدث المتوقع من عنف وسقوط قتلى، واستعمل ابن إياس تعبيرًا مهمًا ودقيقًا في ذلك، حيث قال "انطلق في أهل مصر جمرة نار".
حدث هذا يوم معركة الريدانية – الخميس 22 يناير 1517 – وفي اليوم التالي "الجمعة" خطب الأئمة على المنابر وأنهوا خطبتهم بالدعاء للسلطان سليم الأول، وكان ذلك إعلانًا بأن المصريين تقبلوا الأمر الواقع، مما يعني أن يتوقف الجنود عن النهب والعسف، لكن نهبهم زاد، فقد أخذوا الجمال من السقائين، فتعثر إيصال مياه الشرب إلى البيوت وإلى الناس عامة، ثم ذهبوا إلى المطاحن وأخذوا البغال منها، كانت البغال هي التي تتولى تشغيل الطواحين، لطحن الحبوب والقمح، ومن ثم تعطلت المطاحن، وأكملوا مهمتهم التخريبية بأن نهبوا القمح والحبوب، التي هي طعام المصريين، وما آلم الأهالي أنهم أخذوا تلك الحبوب لإطعام حيواناتهم، يقول ابن إياس في وقائع ذلك اليوم ما يلي: "توجهوا إلى شون القمح التي بمصر وبولاق فنهبوا ما فيها من الغلال"، وترتب على ذلك بقول ابن إياس أيضًا: "تشحطت الغلال من القاهرة وارتفع الخبز من الأسواق".
لم يحدث ذلك في القاهرة فقط، بل حدث خارجها، يتحدث ابن إياس عن وقائع أقسى وأفظع، وقعت من العثمانيين في الخانكة، وفي الشرقية زادوا على ذلك بأن خطفوا الغلمان والفتيات الصغيرات من أبناء العربان "البدو"، وعرضوهم للبيع في أسواق الجواري والعبيد بالقاهرة، وكان مشهدًا مؤلمًا أن يباع أبناء المصريين هكذا، كان العبيد والجواري يجلبون من الخارج، أما أن يكونوا من أبناء المصريين فتلك كانت أول مرة تحدث، وأفاض ابن إياس في تفاصيلها.
كان طومان باي هرب من القاهرة، ولم يستسلم، وأمكن له تجميع قواته من جديد، وكون جيشًا عاود به الهجوم على سليم الأول وقواته، كان ذلك يوم الثلاثاء 27 يناير، وتمكن من مفاجأة الجيش العثماني وإحراز النصر عليه، الأمر الذي جعل الخطباء في المساجد يتحمسون له ويدعون له بالنصر، ولكن لم يكتمل النصر، ففي اللحظة الأخيرة من المعركة خذله قادة المماليك وانحازوا إلى سليم الأول، الواقع أنهم لم يفعلوا ذلك من باب الخيانة، بل من باب الجبن، فقد أصابهم الرعب من وحشية سليم الأول وجنوده، وفي النهاية وجد طومان باي نفسه وحيدًا مع مجموعة من جنوده، فانسحب، وأباح سليم الأول القاهرة لجنوده، فانطلقوا ليقيموا مذبحة بالمعنى الكامل، راحوا يحرقون البيوت ويذبحون المواطنين، ولدينا روايتان، الأولى صاحبها المؤرخ المصري ابن إياس، والثانية لمؤرخ تركي عاصر تلك الفترة هو أحمد باش زاده، واعتمد عليها المرحوم د.أحمد فؤاد متولي أستاذ اللغة التركية بجامعة عين شمس في دراسته لهذه الحقبة.
يقول ابن إياس "إن العثمانية طفشت في العوام والغلمان من الذعر، وغير ذلك، ولعبوا فيهم بالسيف وراح الصالح بالطالح" ويواصل ابن إياس وصف وتقييم ما حدث بالقول "صارت جثثهم مرمية على الطرقات من باب زويلة إلى الرملة، ومن الرملة إلى الصليبة إلى قناطر السباع إلى الناصرية إلى الصليبة" ثم يحدد العدد بالقول "فوق العشرة آلاف إنسان في مدة هذه الأربعة أيام"، لم يكن هناك وقتها إحصاء دقيق للسكان، ولكن من مشاهدته يحدد أنهم فوق العشرة آلاف، ولنتذكر أن عدد سكان مصر وقتها كان يتجاوز المليون بقليل، وفق السائد في كتابات ذلك الزمان، ترى كم يساوي هذا العدد بمعيار القرن العشرين أو القرن الحادي والعشرين.
المؤرخ التركي يضيف إلى رواية ابن إياس، أن هذه الأمور كلها تمت بأوامر من السلطان سليم الأول، يقول أحمد باش زاده: "وامتلأت أسواق مصر وزقاقها بالجثث والجيف، بحيث كان لا يمكن العبور منها"، ويتحدث باش زاده عن قتلى بأكثر من ستين ألف بين المصريين والجراكسة، نحن إذن بإزاء مذبحة كبرى، لا تقل خطورة عن مذابح الأرمن، وهي تؤكد أن الإمبراطورية العثمانية، كانت إمبراطورية المذابح من يومها.
واليوم نحتفل بمرور قرن على مذابح الأرمن، وبعد عامين بالضبط – سنة 2017 – وفي شهر مايو تحديدًا تمر خمسة قرون على مذبحة القاهرة، والتي انتهت بإعدام طومان باي شنقًا على باب زويلة، هل تستعد مصر للاحتفال بها، وهل يتذكر الضمير المصري وينتبه العالم إلى تلك المذبحة التي وقعت لأجدادنا في القاهرة؟! وهل تصر محافظة القاهرة على الاحتفاظ باسم السفاح سليم الأول على واحد من أكبر شوارع القاهرة؟!
نقلا عن مجلة المصور