الثلاثاء 26 نوفمبر 2024

المصور

أبى والمصور.. قصة 50 عامًا من الصحافة

  • 8-11-2020 | 18:11

طباعة

كان عمرى لايتجاوز أصابع اليد الواحدة وكان أبى يمسك بى ونحن نصعد السلم الضخم فى بهو دار الهلال كان ذلك فى أواخر الستينيات أو أوائل السبعينيات..وبعد السلم العريض الضخم وقفنا ننتظر على باب المصعد، ليذهب أبى إلى مكتبه فى الطريق إلى المكتب وجدته يسلم على الأستاذ بهاء كما كان يناديه ولكن أستاذ بهاء رفعنى لأسلم عليه وذهبت معه إلى المكتب فى الدور الأول.

فى المكتب وجدته يقول يا أحمد ابنتك شقية، وبالفعل كنت كذلك ولا أتذكر أكثر من هذه العبارة التى قالها الأستاذ الكبير أحمد بهاء الدين، وقد كان الأستاذ الكبير له مكانة خاصة عند أبى أحمد رسلان، حيث إن الأستاذ بهاء هو من أحضره إلى المصور ووقع أيضا قرار تعيينه هو ومجموعة من الصحفيين الكبار بعد ذلك، حيث كان أبى «رحمه الله» يعمل فى جريدة التعاون ولكن يبدو «كما عرفت بعد ذلك سواء من زملائه أو اكتشفت ذلك بنفسى» أنه كان واضحا جدا فى رأيه، ويقوله أى يصرح به، رغم عتامة الصورة فى عصر عبدالناصر والصحافة، ويبدو أننى ورثت عنه تلك الطباع.

وحينما تم تأميم الصحافة وتم تعيين أستاذ بهاء لرئاسة تحرير المصور ومجلس الإدارة ، فكر أن يحدث الدار والصحيفة بصحفيين شباب يفكرون أيضا أو لهم ميول استقلالية، وللحقيقة كانت مجموعة من خريجى قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة - قد عملت بالصحافة وكان أبى منهم والأستاذ صلاح الدين حافظ والأستاذ مكرم محمد أحمد، المهم أن أبى وافق على تلبية دعوة الأستاذ بهاء واستقال من جريدة التعاون جريدة الفلاحين كما كانت تسميها جدتى التى كانت دائما على الضفة الأخرى من الحياة تكره الفلاحين الذين منهم أبى ومايمت لهم بصلة فكرية أو جسدية.

واستمر أبى فى العمل مع الأستاذ بهاء كما كان يردد اسمه فى البيت دائما لقب الأستاذ يسبق الاسم، وأذكر فى هذه الأيام أن أبى سافر للخارج إلى ألبانيا كما أتذكر والغريب أن رئيس ألبانيا بعد ذلك كان هو نفس الشخص الذى كان يزور منزلنا عندما كان يعمل بمصر وتوطدت علاقته بأبى ودعاه إلى زيارة ألبانيا الشيوعية فى ذلك الوقت.

وحينما غادر الأستاذ بهاء دار الهلال بعد ذلك لسنوات علمت أنه طلب من أبى أن يذهب معه إلى الدوحة مع زملاء آخرين أذكر منهم المرحوم مصطفى نبيل ولكن لظروفنا الشخصية ووفاة أمى المبكر رفض أبى العرض المغرى جدا ليس مادياً وإنما لأنه سيجاور فى العمل أستاذه  وزملاءه، مفضلا أن يكون بجانبى أنا وأختى الصغيرة جدا.

وكان لوجود منزلنا بجوار دار الهلال وهى كانت عادة أغلب الصحفيين فى ذلك الوقت أن يسكنوا بجوار العمل، حيث أذكر أننى فى شارع واحد وعمارات متجاورة أقمت صداقات مع كثير من أبناء الصحفيين فى مؤسستى دار الهلال وروز اليوسف تحديدا وتزاملنا جميعا حتى فى المدرسة ثم النادى بعد ذلك، حيث كانت العلاقات الإنسانية حميمة جدا بين الصحفيين مهما كانت الآراء، كانوا بالفعل أسرة واحدة، بل إنه حتى الآن مازالت تذكرنى الأستاذة سكينة السادات وكان لها «شنة ورنة» ومازالت بأنها السبب وراء تسميتى باسم إيمان، حيث جاء أبى إلى المجلة فى منتصف الستينيات وقال رزقت بابنة وسألته ما اسمها فقال مازلنا نفكر فقالت فلتكن إيمان على اسم «ابنتها». الطريف أن مدام سكينة كما أناديها حتى الآن فى كل مكان عندما ترانى تحكى لى القصة، بل إن فى عزاء ابنتها «إيمان» قدمتنى إلى جيهان السادات والمعارف بجوارها وقالت إنها على اسم المرحومة إيمان ابنتها؟!!

وبمناسبة المرحومة أتذكر أن الموقف الوحيد الذى جمعنى بالأستاذ فكرى أباظة أشهر صحفى ليس فى مصر، بل فى تاريخ دار الهلال حتى وفاته كان بسبب حضوره للعزاء فى المرحومة والدتى التى غادرت الدنيا صغيرة جدا بسبب مرض السرطان وكانت بينها وبين أبى قصة حب، حيث تعرفا خلال المرحلة الجامعية، لذلك أذكر وجوها كثيرة من الصحفيين الكبار أتوا إلى منزلنا للعزاء فى المرحومة.

ولأننى كنت صغيرة لم أكن أعرف مغزى هذه العلاقات أو عبارات المواساة اللهم كلمة لأبى "البنات يحتاجون إليك ياأحمد" وقد كان، فقد كنا قرة عينه والأولوية فى حياته طوال سنوات عمره القصير جدا، ولكن هذا لم يمنعه أن يكون حاضرا دائماً فى عمله وأذكر أنه بعد إذاعة خبر عبور قواتنا فى حرب 6 أكتوبر 1973 وكنا على مائدة الغداء أن ترك أبى موقعه فوراً وارتدى ملابسه ونزل على عجل إلى مجلة المصور وعرفت بعد ذلك أنهم أيضاً كانوا كتيبة من العمل الصحفى المتفانى وأنه عاد لأول مرة وهو لايرتدى دبلة أمى الذهبية التى تبرع بها للمجهود الحربى وكان يرتدى الدبلة منذ وفاتها قبل أكثر من عام، تغيرت على أبى أسماء ورموز فى منصب رئيس التحرير أو مدير التحرير وبعضهم بالتأكيد كان على خلاف معه بحكم علاقات العمل، وهذا عادى ولكن أذكر أنه جاء فرح الوجه يوم أن تم تعيين الأستاذة كما يقول أمينة السعيد رئيس تحرير للمصور.. وكنت وقتها فى المرحلة الإعدادية وأخذ يتحدث كثيرا عنها، وللحقيقة كان بيتنا لايخلو من الكتب والمجلات، وقد ساعدنى أبى منذ فترة مبكرة فى طفولتى على القراءة، حتى إننى الآن أحلم بوظيفة «قارئ» ولا أعلم لماذا لايوجد مثل هذه الوظيفة الهامة والتى لا تقل أهمية بأى حال من الأحوال عن الكتابة، لأن القراءة هى بوابة الفكر والعقل ثم تأتى المرحلة اللاحقة ألا وهى الكتابة والتدوين، لذلك كنت فى هذه المرحلة طبعاً بعد قراءة ميكى وسمير وكنت دائما أفضل ميكى ثم سوبر ميكى ثم «الألغاز» والمغامرون الخمسة، كنت أيضا قد أدمنت مجلة «حواء» وكنت أتابع ماتكتبه الأستاذة أمينة السعيد عن المرأة ومشاكلها والأعداد الخاصة التى كانت تصدر بها عشرات القصص الإنسانية عن المرأة وأحوالها، وكان أبى -يرحمه الله- يشجعنى جدا على القراءة، بل «الملامضة»معه فى القضايا التى تكتب فى الصحف ومنها قضية المرأة تحديدا وكان يشجعنى على لعب الرياضة وارتداء المايوه، بل واللعب مع أقرانى فى الشارع أيضا ولم يخش من كلمة دى «بنت».

لذلك جاء تعيين الأستاذة أمينة السعيد كتتويج لعمل المرأة الصحفية ولتاريخ المناضلة والإنسانة أمينة السعيد، وأذكر هنا أننى ذهبت لأسلم عليها وكانت من المرات القلائل التى دخلت فيها دار الهلال فى حياة أبى، وكان ذلك بسب أن أسلم على الأستاذة أمينة السعيد التى التقيت بها بعد ذلك حينما رحل أبى وعملت بالمصور وكنت أصر للذهاب إليها، حتى أعلم المواعيد التى تحضر فيها للمؤسسة فى مكتبها الكبير الذى انتقلت إليه بعد أن تركت المنصب.

كان المناخ كما علمت بعد ذلك ودودا فى العمل رغم الخلاف فى الرأى السياسى بالذات أيام السادات الذى حدث فيه انفراجة نسبية فى الحريات الصحفية، وكان من الطبيعى أن أشهد فى هذه الفترة كتابات وأسمع آراء معارضة علانية، بل أذكر أن أبى أحضر شرائط للشيخ إمام ونجم نسمعها وعرفت منه أنه استنسخها من طلاب أحضروها إلى الأستاذ رجاء النقاش.

وللحقيقة كان أبى معارضاً للسادات أو على الأقل لايحبه وكان يكره التيار الإسلامى ومايفعله بالجامعات وكان والدى رحمه الله يكتب فى التعليم وهو التخصص الذى سأرثه بعد ذلك حينما عملت بالمصور.

ثم حدثت الطفرة الكبرى فى المصور كما قال والدى، حيث جاء إلى منصب رئيس تحرير المصور ورئيس مجلس الإدارة الأستاذ «مكرم محمد أحمد» كان الأستاذ مكرم شابا بمقاييس ذلك العصر، وكان أمامه تحد هو أن يحول مجلة «المصور» من مرحلة الركود التام كما كان يصفها إلى مجلة حقيقية سياسية ثقافية علمية خبرية تستطيع من خلالها أن تنافس الجرائد اليومية والأهرام تحديدا عشق أستاذ مكرم الأول وأعتقد الأخير، والذى أتى من الأهرام مباشرة إلى رئاسة تحرير المصور عام 1980 - رغم أنه كان مدير التحرير التنفيذى لجريدة الأهرام فى ذلك الوقت.

كان أبى يعرف الأستاذ مكرم بحكم دراسة الفلسفة فى جامعة القاهرة وأيضا بحكم أنه كان يزامل المرحومة زوجة الأستاذ مكرم «مدام صديقة» فى قسم الفلسفة، ثم بعد ذلك فى التعليم الذى كان يغطى شئونه والدى وكان أصلا لهم أصداء فى النضال النقابى داخل نقابة الصحفيين ومساندة تيار الاستقلال أو الكرامة فى مواجهة مخططات السادات فى ذلك الوقت لتحويل النقابة إلى ناد.

ومضت الأيام وكل مرة أسمع فيها اسم واحد يتردد فى منزلنا هو اسم الأستاذ مكرم حتى إنه يوم اغتيال السادات فى أكتوبر 1981 أذكر أن أبى لم يعد للمنزل إلا بعد أن صدرت المجلة، حيث كانت عبارة عن خلية نحل من الجميع الشباب تحديداً وهم مجموعة زملائى الآن الذين أتى بهم الأستاذ مكرم لتستعيد مجلة المصور الحيوية والحركة والمنافسة، وللحقيقة كان محقا فى ذلك تماما وبين جيل الوسط ومنهم أبى فقد كان عمره 50 عاما وبين الكبار فى توليفة جميلة كنت أعجب بها لقرأتى النهمة للمصور بشكل روتينى منذ كنت طفلة صغيرة استطاع أستاذ مكرم أن يستكتب الأستاذ صالح مرسى وعرفنى أبى عليه بعد ذلك فى رائعته «رأفت الهجان» وتعرفت على عم بهجت كما كان يلقبه الجميع، كانت المصور قد تحولت بالكامل إلى المجلة السياسية الأولى ليس فى مصر فقط، بل فى المنطقة العربية على يد أستاذ مكرم الذى استفاد بالتأكيد من المناخ الذى أعقب اغتيال الرئيس السادات وفتح المصور لكبار الكتاب والسياسيين ومنهم الأستاذ محمد حسنين هيكل وغيره، كما عادت إلى الوطن الطيور المهاجرة من المفكرين والكتاب مع بداية عصر الرئيس الأسبق حسنى مبارك وعاد محمود السعدنى للكتابة وغيرهم، وللحقيقة أعاد أستاذ مكرم للمصور صورتها البهية كصحيفة سياسية ثقافية تعنى بأمور الفكر والسياسة، بدلا أن كانت تحولت فى بعض سنوات السبعينيات تحديدا إلى مجلة تقليدية جدا فقدت فيها جزءا كبيرا من حيويتها التى تميزت بها منذ صدورها فى الربع الأول من القرن الحالى، كان أبرز هذه الطفرة والحيوية التى أدخلها أستاذ مكرم للمجلة هى إقامة دائرة حوار المصور، وكانت هذه أحد أسباب إدمانى لمجلة «المصور» فى المرحلة الجامعية وكان وعيى قد زاد وتفتح تماما على قضايا الفكر والسياسة بحكم البيئة والتنشئة داخل بيتنا من خلال أبى الذى من خلاله عرفت كتابات د. طه حسين والإسلام وأصول الحكم لعلى عبدالرازق، بل وكتب الأستاذ هيكل وتعرفت أيضا من خلاله على نوال السعداوى وكتاباتها لأول مرة والمفارقة أنها بعد ذلك كانت «المصور» تستضيف نوال السعداوى فى حوارات معها كانت السياسة بالشكل غير المباشر نمارسها فى البيت بديمقراطية كاملة فى النقاش، فكان أبى يكره احتكار الحقيقة المطلقة، لذلك كان قد بدأت تظهرعليه علامات الضيق مع بداية أول انتخابات لمجلس الشعب فى عهد مبارك، رغم ترحيبه بنظام القوائم الحزبية وفى مرة عاد أبى إلى المنزل يحمل علامات الضيق، وكان يرحمه الله «هادئ جدا» لايظهر فى المنزل أى مشاكل فى العمل وكنت قد كبرت ووصلت إلى السنة الثالثة بالجامعة عام 1984 وعرفت منه أنه تضايق بسبب اللواء حسن أبو باشا وزير الداخلية فى ذلك الوقت والذى كانت «المصور» تستضيفه قبيل الانتخابات النيابية بعد ذلك بشهور قليلة مرض أبى عدة أيام قليلة جداً لم نعرف عنها الكثير نحن بناته أو حتى زملائه فى المجلة وتوفى فجأة صبيحة يوم الجمعة فى أوائل يناير عام 1985 عن عمر لم يتجاوز الـ 52 عاما كانت مفاجأة للجميع وعلى رأسهم بناته وكنت أكبرهن ولم أتجاوز 20 عاما طالبة بالجامعة وأتدرب فى جريدة الأهالى اليسارية لسان حال حزب التجمع، وأذكر أن الأستاذ مكرم محمد أحمد وقد فوجئ بوفاة أبى أن عرض على أن أذهب للعمل فى المصور فور تخرجى طالما أتدرب فى مجال الصحافة، وعندما تخرجت بالفعل ذهبت إلى مجلة المصور وصعدت هذا السلم الرخامى الكبير العريض الذى مازلت مبهورة به منذ رأيته لأول مرة وعمرى لا يتعدى أصابع اليد الواحدة.

وهناك رحب بى الجميع داخل أسرة المصور، ولم يكن هناك تخصص أعمل به وأغطى أخباره إلا التعليم الذى كان يحتكره والدى، وهكذا دخلت إلى مجال الكتابة فى التعليم مكرهة من باب بيدى لا بيدى عمرو، ثم عاشقة له بعد ذلك بحكم جينات الوراثة.

وهناك فى «المصور» تعرفت على أسرتى الثانية التى مازلت أعمل بها حتى الآن ولكن عرفت وقتها سر غضب أبى أو قلقه بالمعنى الأدق، فقد سأل أبى اللواء حسن أبو باشا لماذا تعيد السلطة نفس الوجوه القديمة القبيحة فى الترشح للانتخابات مرة أخرى وهى نفس الوجوه على مر كل الأنظمة السياسية، وكان أن اكفهر الجمع على مائدة الحوار من السؤال الصريح جدا أو المباغت لأبى وأشهد أن أبى عاد إلى بيته مطمئناً ولم يحدث شىء له.

ولكن يظل سؤاله الذى مازال مطروحاً حتى الآن لماذا تستمر الوجوه القديمة تقفز على كل سلطة.

ومازلت أطرح السؤال رغم مرور 32 عاما على وفاة أبى وتغير النظم السياسية، بل ورؤساء تحرير المصور الذين عملت معهم وعرفتهم سواء من خلال أبى أو حتى الآن حتى بلغ عددهم مايزيد على 10 أسماء لامعة ولكن مازال سؤال أبى مطروحاً فليرحم الله أحمد رسلان، وهذا الجيل الذى مهد لنا الطريق.

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة