السبت 29 يونيو 2024

"أكثر من كتب ماذا فعلت بالوثائق ؟".. من كتاب هيكل المذكرات المخفية لـ"محمد الباز"

فن4-11-2020 | 12:34

تنشر بوابة "الهلال اليوم" فصلاً كتاب "هيكل.. المذكرات المخفية" للكاتب الصحفي محمد الباز، والذي جاء تحت عنوان "أكثر من كتب ماذا فعلت بالوثائق؟"، ونقرأ فيه:

"أهم ما عندى مجموعة أوراقى الشخصية التى سجلت فيها بخط يدى ما رأيت وما سمعت، كتبتها كى لا أنسى حين الحاجة إليها لتوثيق السجل، أوحين يحين أوان الكتابة والنشر، وفى كل الأحوال فإن هذه الأوراق الشخصية ذاكرة رجل وليست ذاكرة وطن. 

لم أترك ما مر بى يضيع وإنما حاولت أن أسجله، ولا أتصور أن ذلك يحمل مظنة أى نوع من أنواع الاحتكار للحقيقة، فما أتيح لى كان متاحا لغيرى، فى مثل ظروفى، وكان الفارق الوحيد أن الكتابة كانت بحكم المهنة فى خواطرى، ولم يكن الأمر كذلك لغيرى، وإنما طرأ فيما بعد لسبب أو لآخر. 

هناك قيمة مضافة لما تدون وتكتب، إنها مشاعرك، وهى مسألة تخصك وحدك، ولا تلزم غيرك لكنها تكشف أمامك عندما تطالع الورق بعد وقت يطول أو يقصر، الطريقة التى نظرت بها إلى الحدث وقت أن سجلت ما لديك من معلومات وملاحظات، وقد تحتاج إلى مراجعتها وتأملها من جديد، قد ترى أنها كانت صائبة،  أو جانبها الصواب بحقائق أخرى تكشفت أمامك فيما بعد، لكنك كنت فى لحظتها على النحو الذى كتبت. 

لم أنشر كل ما كتب على ورق، وهذا طبيعى، استخدمته أحيانا بصورة مباشرة مع ضبط الصياغات، وأدخلت بعضه الآخر فى سياقات ما كتبت من روايات تاريخية، ورأيت فى بعضه الثالث أن وقته للنشر لم يأت بعد. 

وأنت عائد من مواقع الأحداث الكبرى تطرح عليك أسئلة عما رأيت، فإن لم يكن معك ورق عليه ملاحظاتك تفقد روايتك سلامة سياقها، وإن لم يكن من ضمن الورق ما تقدر أن تحصل عليه من محاضر ووثائق تفقد قدرتها على إقناع قارئك بأن ما تقوله ثابت ومؤكد. 

بهذه الروح دخلت إلى مجموعة من كتبى وأنا مسلح بوثائقى وما لدى من تدوينات، كنت أعرف أن وقتها سيأت حتما. 

(2)

لا أظننى أبالغ لو قلت أن صاحب الجلالة الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود هو الذى أغرانى أن أترك هذه المجموعة من الخطابات الموجهة إلى جلالته تنشر فى شكل كتاب، وهو الكتاب الذى صدر فى العام 1963. 

كانت الحرب التى يشنها جلالته بعصبية وضيق صدر على ما ينشر لى مكتوبا على صفحات الأهرام أو ما يذاع من إذاعات الجمهورية العربية المتحدة منقولا عن الأهرام هى السبب الأول والأخير فى ظهور هذا الكتاب وأنا بالتجاوز أسميه كتابا. 

وفى الواقع أن الخطابات الستة التى ضمها الكتاب – موجهة إلى صاحب الجلالة – نشرت فى الأهرام على مجموعتين، تباعدت الأيام فيما بينهما ما يقرب من أربعة أعوام، وتباعدت الظروف أيضا والملابسات. 

القسم الأول الذى يضم خطابين إلى صاحب الجلالة كتب فى بداية سنة 1958 عقب فضيحة محاولة الملك رشوة السيد عبد الحميد السراج لكى يقوم بإنقلاب على الوحدة ويضع قنبلة فى طائرة جمال عبد الناصر العائدة من دمشق إلى القاهرة بعد زيارته الأولى لسوريا، وكان مبلغ الرشوة كما يذكر الناس جميعا مليونى جميه استرلينى أعطاها الملك شيكات لعبد الحميد السراج، وقدمها السراج لرئيس الجمهورية العربية المتحدة، وحولها الرئيس لحساب مشروعات التصنيع. 

والقسم الثانى يضم ثلاثة خطابات إلى صاحب الجلالة وقد كتب فى نهاية سنة 1961 عقب فضيحة أخرى وأكاد أقول خيانة، قام بها الملك إذ دفع سبعة ملايين جنيه استرلينى أشارت إليها تحقيقات رسمية جرت فى سوريا بعد الانفصال، وكان دفعها استطرادا مع كراهية الملك لتجربة الوحدة الأولى من أول يوم لها حتى اليوم الأخير، فقد كان غرض الملك وهو غرض جميع أعداء الحركة القومية العربية، هو ضرب التجربة وايقاع الانفصال. 

ثم جاء بعد ذلك خطاب وحيد وأخير بعد ثورة اليمن ونجاحها وبعد محاولة الملك الجنونية لضربها وفشل المحاولة، ولعل اختلاف الزمن واختلاف الظروف والملابسات هو الذى يجعل اختلافا بين المجموعة الأولى من الخطابات وبين المجموعة الثانية فى معيار الحديث ورنينه. 

ومنذ ظهر أول خطاب من هذ المجموعة الموجهة إلى صاحب الجلالة، أتيح لى أن أعرف صداها لديه، وقد رواه لى بنفسه الشيخ يوسف ياسين مستشار الملك يرحمه الله. 

روى لى الشيخ يوسف ياسين مرة بعدها أن الملك طلب عدد الأهرام الذى نشر فيه أول خطاب، ثم طلب منه أن يقرأ له، فقد كان بعينى الملك ضعف يحجب الرؤية عنهما، وحاول الشيخ يوسف ياسين أن يثنى الملك عن سماع الخطاب حتى لا يعكر الملك دمه على حد تعبيره لكن الملك أصر على أن يسمع. 

وسمع الملك الفقرة من أول خطاب، وأعصاب وجهه كلها تلعب دون سيطرة منه تمكنه من التحكم فى حركاتها، وفجأة صرخ الملك،: توقف. 

وطوى الشيخ يوسف ياسين عدد الأهرام وقال الملك أنه يطلب احراق كل نسخة من الأهرام فى السعودية والقبض على حاملها واعدامه باعتبار أن ما كتبته فيها منشورات موجهة ضد جلالته تدفع إلى الثورة وتحض عليها.

وقد روى مؤلف كتاب " التيارات الأدبية فى الجزيرة العربية" أن نسخة الأهرام التى كانت تحمل واحدا من هذه الخطابات إلى الملك كانت تباع فى السعودية بمائة جنيه. 

وإدارة الأهرام ما زالت تحس بشطارة واحد من تجار السعودية مر بها بعد الضجة التى أثارتها الخطابات واشترى مائة نسخة من الأهرام دفع فيها هنا جنيها واحدا، ثم تولى التاجر بشطارته تهريبها إلى السعودية وباع النسخة بمائة جنيه، أى أنه ربح فى العملية 9999 جنيها. 

ولكن إذاعات القاهرة أفسدت الفرصة بعض الشئ على شطارة التجار، فقد كانت تذيع ما أكتب، ومع ذلك فإن الملك لم ييأس وراح كما تقول الأخبار يحرض جميعة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كما يسمونها فى السعودية، أو الأمر بالمنكر والنهى عن المعروف كما أسميها أنا على أن تمنع الناس من الاقتراب من أجهزة الراديو مساء يوم الجمعة لكى لا يسمعوا. 

وقال لى أحد الأمراء السعوديين أن الملك سمعه مرة يستشهد فى حديث له معه ببعض ما كتبت، وإذا الملك يستحلف الأمير، ويستحلف كل الأمراء أن لا يقراوا ما أكتب ولا يسمعوه، ويأخذ عليهم العهد والميثاق ويصل إلى حد أن يطلب منهم أن يحلفوا أمامه بالطلاق. 

وصل الحال مرة إلى حد أننى فوجئت صباح يوم من الأيام ببرقية على مكتبى من سيد كان مارا بجدة فى طائرة قادمة من العراق، وإذا هم يقبضون عليه فى جدة بلا سبب إلا أن لاسمه شبها باسمى، وطلب السيد منى أن أبعث له بشهادة أقر فيها وأعترف أنه ليس قريبا لى ولو من بعيد. 

ذلك كله كان فى ذهنى عندما جاءنى اقتراح إخراج هذه المجموعة من الخطابات على شكل كتاب.

 قلت لنفسى: فرصة أخرى لنشرها.

 وقلت: وفرصة أخرى لها كمجموعة واحدة تصل كلها إلى من يريدها مرة واحدة.

وقلت: فرصة أخرى لإغضاب الملك.

لقد وجدها مرة على صفحات جريدة، وعبرت الهواء فوق حدوده كلمات مذاعة، وها هى اليوم مرة ثالثة بيد يديه فى دفتى كتاب، وتحية وسلاما يا صاحب الجلالة.

(2)

كان كتاب " لمصر لا لعبد الناصر" لحظة من العمر لها إيقاع خاص، مزيج متداخل من الحزن والشجن، من الشعور بالاستفزاز والرضا بقبول التحدى، وهى لحظة من العمر كانت بداية لسبع سنوات لها قيمة معينة فى حياتى من سنة 1974 إلى 1981. 

سبع سنوات من قتال شديد كان هذ الكتاب هو الطلقة الأولى فيها من جانبى على الخطوط، وبعدها تزايد القصف المتبادل حتى وجدت نفسى فى النهاية وراء قضبان سجون طره فى سبتمبر 1981، مع كثيرين غيرى لم يجدوا مفرأ أمامهم عند نقطة فاصلة فى تاريخ مصر، غير حمل السلاح، بالموقف والكلمة والدخول إلى ساحة المعركة. 

والحاصل أن هذا الكتاب كان مجموعة مقالات صببتها فوق الورق على عجل، وفى مناخ ضغط غليظ لا تحتمل غلاظته، ودفعت بها إلى النشر حيث أتيح المجال له مدركا أنها البداية، وأما النهاية فعلمها عند الله. 

ولم يكن لهذه المقالات مجال للنشر فى حينه إلا خارج مصر، ولم أكن أتوقع أنها سوف تنشر فى مستقبل قريب داخل مصر، ومع ذلك فقد كان همى كله أن اقول وأن أسجل، ولتأت المقادير بعد ذلك بما تقضى به وتحكم، وقد كان. 

وشاء الله أن يجئ المستقبل الذى لم أتوقعه قريبا، وها هو الكتاب يطبع فى مصر وينشر لأول مرة، وهكذا أجد مناسبا أن أضع أمام القارئ المصرى صورة عامة للأجواء التى أحاطت به عند لحظة البداية. 

عندما أعلنت خلافى مع الرئيس السادات من خلال سلسلة من المقالات نشرت فى الأهرام ابتداء من أواخر شهر أكتوبر 1973 وحتى أول شهر فبراير 1974، ووجد الرئيس السادات بعدها أن استمرار بقائى فى الأهرام أصبح مستحيلا من وجهة نظره بسبب التعارض والتصادم بين آرائنا، وهكذا خيرنى بين دخول الوزارة أو العمل مستشارا للامن القومى معه، وكان ذلك حلا توفيقيا لا تحتمله طبائع الأحوال. 

أراد رحمه الله أن يضعنى أمام الأمر الواقع فأصدر قرارا بتعيينى مستشارا للرئيس واعتذرت، وتضايق هو من أننى فى يوم خروجى من الأهرام آخر مرة فى 2 فبراير 1974 أجبت على سؤال لوكالات الأنباء العالمية على نحو لم يرق له. 

وليومين تاليين جرت محاولات معى واتصالات، ولم أغير رأيى ولا موقفى. 

ومضت ثمانية شهور من فبراير إلى أكتوبر 1974، والطريق بيننا غير سالكة كما يقول إخواننا فى بيروت، حتى تفضل هو يوم أول أكتوبر فاتصل بى على غير انتظار، ثم تلاقينا وتحدثنا، واقترحت عليه بعد لقاء طويل أن نبقى أصدقاء، وأن نستبعد فى الوقت الراهن على الأقل أية فكرة عن المراكز والمناصب والمسئوليات قائلا: إننى فى الأوضاع الراهنة لا أريد غير مكان ومكانة الصديق. 

تكررت لقاءءاتنا وطالت أحاديثنا، وحضرت معه مفاوضاته مع " هنرى كيسنجر" فى المحاولة الأولى لفك الارتباط الثانى، وقد جرت فى أسوان فى شهر مارس من سنة 1975، ولم تنجح هذه المحاولة، ولم أكن شديد الأسى على فشلها، بل إننى أحب أن أتصور أنه كان لى نصيب ولو ضئيل فى إفشالها. 

المهم فى هذا الشأن هو ما حدث مساء يوم 11 إبريل سنة 1975 فى مكتب السيد ممدوح سالم وكان وزيرا للداخلية ومكلفا بتشكيل وزارة جديدة تخلف وزارة الدكتور عبد العزيز حجازى، التى قرر الرئيس السادات فجأة أنه يريد تغييرها. 

دعانى السيد ممدوح سالم إلى لقائه فى الساعة السادسة من مساء ذلك اليوم، ليعرض على الاشتراك فى وزرائته نائبا لرئيس الوزراء ومختصا بالاعلام والثقافة، وسمعت عرضه الرقيق كاملا بما فيه تصوره لمهمة وزارته وآماله فيما تستطيع تحقيقه، واتفاقه مع الرئيس السادات على مجلس للسياسات العليا يرأسه رئيس الجمهورية ومعه رئيس الوزارة وخمسة نواب لرئيس الوزراء أنا بينهم وأنهم سوف يعملون كفريق رسم ومتابعة سياسات الدولة بسلطات كاملة. 

وعندما فرغ السيد ممدوح سالم من حديثه أبديت له اعتذارى وأبديت له أسبابى مفصلة فى حوار بيننا استغرق ساعتين كاملتين، كانت هناك أسباب متعلقة بالسياسات الداخلية والخارجية للحكم وهى سياسات لا أوافق عليها وبالتالى لا أستطيع أن أنفذها أو أعبر عنها. 

وكانت هناك أسباب متعلقة بطبائع السلطة والحكم فى مصر وقتها، وكانت هناك أسباب أخرى، ثم قلت له إن لدى سببا آخر قد يبدو شخصيا والحقيقة أنه أكثر من ذلك. 

وقلت للسيد ممدوح ما يلى بالحرف تقريبا: إننى أرى الآن بداية حملة على عبد الناصر وهى حملة جائرة وظالمة، وأنا لا أستطيع أن أوافق عليها فضلا عن أن أشارك فيها، ولو حتى بطريق غير مباشر، ولسوف أجد نفسى شريكا فى هذه الحملة شئت أو لم أشأ إذا أنا قبلت منصب نائب رئيس الوزراء للإعلام والثقافة. 

سوف أجد نفسى أمام احتمالين لا ثالث لهما: 

إما أن أترك الحملة تستمر وتتزايد وهو ما أتوقعه مع الأسف. 

أو أن أمنع مثل هذه الحملة بسلطة الرقابة، ومهما يكن من رأيى فى شان هذه الحملة، وفى شأن القائمين بها، وفى شأن القوى العربية والدولية التى تشجع عليها، فإننى كصحفى لا أتصور أن أستعمل سلاح الرقابة لمنعها. 

ثم قلت له: إننى وقد اعتذرت عن المنصب أريد ولوجه الله والوطن أن أنبه إلى مخاطرها، فهذه الحملة سوف تؤدى إلى تقويض شرعية النظام، لأنها تضرب فيه عند الأساس، والحقيقة أن ما يحدث هو أشبه ما يكون برجل يقف على فرع شجرة ولا يشغل نفسه إلا بقطع جذعها، ناسيا أنه إذا سقط الجذع فإن كل الفروع سوف تنهار. 

قلت هذ كله بتفاصيل التفاصيل، وقلت غيره وبقيت على اعتذارى ولم أغير رأيى. 

ومرت أسابيع وشهور والحملة على جمال عبد الناصر تتزايد وتشتد يوما بعد يوم، ولا تعرف حدا تقف عنده بل وتستبيح كل الحدود، التاريخ والأمانة والأخلاق والشرف جميعا. 

ولم تكن الحملة فى حقيقة الأمر على الرجل نفسه، فالرجل نفسه كان فى رحاب الله منذ سنوات وليس بعين البشر جميعا من يملك له ثوابا أو عقابا. 

كان واضحا أن الحملة تستهدف مبادئ معينة، وقيما معينة، ولحظات معينة فى تاريخ مصر وأمتها العربية، وكان واضحا أن هذا كله يجرى لحساب قوى وأطراف بعضها يعرف ما يفعله وبعضها لا يعرف. 

ويوما بعد يوم أشعر أكثر وأكثر بالضيق والاستفزاز، وذات يوم قررت أن أكتب مجموعة مقالات تحت عنوان" لمصر لا لعبد الناصر" وكتبت هذه المقالات، ثم جرى جمعها بين دفتى كتاب. 

لقد نشرت هذه المقالات أيامها خارج مصر لأنه لم يكن أيامى وقتها مجال فى مصر، وفى كل الأحوال فلست واحدا من الذين يعترفون بوجود خطوط حدود إقليمية على أرض الأمة العربية، ولم تزعجنى كثيرا تهمة الإساءة إلى مصر خارجها، وقد بدأ توجيهها إلى فى تلك الأيام، فلقد كنت أعرف فى صميم قلبى أننى بما أكتب لا أسيئ إلى مصر، وربما قلت بغير إدعاء إن يقينى كان عكس ذلك.

(3) 

فى العام 1977 صدر لى كتاب "الحل والحرب" وكان عبارة عن مجموعة أحاديث كتبتها فى الفترة ما بين بدايات سنة 1976 وبدايات سنة 1977، وهى ليست كل ما كتبت فى هذه الفترة وإنما هى مجرد نماذج منه، فكرت ثم ترددت ولعلى أقول تجاسرت فوضعتها بين دفتى كتاب. 

والسبب فى هذه المشاعر المتعارضة أننى كنت أريد لهذه لأحاديث مجتمعة أن تروى قصة، وفى نفس الوقت فانا أريد لهذه القصة أن تضيف مشكلة إلى مشاكل، ومع ذلك ومن ناحية أخرى، وبصرف النظر عن القصص والمشاكل فقد كنت أتمنى أن أجد فى متناول كل يد يهمها الأمر ملفا مختصرا وجاهزا يمثل وجهة نظرى فى حوار دار على أرضنا العربية وتعرض لبعض قضايانا الراهنة وخصوصا أزمة الشرق الأوسط فى هذه المرحلة بالذات. 

ولم يكن فى استطاعتى أن أمثل دور القردة الثلاثة فى اللوحة المشهورة أحدها يغطى عينيه فلا يرى، والثانى يغطى أذنيه فلا يسمع، والثالث يغطى فمه فلا ينطق. 

وهكذا اشتركت فى الحوار ملتزما قدر ما استطيع بأدبه كما ينبغى أن يكون، وبالموضوعبة لا تنحرف بها الأهواء، وباستقامة القصد لا تتجاوز الحد أو تتعداه، ولست أعرف إذا كن ت نجحت فيما التزمت به أمام نفسى أو أننى لم أنجح، ولكنى وجدت أن بعض الذين تصدوا للرد على مشاركتى فى الحوار قد تركوا ما عرضت له من اجتهادات تحتمل الصواب والخطأ، وانصرفوا إلى شئ آخر. 

انقلب الحوار إلى معركة لا مبرر لها، فضلا عن أننى لم أسع لها، ولا تصورت أن شيئا مما قلته يستوجبها، ولقد أدهشنى أن بعض الذين قلبوا الحوار معركة –  فى صحف القاهرة – لجأوا إلى أسلحة لم يعد لها وجود فى العصر الحديث وفى عوالمه المتمدنة، أو هكذا كنت أظن. 

كانت الأحاديث التى يضمها " لمصر لا لعبد الناصر"  بين دفتيه تنقسم إلى أربعة مجموعات: 

الأولى: مجموعة من أربعة مقالات بعنوان إلى أين من هنا؟ وقد كتبت فى مطلع سنة 1976. 

الثانية: مجموعة من مقالتين فى سلسلة عن جيمى كارتر الرئيس الجديد للولايات المتحدة الأمريكية، وكان أصل هذه المجموعة أربعا، ولكن اثنيتين منها كانتا بعيدتين عن جو القصة، فأولاهما كانت عن كارتر وانتخابه، والثانية عن كارتر ورجاله، وهو حديث استنفد أغراضه لأنه كان مرهونا بوقته، وأما الثالثة والرابعة فى هذه السلسلة فقد كان موضوعهما على التوالى، كارتر وأولوياته ثم كارتر وأزمة الشرق الأوسط، وقد احتفظت بهما فى هذا الملف، لأنهما على صلة وثيقة بالقصة وجوها ووقائعها، وكنت قد كتبت هذه السلسلة عن كارتر فى نهاية سنة 1976، وبالتحديد فى شهر نوفمبر أى غداة انتخاب جيمى كارتر رئيسا للولايات المتحدة. 

والثالثة: مجموعة من ست مقالات عن عالم بغير كيسنجر، وكانت محاولة لدراسة أسلوب هنرى كيسنجر فى إدارة الأزمات الدولية، مع تركيز خاص على إدارته لازمة الشرق الأوسط، وقد كتبت هذه المجموعة فى مطلع شهر يناير 1977 حين كان هنرى كيسنجر يجمع أوراقه الخاصة من مكتب وزير الخارجية الأمريكية ويستعد لتجربة الانتقال من دائرة الضوء إلى عالم الظل. 

والرابعة: مجموعة من ست مقالات أيضا، وكانت عن الموقف التفاوضى العربى، وقد كتبتها فى مطلع شهر فبراير سنة 1977، وفى وقت اشتد فيه الجدل حول مؤتمر جنيف، وتعالت أصوات فى العالم العربى، تدعو وتطلب وتلح بضرورة عقده قبل نهاية شهر مارس سنة 1977. 

هذه هى المجموعات الأربع من المقالات التى ضمها " الحل والحرب"، وقد نشرتها بنصها الحرفى وكما كتبت كلا منها فى حينها – أى أننى لم أراجع ولم أغير وإنما تركت كل شئ فيها على أصله وبكل ما يحتويه من اجتهادات أثبتت التطورات اللاحقة صوابها أو أظهرت خطأها أو استبقتها إلى الآن معلقة فى الميزان. 

لماذا فعلت ذلك؟ لماذا جمعت هذه المقالات بين دفتى كتاب، يكون ملفا مختصرا وجاهزا بوجهة نظرى فيما تعرضت له – خلال الحوار – من قضايا نضالنا الراهن؟ لماذا حرصت على أن أترك كل شئ فيها على أصله، لا أراجع ولا أغير؟ لماذا؟ 

هل أريد أن أتمسك معاندا ومكابرا برأيى لا أتزحزج عنه بصرف النظر عما تجئ به التطورات؟ ... لا أظن. 

هل أريد أن اثبت حقا أو ادعاءا أننى كنت على صواب وأن غيرى كان على خطأ؟...  لا أظن. 

إذن ماذا أريد؟ ... ربما قلت أن ما أريده حقيقة أبسط من ذلك بكثير.

 ربما قلت أن كل ما أريده هو أن أتحمل مسئولية كل ما قلت، ولهذا فإننى أريد أن تكون الحدود واضحة، وليس هناك ما هو أكثر تحديدا ووضوحا من دفتى كتاب، وهذا بالضبط ما أفعله، خصوصا بعد أن اكتشفت مما قرأته فى بعض صحف القاهرة أن السبب الحقيقى وراء هجمة الرمى بالسهام المسمومة، كان مجموعة " الموقف التفاوضى العربى" 

(4) 

كان كتاب " زيارة جديدة للتاريخ"  على نحو ما سعيد الحظ، فقد جرت كتابة فصوله سنة 1985، وفى ظروف الإنتهاء من عمل قدمته للنشر الدولى وبداية التركيز على عمل تال بعده فى نفس المجال، وطبقا لقواعد النشر الدولى فإنه لابد أن تنقضى فترة سنتين بين نشر عمل وبين جديد وراءه، حتى يأخذ السابق فرصته دون أن يزاحمه - من نفس الكاتب – لاحق يغطى عليه أو يزيح. 

كان هذا الكتاب إذن فترة استراحة بين سفرتين، وفى هذه الاستراحة وبينما رحت أقلب بعض الملفات والأوراق وتأهبا للجديد، صادفت مذكرات وخطابات وصور أعادت إلى الذاكرة ساعات سبقت عشت فيها مع بعض من قابلت، وتداعت مواقف ومشاهد، وخطر لى – وأمامى فسخة من الوقت – أننى أستطيع أن أستعيد وأتأمل بل وأتحاور من جديد ( فى الضمير) مع كبار أتاحت لى الظروف فرصة أن أتعرف إليهم وأحاورهم وجها لوجه. 

وكذلك اخترت ست شخصيات وجدت ما يخصها جاهزا أمامى، ثم رحت أكتب عن أيام معها، واخترت للفصول عنوان" زيارة جديدة للتاريخ" وشرحت قصدى فى مقدمة مهدت بها، ثم كان مفاجئا أن هذه الفصول التى كتبتها فى فترة استراحة – صادفت حظا حسنا لدى جماهير القراء فى العالم العربى حتى صدر الكتاب الذى جمعها فى اثنتى عشر طبعة خارج مصر، فقد كان النشر الأول فى بيروت، فى ظروف كانت تعترض النشر لى فى مصر. 

ثم حدث بعد أن تغيرت الأحوال أن الصديق الأستاذ إبراهيم سعدة وهو وقتها رئيس تحرير جريدة أخبار اليوم أطلع على هذه الفصول فإذا هو ينشر بعضها على حلقات فى جريدته الأوسع انتشارا. 

وراحت نسخ من الكتاب تصل إلى مصر، ورحت أتلقى رسائل كثيرة من قراء أصدقاء اهتموا بما قرأوا، ثم زاد فضلهم فكتبوا بما رأوا. 

وخطر ببالى إزاء ذلك الإهتمام أن أزيد فى الفصول بما يسمح بجزء ثان، وربما ثالث من الكتاب، فقائمة من قابلت طويلة، لأن الأيام سمحت لى أن ألتقى بأقطاب الزمن الذى عشته ونجومه، وبالتالى فان ما لدى فيه فيض وزيادة، لكننى انشغلت عن ذلك الخاطر بطوارئ الأحداث الجارية، وربما أن حظ الكتاب الأول جعلنى أخشى من ثان يلحق به. 

ثم حدث أن الصديق الأستاذ إبراهيم المعلم جاءنى بإقتراح إصداره من جديد، ولم يكن فى مقدورى غير أن أستجيب، ثم أحسد الكتاب على حسن حظه مع قرائه. 

بدا الكتاب مختلفا عن غيره، وكنت قد اخترت فكرته بإقتراح من هيئة تحرير جريدة " القبس" عنوان" زيارة جديدة للتاريخ، والعنوان كان يحمل ثلاث كلمات" زيارة... وجديدة ... وللتاريخ". 

كلمة زيارة تعنى إلى حد ما أننى أعود إلى لقاء أشخاص عرفتهم قبل، وعودتى إليهم محاولة لتجديد المعرفة ولإبقاء حبلها موصولا وتوثيق أواصرها إذا استطعت، وهكذا فإنى أعود إلى أحاديث رجال أتاحت لى ظروف حياتى وتجربتى أن ألتقى بهم وأن أحتك بأفكارهم وآثارهم، وأن أسبر – بقدر ما هو ممكن – أغوارهم، وأحاول – بقدر ما هو متاح – استكشاف أسرارهم وكيف ولماذا بلغوا من نفوذ على التاريخ الذى عشناه والذى نعيشه. 

وأشهد أننى كنت سعيد الحظ بمن لقيت، فلقد أتاحت لى الظروف أن أرى قمم عالمنا المعاصر، وأحيانا عشت وسطها أراقب وأتابع مدركا فيما بينى وبين نفسى أن الأيام منحتنى شرف أن أتتلمذ على التاريخ نفسه بواسطة صناعه أو المشاركين مباشرة فى عملية صنعه. 

ولقد كان من بينهم ملوك وزعماء وساسة، وقادة حرب وأساطين علم وفكر قامت أصابعهم – خلال أربع حقب بين الخمسينات والثمانينات بتشكيل دنيانا كما نعرفها الآن. 

وجديدة وهنا تحتاج المسألة إلى توضيح فأنا هنا أستعمل الكلمة بغير مدلولها الحرفى الضيق، بمعنى أننى لم أعد فعلا إلى زيارة كل هذه الشحصيات التى أكتب عنها، فذلك لم يعد ممكنا حتى ماديا بالنسبة لبعضهم، فهناك بينهم من فارق دنيانا ولم يعد فى إمكان أحد منا أن يعود ليزورهم من جديد إلا فى عوالم الفكر، وهذا ما أفعله. 

وصحيح أن بعضهم ما زال معنا، ولكنى لم أعد إلى زيارة أى منهم مرة أخرى لغرض كتابة هذه الصفحات. 

هى إذن عودة بالفكر وليست عودة بالجسد، أى أننى أعود إلى أوراقى وانطباعاتى ثم أترك نفسى أفكر وأتأمل. 

أفكر وأتأمل بفعل المضارع أى فى ما هو قائم الآن، وبفعل المستقبل أى فى ما هو محتمل غدا، وليس فقط بفعل الماضى أى ما جرى فعلا وكان. 

وبالطبع فأنا لا أنسب إلى أحد ما لم يقله مستغلا واقع غيابه، وبالطبع – أيضا – فأنا لا أنسب لأحد ما لم يسمح لى حاضرا بأن أنسبه إليه وإن كان قد قاله لعلمى، فغياب أحدهم أو حتى حضوره مع مرور الأيام لا يعفينى من التزامى أمامه بحفظ ما أفضى إلى ثقة وأمانة. 

لا أفعل شيئا من هذا أو قريبا منه بالطبع، وبالقطع فكل ذلك خارج عن أصول القول وحدوده وحقوق المجالس وحرماتها، وإذن ما الذى أنوى فعله؟ 

إننى لا أنوى أن أعود للماضى بممارسة اجتراره: مضغة مرة أخرى وتكراره مرة ثانية. 

ثم إننى لا أنوى أن أجعله حديث ذكريات مما يرويه الآباء للأبناء أو للأحفاد، يحكون لهم حكايات الماضى وقصص أبطاله بصوت يختلج فيه الدفء والحنين إلى أيام مضت ورجال ذهبوا ودنيا غير الدنيا وأيام تباعدت عن أيام. 

لا أقول ذلك وليس فى نيتى، فالماضى لا يعنينى على الأٌقل فى فصول هذا الكتاب، وإنما الحاضر والمستقبل هما هاجسى وشاغلى قبل وبعد أى اعتبار. 

والسؤال: كيف أزور الماضى وآخذ معى إليه الحاضر والمستقبل؟ 

وإجابة السؤال هى أن الجسد لا يستطيع ولا يقدر، وإنما الفكر يستطيع ويقدر، الفكر ومعه التأمل، ومع الاثنين يقين بأن التجربة الإنسانية لا تنقطع، كما أن حركة التاريخ لا تتقدم من فراغ ولا تترك وراءها ثغرات يطل منها هباء أو خواء. 

بمعنى أدق فهناك كثير رأيته وسمعته فى الماضى ولم أستطع أن أقدر فى حينه معانيه الحقيقية أو مراميه البعيدة. 

ثم إن هناك كثيرا رأيته وسمعته وكان متاحا للنشر ولكنى لم أنشره، لأن ضغوط الحوادث وتكوراتها فى حينه نقلت مواضع الاهتمام وغيرت مواقع التركيز. 

وكذلك فإن هناك كثيرا مما رأيته وسمعته اكتسب قيمة مستجدة عندما تعرض لاختبارات الحاضر، مما يجعله صالحا لقياس المستقبل. 

ثم إن هناك كثيرا مما رأيته وسمعته حوى دروسا وعبرا تستحق منا أن نراجعها ونستخلص منها ما يحتمل أن يكون غذاء لنا وزادا فى ظروف قد تكون متشابهة ولا أقول متماثلة. 

وصحيح أن التاريخ لا يكرر نفسه لاختلاف الناس والأمم والأحوال، ولكن أليس صحيحا أيضا  أن هناك قوانين للتاريخ، وأن هذه القوانين تعمل أحكامها إذا تجمعت عناصر وعوامل تستدعى مثل هذه الأحكام. 

بقيت الكلمة الأخير فى عنوان الكتاب وهى التاريخ. 

التاريخ ليس علم الماضى وحده، وإنما هو – عن طريق استقراء قوانينه – علم الحاضر والمستقبل أيضا، أى أنه علم ما كان وما هوكائن وما سوف يكون. 

وهكذا فإننى عدت إلى شخصيات قابلتها فى الماضى مستعيدا صورتها الكاملة أو شبه الكاملة فى أوراقى، محاولا برؤية معاصرة إذا استطعت تسليط أضواء على أجواء تحيط بنا فى العالم العربى بالذات، مركزا على قضايا ومشاكل تستغرقنا اليوم وسوف تستغرقنا بعده وبعده. 

قضايا مثل الحرية والديمقراطية، قضايا مثل الحرب والسلم، قضايا مثل العلم والمعاصرة... إلى آخره. 

قضايا تلح علينا فى حاضرنا هذا، وسوف يزداد إلحاحها علينا فى صبح غد، هكذا خطرت لى ثم أمسكت بى هذه الفكرة، زيارة جديدة للتاريخ، مشاعل من معابد التاريخ لإضاءة تخوم جديدة فى معالم التاريخ. 

وقد يسالنى سائل: لماذا اخترت عددا محدودا أكتب عنه ضمن كل من قابلت من الكبار وهم بالعشرات على الأقل؟ وعلى أى أساس؟ وماذا كان معيار الإختيار؟ أهى الأهمية؟ أهو التسلسل الزمنى للمقابلات؟ أو ماذا؟ 

والحقيقة أننى لا أستطيع أن أقطع فى هذه الأسئلة بجواب. 

إن الكبار الذين عدت لزيارتهم على صفحات هذا الكتاب لم يكونوا كل من رأيت من أقطاب التاريخ المعاصر، وبعضهم لم يكن من أهم من قابلتهم خصوصا إذا قارنتهم بغيرهم. 

وإذن لماذا هؤلاء السبعة بالذات؟ 

أكاد أقول إن ما شدنى إليهم فى هذه الظروف بالذات هو ارتباط أدوارهم التاريخية – ومن ثم احاديثهم معى وأحاديثى عنهم – بعدد معين من القضايا الكبيرة التى تشغلنى وغيرى فى الظروف التى جلست فيها لكتابة هذه الصفحات. 

ولعلى أجازف وأقول إن إلحاح قضايا بالذات هو الذى وجهنى – وربما دفعنى – إلى رجال بعينهم. 

قضية الديمقراطية هى التى ذكرتنى بلقائى مع خوان كارلوس ملك أسبانيا.

 قضية الحرب والسلام هى التى ذكرتنى بلقائى مع مونتجمرى قائد العلمين المنتصر.

قضية الخطر الماثل فى احتمالات الحرب النووية هى التى ذكرتنى بلقائى مع آينشتين صاحب نظرية النسبية... وهكذا وهكذا. 

القضايا كانت دليلى إلى الرجال، ولست أعرف إلى أى حد حالفنى التوفيق  فى إقامة التوزان بين القضايا وهى حية وممتدة وبين لقاءاتى مع الرجال وقد تمت كلها من قبل وتحددت نصوصها، ولقد حاولت وأتمنى ألا أكون قد وقعت فى خطأ مال معه الميزان أواختلت به خطوط الحدود. 

وقد يسألنى سائل أيضا: ولماذا لم يكن من بين من اخترت الكتابة عنهم الآن أحد من العرب؟ 

وردى أن ذلك اختيار اتخذته واعيا، ولقد كان فى استطاعتى أن أكتب عن كل زعماء وملوك وساسة العرب فى الأربعين سنة الأخيرة، لكن لم أفعل، وكان مبررى أمام نفسى أن زعماء وملوك وساسة العرب فى هذه الفترة يلزمهم إطار مستقل لأنهم أبطال قصة واحدة بأخيارها وأشرارها، ومن المعقول والقصة واحدة أن يكون إطار عرضها واحدا خصوصا والقصة معقدة وبعض رجالها أكثر تعقيدا من كل ما تستطيع الوقائع أن ترويه ومن كل ما تقدر الكلمات أن تنبئ به. 

واعترف أنه كان فى استطاعتى أن أواصل الكتابة عن كثيرين غير من كتبت عنهم الآن دون أن أجد حدا أقف عنده، لكنى – وهذا هو اعترافى – فرضت على نفسى أن أتوقف حينما بلغ حجم ما كتبته حجم كتاب طبيعى من كتبى وزاد، ولقد كانت أمامى وأنا أكتب قائمة تضم قرابة ستين اسما من الأعلام وكنت أستطيع أن أستمر، ولكن كان لابد من نقطة يتوقف عندها الكلام، وهكذا لم أستطع أن أقترب من قلة بين كثرة تمنيت أن أعود إليهم زائرا، مقبلا عليهم ومشتاقا، ذاكرا ساعاتى الطويلة فى صحبتهم وفى حضرة التاريخ. 

(5) 

كتاب " حرب الثلاثين سنة" هو مشروعى الأكبر، الذى اضطررت إلى قطعه بسبب كتاب حرب الخليج، وسبق ذلك مشروع عن الصراع بين القوتين الكبيرتين فى الشرق الأوسط، وقد أنجزت منه الجزء الخاص بالسوفيت فى كتاب " العرب السوفيت"، وكان المفروض أن أنجز بعده " العرب والأمريكان"، لكن جاءت الثورة الإيرانية فكتبت " مدافع آية الله".

 باستمرار هناك مشروع قائم لكنه قابل لأن تقطعه أو تعترضه الأحداث الطارئة. 

هذه المجموعة من أربعة مجلدات هى فى الواقع كتاب واحد، موضوعه حرب الثلاثين سنة، وتلك هى الفترة الواقعة بين سنة 1955 ( حين خرجت مصر تقاوم إنشاء حلف بغداد باعتباره طرفا يقيد شعوب الأمة ويربطها بهيمنة الغرب تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكة) وحتى سنة 1985 ( حين وقعت مصر اتفاق فك الاشتباك الثانى مع إسرائيل تحت إشراف ورعاية الولايات المتحدة الأمريكية، وكان ذلك تأكيد أنه صلح منفرد مصرى – إسرائيلى، وكذلك تبدلت الأحوال وتغيرت التوجهات. 

وفى تلك السنوات الثلاثين الحافلة ( من سنة 1955 – وحتى 1985) خاضت مصر ومعها شعوب الأمة العربية ثلاث حروب مسلحة مع إسرائيل: حرب السويس سنة 1956 ، وحرب سيناء سنة 1967، وحرب أكتوبر سنة 1973، وكانت هذه الحروب المسلحة هى الذرى العالية المتشتعلة بالنار لذلك الصراع ضد حماقة القوة الإسرائيلية ووراءها خطط الهيمنة الأمريكية. 

وعليه فإن هذه الكتب الأربعة تتابع تلك السنوات الثلاثين، وتوثق لها وتستعيد بالتفصيل وقائعها، وتتعرض للمواقف ودخائلها، وتتحرى أدوار الرجال إلى أبعد حد ممكن من الاقتراب، وكانت عناوين هذه المجلدات، ملفات السويس ( من 1955 إلى 1957)، سنوات الغليان ( من 1957 إلى 1966)، والانفجار ( من 1966 إلى 1967)، وأكتوبر: السياسة والسلاح ( من 1967 إلى 1973 وإلى سنة 1985)، وقد روت هذه المجلدات قصة واحدة كاملة ممتدة على مساحة هذا العدد من السنين. 

كانت تلك السنوات الثلاثين بالنسبة لى شخصيا سنوات الشباب، أو لعلها هضبة أواسط العمر، وكان عليها دخولى إلى دور نشيط فى الشاغل السياسى العام، إلى جانب انهماكى فى العمل المهنى الأصيل.

فى تلك السنوات من تاريخ مصر والأمة، كان لدى حظ أن أكون قريبا من جمال عبد الناصر حتى الساعة الأخيرة فى حياته سنة 1970، وقد تحاورنا طويلا ولم نفترق.

 ثم كان لدى حظ أن أكون قريبا من أنور السادات حتى انتهاء حرب أكتوبر، وقد تحاورنا طويلا ثم افترقنا، وتباعدت بيننا الطرق مع اختلاف رؤانا السياسية بعد دور السلاح فى حرب أكتوبر. 

وهكذا فإننى إلى جانب المتابعة المهنية تواجدت فى أجواء ووقائع حرب الثلاثين سنة بالمعايشة وليس فقط بالمتابعة، ومن الداخل وليس فقط من الخارج، وإذن فإن المناخ ما زال دافئا حولى – حاضرا حيا – متحركا ناطقا، وكأن عدسة تصوير أمسكت بالحوادث واللحظات والتقطتها وسجلتها على ذاكرة شريط حساس ومأمون. 

ومن الحق أن أقرر أن الطبعة الأولى من هذا الكتاب الواحد من أربعة أجزاء صدرت عن الأهرام وذلك عندما بادر رئيس تحريره ومجلس إدارته الصديق الأستاذ إبراهيم نافع إلى طلب حقوق تلك الطبعة من دار أندريه دويتش وهاربر كولينز فى لندن ونيويورك، وكانت حفاوة الأهرام ومركز النشر والترجمة التابع له، وفيه أيامها تلك الصديقة الغالية الراحلة نوال المحلاوى حفاوة بالغة. 

إلى جانب ذاكرة الشريط الحساس والمأمون كانت هناك محاولة ذهبت بعيدا فى التوثيق، لأن الصورة إذا لحقت تأكدت الرواية دون أى ظن أو إلتباس، وعند هذه النقطة فإن قضية الوثائق تستحق هنا وقفة، ذلك أن كثيرين بينهم عدد من الأصدقاء، أثاروا مسألة احتفاظى بصور من وثائق سياسية هامة وصلت إلى بذلك القرب من جمال عبد الناصر، أو من أنور السادات وكنت ذكرت أننى أحتفظ بجزء من هذه الوثائق خارج مصر حماية لها وصونا، وراح كثيرون يطالبوننى بإعادة هذه الوثائق، دون أن يتذكروا أن جزءا كبيرا من هذه الوثائق عاد ونشر فعلا فيما صدرمن كتبى فى السنوات الأخيرة. 

وبالتالى فإن ذاكرة مصر فيما يتعلق بما كان لدى محفوظة ومصانة موجودة، بجزء كبير منها ومنشورة فى سياق حرب الثلاثين سنة وغيره من الكتب، وقد أشير إلى ما ذكره المؤرخ الصديق الدكتور يونان لبيب رزق من أن كثيرين أخذوا على كثرة ما نشرت من نصوص وصور من الوثائق، وقد بلغت قرابة الألف صفحة ضمن الأجزاء الأربعة فى مجموعة حرب الثلاثين سنة، وزاد عليها قرابة ألف صفحة أخرى من الوثائق المنشورة فى كتب: المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل، والعروش والجيوش، وخريف الغضب. 

والحقيقة أننى قصدت إلى عرض الوقائع والأجواء، دون الاكتفاء بقول " إننى كنت هناك" والقصد أن أضيف إلى ذلك دليلا لا يقبل الشك، على صدق الرواية ودقة المشاهد، ومؤدى ذلك أن ما عندى من الوثائق ليس محجوبا، وإنما هو منشور ولا يزال ينشر ، أنه فى متناول اليد وتحت النظر. 

لعلى أذكر أيضا ما أشار إليه بعض الأصدقاء عن شريط مسجل لحديث طويل مع حسن يوسف باشا الذى كان وكيلا ورئيسا للديوان الملكى " يزيد عن خمس عشرة ساعة" وما أريد توضيحه هنا أن هذا الشريط جرى تسجيله سنة 1977، أى بعد خروجى من الأهرام بثلاث سنوات، وبالتالى فهو ضمن محفوظاتى الخاصة ولا صلة له بغيرها، فقد جرى تسجيل هذا الشريط فى بيتى الريفى فى برقاش، وبمحض مصادفة ليس عن تصميم مسبق، فقد كنا هناك ذات يوم فى شهر مارس من تلك السنة ومعنا صديقه وصديقى عبد الفتاح عمرو باشا، الذى كان سفيرا للعهد الملكى فى لندن، ودار الحديث بيننا عن عصور مضت، وتدفقت الذكريات واقترحت تسجيلها، ووافق الصديقان، بشرط أن يظل التسجيل فى حوزتى لا يخرج إلا بعد عدد من السنين. 

ومن الأنسب أن أقول أن الأصول من وثائق التاريخ المصرى الحديث وضعت بكاملها تحت تصرف لجنة كتابة التاريخ سنة 1975، وقد قام عليها ذلك الوقت نائب الرئيس حسنى مبارك، وكان مقر تلك اللجنة ومجمع أوراقها ووثائقها ومحفوظاتها قصر عابدين، حيث يوجد النصيب الأكبر من وثائق مصر الحديثة. 

لقد كتبت مجموعة حرب الثلاثين سنة لأجيال جديدة من الشباب فى مصر وعلى اتساع الأمة، فهؤلاء لم يكونوا معنا حين كنا هناك، ثم إن الأهواء والأغراض تلاعبت، قاصدة وعامدة وطمست الحقائق، وحكت بدلا منها ما يغطى عليها أو يشوه وجهها، لأنه كان مطلوبا ولا يزال  تغييب الذاكرة العربية، واغتيال الوعى والهوية، لكى يمكن تطويع المستقبل وتوجيهه بسهولة على هوى وأغراض الآخرين، ولذلك فإن هذه الأجيال من الشباب هى بالدرجة الأولى هدفى ومقصدى فهى وليس غيرها حاملة المسئولية والسائرة بها على دروب الغد واصلة به متنبهة ويقظى إلى أهدافه وأهدافها. 

(6) 

وأنا فى سبيل إعدادى لكتاب " حرب الخليج أوهام القوة والنصر" التقيت وتناقشت واستمعت إلى كثيرين من رؤساء الدول والقادة السياسيين والعسكريين فى العالم العربى، كذلك التقيت وتناقشت واستمعت إلى كثيرين من المشاركين فى صنع القرار فى الولايات المتحدة وفى أوربا. 

ولقد سمح لى بعض الكرام بينهم أن أطلع على أوراق وتقارير رسمية، وسجلات معلومات كانت فى حوزتهم بحكم المنصب والمسئولية، وإذ أعترف بالفضل لأصحابه ممتنا وعارفا، فإنى أجد من الضرورى أن أقول إنما استخلصته مما سمعت منهم أو قرأت بإذنهم تظل مسئوليته على وحدى، وليست على أحد منهم. 

ولقد كان هناك رجل واحد تمنيت لو أننى استمعت إليه وناقسته فى الأحداث والتطورات - هذا الصديق أحمد بهاء الدين -  كان مخطوفا منا جميعا فى وقت الأزمة فى أسار المرض، أمامنا وهو بعيد، ومعنا وهو صامت، وليس ذلك عهدى به، ولا عهد الناس، لكنها تصاريف الزمان ومفارقاته أن يبتعد من يحق له الإقتراب، وأن يسكت من يقدر على الكلام، ذلك أن بهاء قضى من عمره سنوات فى منطقة الأزمة وتأمل ودرس واستوعب، وفى لحظة الحاجة إلى علمه كان عطاؤه غائبا وهو الحكيم، وكان قلمه معطلا وهو الكفء المقتدر. 

ظل أملى معلقا بأن يعود بهاء، ذات يوم كما عاد غيره من الرهائن المخطوفين بعيدا عن أحبابهم، ثم نجلس معا كما كنا نفعل، ثم نناقش ولو بأثر رجعى حكايات الحرب فى الخليج، وما فعلته بنا الأيام وما فعلناه نحن بأنفسنا. 

لقد وضعت أصل هذا الكتاب باللغة الإنجليزية لمؤسسة هاربر كولينز وهى أكبر دور نشر الكتب فى العالم، وقد رأيت أن أقوم بنفسى على ترجمته إلى اللغة العربية ولا أتركه لغيرى يترجمه كما حدث مرات فى كتب سابقة، ومع تقديرى للجهد الذى بذله أصدقاء لى فى ترجمة ما كتبت إلى اللغة العربية، فقد آثرت هذه المرة ألا يكون الموضوع موضوعى فقط، ولكن أن تكون كلماته كلماتى أيضا حتى تتأكد مسئوليتى عما أفعل. 

والحقيقة أننى فعلت ما هو أكثر من ترجمة الكتاب عن أصله الإنجليزى، فقد ألحت على حقيقة أن كل لغة عقل متميز، وكل ثقافة تعبير خاص، ولما كنت مسئولا عن النص الإنجليزى نفس مسئوليتى عن النص العربى، فلقد سمحت لنفسى أن أتصرف مراعيا أن يظل سياق الكتاب سياقه، وبناؤه المنطقى بناؤه فى الحاليتن، وفضلا عن ذلك فإنه بين الانتهاء من النص الإنجليزى والانتهاء من النص العربى ثلاثة شهور ظهرت واستجدت فيها معلومات وأفكار وجدت مناسبا إضافتها ما دامت الصفحات مفتوحة ومحركات المطابع لم تدر بعد. 

وكانت سعادتى كبيرة عندما عرفت أن الأهرام بادر إلى احتضان الطبعة العربية من هذا الكتاب، فاتصل بمؤسسة هاربر – كولينز التى تحتفظ بحقوقه فى جميع اللغات، لكى تكون الطبعة العربية صادرة من القاهرة وعن الأهرام، ورغم أن عددا من كبار الناشرين العرب وفيهم أصدقاء كانوا يحاولون الحصول على الطبعة العربية، فإن سبق الأهرام وافق هواى مع أننى أقدر أنه يضع على كما قلت للاخ الكريم إبراهيم نافع رئيس مجلس إدارته وتحريره عبئا مضافا، ذلك لأنى أمام قارئ الأهرام ومطبوعاته أجد أن ولاءاتى المعنوية والعاطفية تتداخل مع التزاماتى العملية والمهنية لتجعل المسئولية مضاعفة. 

(8) 

فى 8 يناير 1996 صدرت الطبعة الإنجليزية من كتابى " المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل" ولظروف غيرمألوفة أو على الأقل غير عادية، تأخرت الطبعة العربية، وكان المقرر لها أن تسبق، وذلك تقليد حرصت عليه منذ أن سمح لكتبى أن تطبع وتصدر من القاهرة بعد قرابة عشر سنوات من المنع والحظر، كنت أمارس عملى من وطنى دون وسيلة لنشره فى هذا الوطن. 

طوال تلك السنوات من المنع والحظر كانت كتبى تطبع وتصدر من لندن ونيويورك ومن باريس وطوكيو، ومن مدريد وروما، وغيرها عبر القارات، وفى نفس الوقت كانت هناك طبعة عربية لهذه الكتب تخرج إلى طلابها من خارج القاهرة، كذلك فإن ترجمة هذه الطبعة وتقديمها إلى القارئ العربى كان يقوم بها غيرى، وكنت أقول لنفسى وللسائلين إنه يصعب على أن أكتب الكتاب مرتين، مرة باللغة الإنجليزية للنشر الدولى ومرة باللغة العربية، خصوصا وقد وجدت أننى عندما أتعرض لترجمة أعمالى إلى العربية لا أكتفى بالترجمة، وإنما تدفعنى اهتمامات القارئ العربى إلى الأبعد بالزيادة وإلى الأوسع بالتفصيل، وذلك يجعل الكتاب الواحد كتابين بالفعل. 

وقد شجعنى على ترك مهمة الترجمة إلى العربية لغيرى، أن مترجمين مقتدرين تفضلوا وأعطوا أعمالى من جهدهم ما يكفيها أو أكثر، وعلى سبيل المثال فقد قام الأستاذ محمد حقى زميلى فى الأهرام وقتها، على ترجمة كتاب " وثائق القاهرة" كما قام الصحفى اللبنانى الكفء سمير عطا الله على ترجمة كتاب " الطريق إلى رمضان" ثم قام الصديق العالم الدكتور عبد الوهاب المسيرى على ترجمة كتاب " مدافع آية الله" وهكذا، وكانت تلك أفضالا ومكرمات سعدت بها وعرفت لها قدرها، وظل الأمر على هذا النحو حتى جاء كتاب " خريف الغضب" ونظرا لحساسية موضوعه فقد آثرت ترجمته لنفسى وبنفسى إلى اللغة العربية، ولم يخطر ببالى أننى بذلك أرسيت سابقة لم أعد أستطيع التخلى عنها أمام القارئ العربى، وأغرانى على ذلك أكثر أن كتبى رفع عنها المنع والحظر فى مصر وأصبحت مطبوعة منشورة فيها بداية من سنة 1985. 

ومنذ ذلك الوقت صدرت لى كتب عديدة كان كل واحد منها فى واقع الأمر كتابين، طبعة إنجليزية هى الأصل لكل الترجمات، وطبعة عربية أقوم عليها بنفسى، ويتسع مجالها وتزيد تفاصيلها وتلتحق بها وثائقها، حتى يكاد الكتاب العربى أن يصبح بالفعل شيئا مختلفا عن الأصل الإنجليزى، وإن بقى الجوهر والسياق والاتجاه واحدا فى الحالتين. 

فى " المفاوضات السرية" تصرفت كما جرت عليه العادة منذ سنة 1985. 

تقدم الأهرام مبادرا بطلب الحقوق العربية كلها، سواء للنشر الصحفى أو على شكل كتاب، وتحمست حتى من قبل أن تجئ موافقة دار " هاربر كولينز" التى تملك حق التصرف فى أى تعاقد، وكنت واثقا على أى حال أنهم يعرفون من تجارب سلفت أنه حين يكون الأمر متعلقا بالأهرام فإن الموافقة تسبق التفاصيل بصرف النظر عما تقول به أصول صياغة العقود. 

استعدت الطبعة الإنحليزية من الكتاب للصدور من دار" هاربر كولينز" ومعها الطبعة اليابانية فى نفس الوقت، لكن الطبعة العربية التى ترجمت نصوصها بنفسى وتوسعت فيها وزدت عليها وألحقت بها وثائقها، واجهت ظروفا غير مألوفة، وحاولت تقديرالدواعى وأظننى فعلت مستجيبا لمشاعر وولاءات تعلو فوق الحقوق والعقود، وحافظا لصلات وصداقات تسبق فى حسابى أى حساب. 

وقد أضيف إلى ذلك أننى لم أطلب تفسيرا ولا تفصيلا، وبالى أن الطلب قد يحمل شبهة إلحاح لا أحتاجه أو شبهة ضغط لا أبتغيه. 

لعدة أيام كان أمامى عرض لإصدار هذه الطبعة العربية من بيروت، وعاودتنى ذكريات أزمنة المنع والحظر وأظن أن ذلك جعلنى أتردد. 

ظلت بيروت كريمة مع ما أكتب، حفية به وحانية عليه، وظلت فى كل الأوقات مركز إشعاع عربى يساير مركز القاهرة ويضاهيه، لكن الأمر هذه المرة كانت تخالطه اعتبارات نفسية من نوع آخر. 

لم تكن اعتباراتى النفسية تتعلق ببيروت، من حيث هى بيروت، وإنما كانت تتعلق بإحساس يخشى مظنة قبول طوعى بما يمكن أن يتبدى ولو بالرمز أو بالشكل درجة من درجات المنع والحظر على عمل يكتب فى القاهرة ثم يصدر وينشر خارجها كما حدث من قبل. 

ولعل من هذه النقطة بالذات، أننى رحبت وسعدت بعرض من دار الشروق لطبع الكتاب ونشره فى مصر، ومنها إلى بقية الوطن العربى، الذى لا أفرق فيه بين بلد وآخر عن إيمان عميق بأمة لها كل الخصائص الأمة الواحدة، بما فيها ذلك التنوع الخلاق الذى يميز الأمم العظيمة. 

ويتداعى إلى فكرى سؤال كثيرا مايواجهنى به أصدقاء فى الفكرة والكلمة، يسألوننى: لماذا لا أكتب بإنتظام فى الشئون الجارية؟ 

وفى العادة فإن ردى يقتصر على عبارة عامة مرسلة أن واقع المشكلة التى تواجهنى فى الكتابة بانتظام عن الشئون الجارية فى مصر معقد بأكثر مما يظهر على السطح، ذلك أن الصحف التى تصدر فى مصر نوعان، نوع يسمى بالصحف القومية، ونوع يعرف كصحف حزبية وأخرى خاصة، وأشعر على نحو ما أن كتابتى بانتظام أو بغير انتظام فى الصحف القومية قد تكون مسئولية ومخاطرة بالنسبة للقائمين على أمورها، وذلك ليس من مطالبى، ثم إن الكتابة بانتظام فى الصحف الحزبية تبدو لى استعارة لهوية ليست لى وذلك ليس من حقوقى. 

وفوق ذلك – وربما قبله – فإنه يخطر لى أننى كتبت كثيرا وما زلت أكتب أحيانا وتكلمت طويلا وما زلت أتكلم مرات، وقد يكون مناسبا أن أترك المجال لآخرين وأن أقرأ مع القارئين وأن أصغى مع السامعين، ولعله يرضينى أن يسأل أحد، لماذا لا يكتب هذا الرجل بانتظام؟ خير من أن يسأل أحد: لماذا يكتب هذا الرجل بانتظام؟ 

 (9) 

لم يكن يخطر ببالى أن المقالات التى أكتبها لجريدة" يوميورى شيمبون" اليابانية، والتى توزع على صحف كثيرة فى جنوب شرق آسيا، كما توزع بواسطة الوكالة الدولية لجريدة " لوس أنجلوس تيمس" فى الولايات المتحدة، يمكن أن تنشر يوما فى العالم العربى أو باللغة العربية، والحاصل أننى اعتبرت هذه المقالات نوعا من مجرد التواجد الدولى هناك بعيدا على شواطئ المحيط الهادئ، وذلك فى حد ذاته كاف، ولعله مرغوب. 

كان مجالى الدولى فيما سبق من تجربتى هو أوربا وما يمكن أن ينتشر عن اللغات الأوربية – الإتجليزية والفرنسية بالتحديد – إلى ما هو أوسع وأبعد، لكن منطقة شرق آسيا كنقظة ابتداء لم تكن حاضرة حتى جاء يوم فى بداية التسعينات تلقيت فيه اتصالا من جريدة " يوميورى شيمبون" ومعها وكالة لوس أنجلوس تيمس، تعرضان أن أشارك فى باب ثابت تحت عنوان" نظرات على العالم".

تفضل رئيس تحرير " يوميورى شيمبون" فأرفق برسالته قائمتين، قائمة بأسماء أكثر من 240 جريدة تصدر فى جنوب شرق آسيا وغرب الولايات المتحدة الأمريكية تحصل على حق نشر هذا الباب، ثم قائمة ثابتة بأسماء عدد من المشاركين – بانتظام – فى كتابة هذا الباب الثابت، وهم حشد من نجوم الفكر والسياسة فى العالم بينهم " آرثر شليزنجر" و" هنرى كيسنجر" و" مرجريت تاتشر" و" ميخائيل جورباتشوف". 

فكرت وداخل فكرى شئ من التردد حين بدا لى أن ذلك قد يؤثر على شواغلى الطبيعية إذ يأخذنى من وقت إلى آخر لمهمة قد تكون محدودة، لكنها تعترض المجرى الأساسى لجدول عملى كما هو مرسوم، وعلى نحو ما، وربما بحكم بقايا المواريث القديمة قبل ثورة القرية العالمية الواحدة، فقد بدا لى أن طوكيو مكان بعيد، وأن أى حديث ينشر وينتشر من هناك أشبه ما يكون بما كانت تردده الأمثال الشعبية المصرية المأثورة عن " الآذان فى مالطة". 

ثم كان أن أقبلت على التجربة متصورا أنها تستحق، سواء من ناحية كونها نوعا من التواجد الدولى على شواطئ المحيط الهادى، ثم من ناحية كونها اختبارا جديدا أمام قارئ مختلف، كذلك فإن صحبة المشاركين بانتظام فى كتابة هذا الباب الثابت مغرية، وفى الحالتين فهى فرصة لحوار مفيد مع أفكار الآخرين. 

لسنوات عديدة انتظمت فى الكتابة، أبعث مقالى باللغة الإنجليزية، ثم أنتظر أياما فأجده عائدا إلى باللغة اليابانية إلى جانب ظهوره فى مطبوعات أخرى بلغات آسيوية لا أعرف حتى كيف أقرأ اسمى فيها، وكل دليلى على صلتى بها صورتى منشورة وسطها. 

وحدث فى عدد من المرات أن جريدة " الأهرام ويكلى" التى تصدر باللغة الإنجليزية فى القاهرة عثرت على بعض مقالاتى اليابانية ونشرتها فى مصر بأصلها الإنجليزى، ومن ثم بدأ هنا – فى القاهرة وحولها – نوع من الالتفات إلى ما أكتبه هناك على الشواطئ الآسيوية – الأمريكية البعيدة على شطآن المحيط الهادى. 

ومع أنى حمدت ذلك، فإن فكرة نشر هذه المقالات فى اللغة العربية ظلت بعيدة عن شواغلى، رغم أن بعض الأصدقاء فى مجال النشر العربى طلبوها منى، وكان اعتذارى لسببين أبديتهما: 

أولهما أن تلك مقالات موقوتة بموضوعات جارية. 

ومن ناحية أخرى فإن نشرها باللغة العربية يقتضى أن أقوم على ترجمتها بنفسى إلى اللغة العربية، وذلك معناه كتابة المقال الواحد مرتين، وهو حال أشكو منه فى الكتب وليس معقولا أن أسحبه مكررا على المقالات. 

ثم جاء يوم زارنى فيه صديقى الأستاذ فهمى هويدى، وكان يتحدث معى فى شأن مقال من تلك المقالات اليابانية أثار بحكم موضوعه مناقشات فى القاهرة، لأنه دار حول رغبة الدكتور بطرس غالى فى ترشيح نفسه لمدة ثانية كسكرتير عام للأمم المتحدة. 

وكان لى رأى مختلف لرغبة بطرس غالى، وكان من دوافع هذا الرأى حرصى على الرجل وسمعته وكرامته، لكن المقال أثار بعد نشره فى اليابان وفى غرب الولايات المتحدة ثم فى شرقها جدلا واسعا، واتخذه البعض فى مصر سواء بسوء الفهم أو بسوء القصد فرصة للتشويش. 

رأيت ترجمة المقال إلى اللغة العربية ونشره بسرعة توضيحا للصورة وجلاء للحقيقة، وفى ختام المناقشات ذات اليوم سألنى فهمى هويدى: لماذا لا تنشر هذه المقالات باللغة العربية؟ 

شرحت له رأيى لكنه ظل متحمسا لاقتراحه، ثم إذا هو يحرض عليه صديقنا المشترك الأستاذ إبراهيم المعلم رئيس مجلس إدارة دار الشروق، ويوما بعد يوم وجدتنى أدير الفكرة فى رأسى، ثم أقترب منها بإختيار مجموعة من المقالات يمكن أن تظل لها بعض القيمة الإخبارية أو التحليلية رغم مضى الوقت، ورغم بعد المسافات، ثم رحت أجرب ترجمتها إلى اللغة العربية مدركا أن لكل لغة عقلا وأن لكل لغة أسلوبا، ولقد آثرت أن أحتفظ فى هذه التجربة بلغة وأسلوب الأصل، حتى وإن بدا إيقاع الحديث غير مألوف بالنسبة لقارئى فى اللغة العربية. 

كان الخيار الآخر أن أعيد كتابة هذه الأحاديث من الأساس بدلا من ترجمتها، وحينئذ يتغير وجه الموضوع كله، وكان السؤال المطروح هو: هل هناك ما يستحق فى هذا الذى يقال فى طوكيو وينتشر حولها، وعلى أقرب نحو من صورته الأصلية أو ....، ووجدتنى مستعدا للمجازفة بقبول رأى أصدقاء راوا أن هناك ما يستحق 

وكان المنطق الذى أقنعت به نفسى هو: ليكن أن هذه المقالات كانت " أذانا فى طوكيو" على طريقة " الأذان فى مالطة" كما يقول المثل الشعبى الشهير فى مصر، فأى ضرر يقع إذا سمعت أصداء هذا الأذان البعيد آتية من شواطئ المحيط الهادى إلى هنا على شواطئ البحار والخلجان العربية؟ 



 (10) 

فى العام 2001 كتبت فصولا، بدأت فيها بحديث عن مؤتمر القمة العربى فى عمان مارس 2000 وكان عنوانه" نهايات طرق" ثم إن هذه الفصول نشرتها فى كتاب ظهر فى العام 2001 والأمة تتطلع إلى مؤتمر قمة عربى فى بيروت مارس 2002، والظاهر ولسوء الحظ أن الطرق كانت تبدو نهاياتها وكأنها وصلت إلى تيه لا يظهر عليه أفق. 

مع بداية القرن الجديد – القرن الحادى والعشرين – بدا لى أن العربى أصبح هو التائه، وهو صدى بالمقلوب لتعبير شاع قبل ذلك قرونا عن " اليهودى التائه". 

وفى قرن سبق وهو القرن العشرين فإن ذلك اليهودى التائه وجد لنفسه مكانا حط فيه رحله، وحصن موقعه، وفى نفس الوقت فإن العربى اختلطت عليه الأمور، وبدا وكأنه ضيع عالمه وفيه تراثه ومستقبله، ثم إنه ارتحل لحاضره تائها بين الحقيقة والوهم، وبين الرؤية والسراب، وبين الحلم والعجز. 

وهكذا بدأ القرن الحادى والعشرون واليهودى الذى كان تائها متحصنا فى المشروع الصهيونى على أرض فلسطين، فى حين أن العربى الذى كان راسخا فى الطبيعة والتاريخ أصبح هو الشارد فى التيه، قد يعرف من أين، لكنه لا يعرف إلى أين، وكان ذلك هاجسى وأنا أعيد قراءة هذه الفصول حتى تظهر بين دفتى كتاب".