بقلم – حمدى رزق
بمناسبة التغيير الوزارى المرتقب، أذكر قبيل أحد التشكيلات الوزارية، أسر لى المهندس إبراهيم محلب المكلف رئيسا للوزراء، أنه تلقى ٤٠٠ اعتذار عن الوزارة من شخصيات عامة وأكاديمية وحزبية محترمة ومعتذرة عن حمل الحقائب الوزارية ، ولكل أسبابه !! .
لم يشأ أن يفصح المهندس محلب عن أسباب الاعتذارات، ولكن المهندس هانى محمود وزير التنمية الإدارية الأسبق حكى لى حكاية محزنة عن وزير سياحة ارتقى منصبه الوزارى فى وزارته التى كان يعمل بها وكيلا للوزارة، كان أقرب إلى تكليف وزارى منه إلى اختيار، وقبل الرجل المهمة الوطنية تكليفا لا تشريفا.
حاول الرجل قدر استطاعته الإنجاز فى ظروف جد قاسية، والضربات تتوالى على القطاع السياحى تعصف بكل محاولاته والعاملين معه، طائرات تسقط ، وعواصم غربية تحذر، ومنشآت سياحية تغلق، وكلما فتح بابا أوصدت فى وجهه أبواب، وحاق بوزارته فشل ذريع، لأسباب خارجة عن إرادته تماما وعن إدارته الكلية، وخرج بعد شهور قليلة موصوما بالفشل غير مأسوف عليه.
خرج الرجل يامولاى كما خلقتنى منتظرا معاش وزير، وإذ فجأة صدم بمعاش حكومى عن وظيفته السابقة يقل عن الـ١٥٠٠ جنيه وهو فى نهاية العقد السادس من عمره، ولديه أسرة وبيت وزوجة مريضة وأولاد على وش جواز وجهاز، الرجل المحترم ذهب إلى الوزير الجديد وقدم إليه طلبا بالعودة إلى وظيفته السابقة، وكيل وزارة، معتبرا أن الشهور الستة التى قضاها فى الوزارة إجازة بدون مرتب، وأنه كلف بالوزارة ولم يستقل من وظيفته.
كان الموقف محرجا، ونادر الحدوث وزير يعود إلى وزارته موظفا، كيف يعود الوزير إلى وظيفته مرؤوسا من زميل وزير، كيف ينزل الوزير من الوزارة إلى وظيفة فى نفس الوزارة، بد الأمر شاذا، والرجل مصر على العودة إلى وظيفته، لأنه صار وزيرا مشردا بمعاش لا يكفيه العيش الحاف، وأحيل الأمر إلى مجلس الدولة للفصل فى الأمر ولا يزال هذا الرجل المحترم ينتظر الفرج، ولسان حاله لو كنت أعرف خاتمتى ما كنت قبلت.
هذا مصير أحد الوزراء السابقين، ومصير آخر لقيه وزير كان نجاحه ملء السمع والبصر، ومحل إطراء ومديح القيادة السياسية ، ووزير دائم ومستقر فى وزارته وعنوان من عناوين نادرة لنجاح الحكومة فى تقديم الخدمات للطبقات الفقيرة، وسمى من بعض الأقلام بوزير الفقراء، نفس الأقلام التى نهشت فى لحمه يوم خرج باتهامات بالفساد تحدث عنها ركبان الصحف والمواقع والفضائيات.
خرج الوزير مشيعا بالاتهامات، فقط لأنه كان يسكن فندقا، ويدفع الفاتورة من ماله الخاص، ورغم خروجه المهين، لايزال متهما فى أعين المارة والعامة دون أن يقدم إلى محاكمة أو تجرى معه التحقيقات، حتى لتبرئته مما نسب إليه، ولكنه يحمل على كتفيه حتى الآن طائفة من الاتهامات كافية بإزدرائه بين أهله، دون بارقة أمل فى محاكمة قريبة تبرئ ساحته وتؤهله لقادم الأيام خاصة وأنه لايزال فى سن العطاء.
نفس المصير لقيه ثائر عمالى شهير قبل الوزارة فى ظرف استثنائى، وخرج مشيعا باتهامات بالاستيلاء على المال العام، وثبت أنها مكافآت مستحقة جرى تجريمها لاحقا دون أن يدرى أو ينبهه رجال الوزارة ، أوقعوه فى الخية، لم ينل الثائر الذى لم ينم أبدا على ظلم من الوزارة سوى بضعة مقالات اتهمته بالفساد، ولاتزال هذه التهمة تلاحقه رغم مبادرته برد الأموال التى كان اشترى بها شهادات قناة السويس الجديد باسم أولاده، لتبرئة ساحته التى لم تبرأ فى أعين تندب فيها رصاصة متلمظة لأكل لحم البشر.
جزاء سنمار ينتظر الوزراء، ربما فى هذا الحكى تفسير لطائفة من الاعتذارات المتوالية عن حمل الحقائب الوزارية فيما بعد ثورتى ٢٥/٣٠، مرتبات لا تزيد بأية حال عن ٣٠ ألف جنيه شهريا ، معاشات للوزراء ليست موجودة إلا فى ذهن المفتكسين وكتبة الفيس بوك، . مصير غائم ينتظر الوزير السابق بعد الوزارة ، إما أن يشحت لأنه لايجد عملا بعد أن ترك عمله الأصلى أو أغلق مكتبه عمله الخاص، أو يعود إلى الجامعة براتب أستاذ، أو تتلقفه الرقابة الإدارية بتهمة الفساد بناء على شكايات وحلنى على البراءة.
ومع فرص تكاد تكون منعدمة فى الإنجاز والنجاح فى قمة جهاز بيروقراطى يفشل مالم يعرف الفشل أبدا، وتعقيدات إدارية تغل يديه، وعقوبات لائحية ترعش يديه، وبلاغات كيدية وشكايات تصل به إلى النائب العام، وطلبات عمالية ووظيفية لاتنتهى، كلها تنعدم معها فرص النجاح فى العمل الوزارى، من يقبل بالفشل على نفسه وهو فى قمة النجاح، من يسعى إلى نهايته المحتومة ويقبل الوزارة ويكتب خاتمة حياته فى زنزانة ضيقة تضيق على أنفاسه ويقف متهما فى قفص أمام عدالة المحكمة.
لايبقى على المداود غير شر البشر، ولا يجلس إلى جنب الهاتف إلا كل من هو عبده مشتاق، الفشلة يتقدمون الصفوف ، والزلنطحية يتظاهرون بالصلاح، ولكن من يرى في نفسه صلاحا يقينا يعتذر ، ومن يمتلك القدرة والطاقة والإبداع والأفكار يعتذر، ومن يخشى على بدلته من التقطيع والتمزيق يعتذر، ومن يملك أسباب النجاح خارج الوزارة يعتذر، والتجارب أمام الجميع ونماذج البهدلة وقلة القيمة وتلطيخ السمعة والإحالة إلى النيابات والمحاكم والبلاغات والشكايات والاتهامات يجعل البعض يفر من الوزارة فراره من فم الأسد.
ماكينة الوزارة فى مصر تطحن عظام الوزراء، والحمل ثقيل، والناس مبترحمش، ورغم تطمينات الرئيس، وقوله نصا « امضوا وأنا اتسجن « ترياق لعلاج ظاهرة الأيدى المرتعشة، ولكن هذا ليس بكاف، والقانون مفيهوش ياما ارحمينى، وفر من الوزير المتهم فرارك من المجذوب، وكم من محترمين دخلوا إلى الوزارة مرفوعى الهامات، ومناخيرهم فى السما، وسمعتهم زى البرلنت، وخرجوا يامولاى كما خلقتنى، فقط موصومين بالعار، يجللهم الفشل ، ولا يجدون حتى منتدى يستقبلهم .
أذكر أن أحد رؤساء الوزراء السابقين كان فى قمة سعادته عندما دعاه أصدقاء قدامى للغذاء معهم ، وكنت حاضرا، فإذ بالرجل يحرك دموعى وهى عزيزة، عندما طلب الكلمة من أصدقائه، وقال : هذه أول مرة أخرج من بيتى منذ سنوات ، وأول مرة أتلقى دعوة ، وأول مرة أحس بأننى عايش، كنت قد دفنت نفسى على الحياة، وحكمت على نفسى بالبقاء فى البيت إلى أن يحين الأجل، وكنت كل ليلة اسأل ماذا جنيت والمحكمة حكمت ببراءتى، البراءة فى مجتمعنا ليست فى حكم المحكمة، المجتمع أصدر حكمه بالإدانة وليس على استعداد حتى بتبنى البراءة، الرجل يتمنى فرصة للحياة الطبيعية ولكن هيهات، همس أحدهم فى أذنى أنه كذاب عنده ملايين متلتلة ، بيعمل علينا الشويتين، هو فيه رئيس وزارة مش مليونير!!.
تأكدت ساعتها أن الإدانة ستظل تلاحقه حتى باب القبر، الرجل وكأنه خارج من الكهف، كبر عشر سنين، وهن العظم منه واشتعل الرأس شيبا، تخيل يا مؤمن وزير سابق صارت تهمة، والخروج من الوزارة صار سبة، والوزير السابق تضيق به الحياة بما رحبت، يعانى تماماً من مرض الوزارة، الوزارة مرض يسمى « وزارزم « أى مصاب بالوزارة، لا تعجب، لا أحد يقبل على الوزارة، والوزراء السابقون قالوا توبة من دى النوبة، للأسف الوزارة صارت كما يقولون ذنب سألت الله أن يغفره !.