السبت 28 سبتمبر 2024

الموسوعى فى رحاب الموسوعى: رجائى عطية فى مدينة العقاد

29-1-2017 | 10:43

بقلم – د. يوسف نوفل

لايتصدى للعمل الجاد إلا منْ يملك الآليات والأسباب التى تسيغ له ذلك، وتيسّر له أمره، وإلاّ ما استطاع بلوغ هدفه، وبخاصة إذا كان هذا العمل الجاد، أو الأعمال الجادة فى مكتبة مكتنزة بمؤلفات أرْبتْ على المائة كتاب، طيلة ما يقرب من ستين عاما من الإبداع، بدأتْ عام ١٩١٧، ولم يوقفها إلا رحيل العقاد فى مارس ١٩٦٤، وهذا ما نستقبله اليوم فى رحلة المفكر الكبير رجائى عطية إلى عالم مفكر من أكبر مفكرى العصر، وإلى مكتبة من إبداع كاتب من أعظم كتاب العصر: فكرا، وفنا، وأدبا، ونقدا، وتحليلا، ورؤية، وتنظيرا، وثقافة، وتنويرا، وهو عباس محمود العقاد (١٨٨٩ـ ١٩٦٤)، « سادن الاستنارة فى الإسلام»، فيما أطلق عليه رجائى عطية فى مجلده الثانى من كتابه الضخم ( فى مدينة العقاد) فى ٨٧٥ صفحة، الصادر عن دار الهلال منذ أيام .

كنت قد كتبْت، مفعما بإعجابى بالمجلد الأول (فى مدينة العقاد)، ومعجبا بهذا الجهد الجهيد الذى قدّم لنا قراءة واعية ذكية لجوانب من تراث العقاد وإبداعه ـ كتبت، وأنا معجب بتلك القدرة، وذلك الصبر، وتلك التضحية من المؤلف، وتصوّرْت، وقتها، أن المدينة الواحدة للعقاد بمثابة المدائن ـ بالجمع ـ بالنسبة لغيره، وها نحن أمام المجلد الثانى المبْحر فى محيط العقاد، بين شواطئه، وأمواجه، وروافده، وأنهاره، ومصباته، فى قراءة واعية للنظرات والنظريات الفكرية للعقاد فيما كتب فى مجال ( النبوات والإسلاميات):

إبراهيم الخليل أبو الأنبياء، وحياة المسيح، ومطْلع النور، فى طوالع البعثة المحمدية، وعبقرية محمد، ومقالات فى النبوة المحمدية، والعقاد والإسلام، والفلسفة القرآنية، والإنسان فى القرآن الكريم، وفى مذاهب الفكر، والتفكير فريضة إسلامية، والديموقراطية فى الإسلام، وحقائق الإسلام وأباطيل خصومه، والمرأة فى القرآن، والإسلام فى القرن العشرين، وما يقال عن الإسلام، وثر العرب فى الحضارة الأوروبية، والإسلام دعوة عالمية، والإسلامروالحضارةرالإنسانية، وصولا إلى ما ذكره رجائى عطية ـ بحق ـ جـــامعـــة العقـــاد.

فصّل القول فى تلك الجوانب الغنية الحافلة برؤية العقاد، ونظراته الثاقبة، مؤلف الكتاب، المفكر رجائى عطية، الذى أبرز لنا الغاية السامية لرسالة العقاد، والأهداف العظمى فى فكره، وهى (التنوير، والاستنارة)، ولهذا جعل الفصل الأخير للكتاب بعنوان صادق غاية الصدق، هـو ( جـامعــة العقــاد/ الدائرة الحاضنة) وصدق رجائى عطية فى شرح هذا العنوان، حين قال، شارحا نجاح العقاد فى « الدور التنويري، برغم كونه: « لم يكن صاحب منبر يتيح له التواصل مع الأدباء والساعين إلى المعرفة، فلم يكن أستاذا بجامعة له فيها زملاء وطلاب ومريدون، ولا كان صاحب دار نشر، أو جريدة يستطيع أن يستثمرها بانتظام لتحقيق هذه الرسالة، ولم يكن يعتمد إلا على ما يصدره من كتب، وما ينشر له من مقالات، هنا وهناك بين الدوريات المختلفة».

وهذا صحيح غاية الصحة، فجميع زعماء النهضة كانوا يملكون منبرا أو أكثر من منبر، من جامعة، أو دورية، أو هما معا، ومن مركز، أو موقع إعلامي، أو منبر سياسي، إلى جانب كتبه . هكذا ـ على سبيل المثال ـ كان طه حسين( الجامعة ، ومجلة الكاتب المصري.. إلخ)، وأحمد أمين( الجامعة، ولجنة التأليف والترجمة والنشر، ومجلة الثقافة..إلخ)، وسلامة موسى( إصدار المجلة الجديدة، ورئاسة تحرير مجلة الهلال .. إلخ)، وهيكل( السياسة، والسياسة الأسبوعية، وزعيم حزب، ورئيس مجلس الشيوخ..إلخ)، وأمثالهم، من معاصرى العقاد، ممن كانت لهم منزلتهم الفكرية وفى الوقت نفسه كانت لهم منابرهم الفوّاحة بعطائهم، والقائمة بدور إعلامى وتأثيريب واسع، لا يقلل من كفاءتهم الذاتية.

وهذا القول هو المفتاح الأمثل لدراسة آثار العقاد، وبيان منزلته المرموقة فى مجالات شتى من الفكر فى عصره، وما بعد عصره، والمفتاح المناسب لولوج مدينته حقا، ومشاهدة ساحاتها ودروبها وقممها ومناراته وآثارها، وهذا القول، أيضا، يصْدق على المكتوب عنه بمثْل ما يصدق على الكاتب نفسه، فكلاهما ـ العقاد، ورجائى ذلك الرجل الذى آمن برسالته المقدسة، فوهبها ما يملك، ماديا ومعنوبا، عن قناعة وإيمان، وعن رؤية فكرية سليمة النهج، صحيحة الطويّة، فبلـّغ الرسالة أيّما تبليغ، ثم لم يقتصر على ذلك. بل تعدتْ كلمته الحيز المكانى والحيز الزمانى، معا، وتدفقتْ موجاتها متتابعة إلى الأجيال المتتالية، قائمة بدور تنويرى واسع المدى، لم يقتصر على معاصريه. بل امتد منتشرا متغلغلا فى طبقات الزمان بين الخلف إلى يوم الدين، وذلك بتحقق سمات الاستنارة وملامحها ونورها، وبتحقق صفة العموم فى الرسالة الجامعة التى تتميز بها صفة «الجامعية»، حيث كان قد تنوع عطاؤه الفكري، ليشمل مجالات الأنشطة الإنسانية، بتنوعها، وتعددها، وبأجناسها الفنية، وقوالبها التعبيرية، على نحو ما نرى فى تنوع الروافد فى ذلك النهر العقادى الكبير، فى هذا المجلد، فى مجال الديانات والإسلاميات، ومن ناحية ثانية علينا أن نتذكر ما كان فى عتبة النص الذى بين أيدينا، أى فى عنوانه، ألا وهى صفة الموسوعية ـ التى لا يستطيع معرفة كنهها، والسباحة فى تياراتها إلا من أوتى نعمة الموسوعية، مثلها ؛ ليتمكن من العبور بنجاح بين شواطئها، وهو ما نراه فى الكاتب والمكتوب عنه، معا.

وأهم من ذلك كله تلك التضحية، وتلك الأناة، والصبر، والإصرار، والجلد عفى سبيل تقديم تراث ولد خلال قرابة ستين عاما ـ تقديمه لقارئ اليوم والغد كنوزا أودع كل كنز منها ، وقتها، بين دفتيْ كتاب، فرآه قلة أو كثرة من الناس، طبع مرة أو مرات، ثم نأتى اليوم لنجد من يقدم هذا التراث، بعد قراءته وهضمه وتمثله، ويعرْضه، بأمانة ودقة؛ ليكون مادة ثقافية متميزة مشروحة شرحا علميا، ميسّرة، مبسّطة، ممنْهجة بين يدى الأجيال: الحاضرة والقادمة، ممن لم يتسر له، من قبْل، اقتناء تلك الثروة، أو على الأصح، لن يتيسر لهم اقتناء تلك الثروة، بسبب اشتعال أسعار الكتاب، وبسبب احتجاب الكتاب وراء غيون الشبكة العنكبوتية، وثورة الاتصال، وهذا ما يؤكد أن هذا العمل العظيم لا يصدر إلا من إرادة عظيمة، وقناعةتامة، وإيمان عميق برسالة الكلمة، وبخطورة الدور التنويرى للمثقف. كما أن هذا العمل ـ بكل تأكيد ـ قائم على تضحية كبرى بالجهد والوقت والمال اللازم للإعداد، والتمويل والطباعة والنشر، وهو الذى كان ينبغى أن تقوم به مؤسسات قادرة، وذلك فى سبيل تأديتها رسالتها الواجبة نحو مجتمعها، وفى إطار واجبها المنوط بها، ومع الأسف الشديد، لم يصدر هذا العمل عن مؤسسة ثقافية ترعى النشر، وتنشر الثقافة الجماهيرية، وتغار على عقلية الأجيال القادمة، وبنائها الثقافي، وإنما تم هذا العمل ـ من الألف إلى الياء، كما رأينا ـ على نفقة المؤلف، المفكر الكبير رجائى عطية، الأمر الذى يجعل تلك السطور المتواضعة التى يخطها قلمى فى هذا الحيز المحدود، بمثابة تحية شكر صادقة أرفعها إلى مقام الكلمة الصادقة فى فلك رجائى عطية، وتضحياته من أجل الثقافة والفكر، ساء أكان ذلك فى المجلد الثاني، الذى نجده اليوم بين أيدينا ، أو المجلد الأول الذى سبقه منذ سنوات.