الأحد 24 نوفمبر 2024

فن

نبوءة جمال حمدان حققها الرئيس السيسى

  • 3-11-2020 | 21:09

طباعة

فى  الاحتفال المهيب بافتتاح قناة السويس الجديدة تكلم الرئيس  عبد الفتاح السيسى  بفخر واعتزاز بالإنجاز الذى حققه المصريون وأشاد به العالم، فقناة السويس جزء من نبض مصر شغلت مفكريها وأدباءها  واستشهد بنبوءة  مفكر مصر الكبير العالم الدكتور جمال حمدان.  

(  لنا أن نطمئن  رغم كل التحديات والعقبات أن مستقبل  قناة السويس وثيق  كما هو مضمون بل ومشرق  أكثر مما كان  فى أى وقت مضى  فقط  بشرط أن نقبل التحدى وأن نتصدى للخطر باليقظة وبالإصرار وبالتخطيط الدءوب ثم بالعمل الحازم الحاسم.  

وها هى نبوءة جمال حمدان تتحقق وتصبح واقعا ملموسا  يجرى الآن  شريان المياه فى القناة الجديدة وسط فرحة المصريين وإعجاب العالم   

كان جمال حمدان قادرا على التنبؤ بما يحدث لمصر وما  يحدث للمصريين وما سيحدث لها ولهم. 

وكان من حظ مؤسسة دار الهلال أن يرتبط بها هذا العالم الجغرافى الرائد فى   علمه وخصّها بموسوعته النادرة فقدّم فى سلسلة  كتاب الهلال  عام 1967 ( شخصية مصر ) وكان الأول  فأصبح  وسيطا  عام 1970 ثم أصبح أربعة مجلدات ضخمة  فى الثمانينيات  ثم كتاب القاهرة وكان جزء منه مقدمة  لكتاب  الأديب  يحيى  حقى كمقدمة لترجمة  كتابه  ( دزموند ستيوارت )  ثم الجزء الخاص عن القاهرة فى "شخصية مصر"  ومقالات أخرى  ونشر فى كتاب الهلال  يونيه 1976  وتوالت الإصدارات  الأخرى مثل العالم الإسلامى  ـ  المدينة العربية ـ  6 أكتوبر فى الاستراتيجية العالمية ـ المدينة العربية ـ  استراتيجية الاستعمار والتحرير 

وقد رأى الكاتب  غالى محمد  كرئيس  مجلس مؤسسة دار الهلال التى  تحمل رسالة الثقافة والفكر منذ أكثر من مائة وعشرين سنة أن  يقدم لقراء مصر والعالم العربى ما كتبه مفكر مصر الكبير عن  قناة السويس فى الجزء الثانى من موسوعته تحت  عنوان  "وزن مصر السياسى"  

 وما أحوجنا الآن  أن نقرأ بل نعيد مرة ومرات  قراءة  كتب جمال حمدان  خاصة  "شخصية مصر" 

يجب أن يطلع عليها كل مصرى وعربى، وما أحوج شبابنا  إلى من يحدثهم عن مصر كما فعل جمال حمدان  بحماس العاشق  وموضوعية  العالم  وبصيرة الصوفى.  

جمال حمدان الباحث المدقق ولد فى 4 فى  1928  بقرية  ( ناى ) إحدى قرى  مركز  قليوب بمحافظة القليوبية، وكان والده مدرسا للغة العربية بمدارس القاهرة، وأتمّ جمال حمدان دراسته الابتدائية والثانوية بهذه المدينة،  وكان طالبا متفوقا بكلية الآداب  جامعة  فؤاد الأول  ( القاهرة حاليا )  وحصل  على درجة  ليسانس الآداب بامتياز؛ فعُين  معيدا  بهذا القسم  بعد تخرجه فى أكتوبر  1948 ووقع عليه الاختيار لاستكمال  دراسته العليا فى الخارج؛ حيث التحق بجامع  ريدنج  بانجلترا، وعمل مع الأستاذ "اوستين  ميللر" وأنهى تحت إشرافه  درجة الماجستير  والدكتوراة وعاد إلى عمله  بكلية الآداب  جامعة القاهرة  فظل يعمل بها حتى استقالته منها  فى  عام  1963 للتفرغ للبحث وقد أصدر جمال حمدان  أثناء عمله كأستاذ مساعد  للجغرافيا فى كليته  كتبه الثلاثة الأولى  (  جغرافية المدن  ـ    دراسات عن العالم العربى ـ  أنماط  من البيئات  ) وقد نال عنها  جائزة الدولة التشجيعية عام 1959 

وفى عام 1963 أصدر كتابه  ( المدينة العربية )   كشف فيه  العلاقة بين التكوين الثقافى والاقتصادى العربى الأصلى  فى القرون الوسطى  وبين العلاقات الاجتماعية والسياسية  والإدارية داخل بنية المجتمع، وفى عام 1964 أصدر كتاب  ( بترول العرب  ) ألقى فيه  الضوء للمرة الأولى على أهمية النفط الاستراتيجية والسياسية، وفى عام 1966 أصدر (إفريقيا الجديدة) 

 وبعد  نكسة 1967كان ارتباطه بدار الهلال التى أصدرت له موسوعته "شخصية مصر" التى كانت مشروع عمره الأساسى  على حد قوله، وتفرغ إثر ذلك لإنجاز صياغته النهائية لكتاب  "شخصية مصر"  وصدر  عن  دار الهلال   فى أربعة أجزاء (  أربعة آلاف صفحة  من القطع الكبير) وفى عام  1985 حصل على جائزة  الدولة التقديرية للعلوم الاجتماعية،  وفى العام  التالى حصل على جائزة التقدم العلمى من الكويت. 

وبلغت مؤلفاته أكثر من 20 كتابا، ينقسم بعضها  إلى عدة مجلدات ضخمة وكتابين باللغة الانجليزية وأكثر من 25  دراسة  مُطولة محكمة نشرت فى المجلات والدوريات العلمية وعدة مجلات بريطانية وفرنسية وعشرات من المقالات قبل وفاته المأساوية محترقا فى شقته فى 17 إبريل 1993  

تأتى الأهمية البالغة للدكتور جمال حمدان من أنه أحد رواد الجيل الذى حمل شعار النهضة والتنوير  بعد د. طه حسين والعقاد وأحمد أمين ودعا لثورة فكرية مستقلة فى الستينيات.  

والإبحار فى عالم وفكر حمدان يعكس رؤيته لمصر والعالم العربى والإسلامى والأخطار التى تحيط بالوطن  داخليا وخارجيا،  فهو رجل مصرى بسيط يفرح لوطنه ويحزن لما يصيب الوطن  من  أخطار  ينبه ويكتب ويتنبأ ويحذر وهذا هو ما يشغله وعاش من أجله.   

فارس الكلمة والعلم بعد عن الأضواء، وعاش بضعة وستين سنة دون أن يسمح للكاميرات وأضوائها أن تتجه  إلى ملمحه،  اختبأ من عيون الناس، وعكف على البحث والتأليف، وعاش فى محراب العلم  قارئا نهما لا يكتفى بكتبه  ومراجعه بل يقرأ دوريات عربية وأجنبية  متابعا كل ما يصدر  فى  مجال الفكر والثقافة.  

اهتم بالفنون التشكيلية  وصمّم  أغلفة كتبه، ويرسم خرائطها، وتميز بخطه  البديع،  واجتمعت فيه مواهب شتى، فهو  عالم وأديب وفنان  صاحب أسلوب مسبوك ومحبوك  ينسجم فيه المعنى مع المبنى  شديد الإعجاب بطه حسين وتوفيق الحكيم ويحى حقى، ويرى فى  كتب العقاد أنها تجميع  لمعارف سابقة  يهوى الغناء والموسيقى وكان يقلد  أغانى  عبد الوهاب القديمة، وكان مولعا بأغانى ام كلثوم  عاشقا للغناء الأوبرالى.  

وقد رسمه بالكلمات الكاتب الكبير كامل  زهيرى  فى مقال فى هلال  يوليو 1993  قائلا  (عود من أعواد  البردى  ممتدا فى استقامة طموح إلى أعلى  رشيقا بلطف  فوق رأسه تاج من الزهر المتوهج  من شدة الذكاء  واستوقفته جبهته  العريضة المفرطة كانها  جبهة عبد الوهاب أو جبهة الموسيقار الألمانى النمساوى  جوستاف ماهلر  صاحب أغنية الأرض ) فكتاباته العلمية الرصينة ومصطلحاته  تتميز بالموسيقى فتفوق فى أسلوبه العلمى الأدبى  المتفرد فى قدرته فى تحويل المجردات إلى محسوسات، وتلك قمة البلاغة حين  يصف موقع القاهرة  عند (خاصرة النهر)  أى عند ملتقى الدلتا بالوادى  وحمدان غواصا فى هموم الوطن وحضارته وعظمة موقعه، وقد حدد  دكتور عمر الفاروق فى كتابه ثلاثية  حمدان  (  مايو 1995 )   دوائر ثلاث  لجمال حمدان (  مصر  ـ العالم العربى ـ  العالم الإسلامى ) وهى أضلاع  مثلثة وجوانب هرمه وأبعاده ثلاثية توحد بينها رؤيته الشاملة  وتجمعها فى سياق متدرج متواصل تتجلى فى ثمار عديدة  وتجمعها الوطنية والقومية والحضارة فليس مما يضير القومية  أن يكون لكل وطن داخل إطارها شخصيته المتبلورة بدرجة أو بأخرى  داخل الإطار العام المشترك  ويقول (  الواقع  إنه على القومية أن تحترم الوطنية وتقرها  بمثل ما إن على الوطنية أن تعترف بالقومية وتقر بها ففى البدء  كانت الوطنية  ثم اتسعت وامتدت  ونمت  إلى القومية  والقومية بدورها  تبدأ ببيتك  .,. بالوطن  فأنت لا يمكن أن تكون قوميا  طيبا دون أن تكون وطنيا بارا )  

 وكان يؤكد أنه لا تناقض بين القومية والدين ولكن عندما تختلط الأدوار فى معترك التاريخ والسياسة  فالقومية  ثمرة  الشخصية الإقليمية لمنطقة من العالم. 

 الدين حضارة وثقافة  تتجاوز الوحدة الإقليمية فى إطارها الجغرافى وذلك بمقدار انتشاره  فوق عدد منها متنائية المسافة بما يجعل منه  إطارا  يتجاوز الوحدة الإقليمية بالضرورة وإذا كانت الشخصية الإقليمية  تهيئ للوحدة  فإن الإطار الحضارى  يدعو للتواصل وإذا كانت للوحدة مراحلها  فإن للتواصل درجاته وتتحدد الغاية فى الوصول  بكليهما  الوحدة والتواصل إلى أعلى مرحلة. 

وفى كتابه  (شخصية مصر1)  يتحدث  عن الجغرافيا بعرض محبب للنفس بغير  ما درسناه فى المدارس وبمنهج  يشجع على الاستمتاع  بهذا العلم الجاف فيقول ( ربما تكون الجغرافيا صماء ولكن  ما أكثر  ما كان التاريخ لسانها،  فالتاريخ  ظل الإنسان على الأرض كما أن الجغرافيا ظل الأرض على الإنسان ) ويرى حمدان أن طريق  الجغرافيا أكثر غنى  من  المناهج لأنه يجمع بين الزمان والمكان  ويقول : 

 ليست الشخصية الإقليمية تقرير حقيقة علمية مطلقة رغم أنها تعتمد أساسا على مادة موضوعية  بحتة أنها عمل فنى  بقدر ما هى عمل علمى  ... والجغرافيا هى فن التعرف على شخصيات الأقاليم ووصفها وتفسيرها .. إنها فلسفة المكان فلسفة علمية وعملية واقعية قد ترفع  برأسها فوق التاريخ ولكن تظل أقدامها راسخة ..  إنها فلسفة تحلق بقدر ما تحدق  

ولولا موهبته المتنوعة ويحكمها بصيرته المتذوقة للفنون ما كان يستطيع أن يخط شخصية مصر فموهبته أهّلته أن يستشف روح المكان  وهو المادة الخام  عند الجغرافى والرسام وقد أهّلته هذه المواهب مجتمعة  لتصبح الجغرافيا عنده علما بمادتها وفنا بمعالجتها وفلسفة بنظرياتها  

ومصر هى الشاغل الأول مولعا بها مهموما بقضاياها شارحا عبقرية موقعها  وأهمية وجودها للعالم  فيقول: 

إنها  بالجغرافيا  تقع فى إفريقيا وتمتد بالتاريخ إلى آسيا  متوسطة  بعروضها  موسمية بمياها وأصولها  هى فى الصحراء وليست منها، إنها واحة  ضد صحراوية بل ليست  بواحة وإنما  شبه واحة .. إنها فرعونية بالجد، عربية بالأب، بجسمها النهرى قوة بر، وبسواحلها  قوة بحر أى  تضع قدما  فى الأرض  وقدما فى الماء  .. بجسمها النحيل تبدو مخلوقا  أقل  من قوى ولكنها برسالتها التاريخية الطموحة تحمل رأسا أكثر من ضخم تقع فى الشرق وتواجه الغرب، وتكاد أن تراه عبر المتوسط تمد يدا نحو الشمال وأخرى نحو الجنوب ولهذا هى قلب  العالم العربى وواسطة العالم الإسلامى وحجر الزاوية  فى العالم الإفريقى.   

 وكانت رسالته  ألا ينبغى أن  يستسلم هذا البلد وسينهض  للحصول على حقه، وقدر مصر أن تتصدى  وأن تتحدى؛ فهذا دورها التاريخى. 

ولعل الوسطية هى البذرة الأساسية التى أثبتت قدرة مصر المدهشة على الاستمرار وهى  أطول دولة حافظت على وحدتها القومية  فلم يحدث خلال 6000 سنة أن انفرط عقد وحدتها   

 وبقدر  ما كتب بقدر ما يكشف  كتاب  "شخصية مصر" عن شخصية الكاتب وهذا يتضح من كتاباته   ورؤيته الواعية لوطنه فيقول: مصر تحتاج إلى فورة  حقيقية  كل بضعة عقود أو أجيال  تعيد تقليبها وخضها وتجنيسها ثم توجيهها إلى الطريق الصحيح بل إنها فى حاجة  إلى الفورة الشعبية كشرط للبقاء  الحق والحقيقى والوجود الكريم أى لكى تعيش ولا تنقرض معنويا وأخلاقيا  بمثل ما أصبح الحكم  الديمقراطى المطلق منذ الآن شرط عدم انحدارها وتدهورها). 

والأحداث التى  مرّت بمصر فى الأونة الاخيرة تفسر ما سجله هذا العبقرى الفذ  صاحب البصيرة والنبوءة وأن المصريين لايستهان بهم فهم أصحاب  إرادة ورؤية وبصيرة، ولكن يثورون عندما يفرغ صبرهم  وقد كتب حمدان نبوءته فى الثمانينيات وتحققت  فى 30 ــ 6 ـ 2014.

نقلا عن مجلة المصور

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة