السبت 29 يونيو 2024

«إنهم يقولون عني» فصل جديد من كتاب «هيكل.. المذكرات المخفية»

فن10-11-2020 | 10:44

تنشر بوابة "الهلال اليوم"، فصلا من كتاب "هيكل.. المذكرات المخفية"، للكاتب الصحفي محمد الباز، الذي جاء تحت عنوان "إنهم يقولون عنى..دعهم يقولون" ونقرأ فيه:


كنت أسأل نفسى دائما : لماذا لا أغضب لكل الإساءات التى توجه إلى بغير حق فيما أظن؟ 


ودون أن أرهق نفسى، كنت أذهب إلى أنه لا يوجد سبب واحد لذلك، بل أكثر من سبب. 


منها أننى  أعرف أن الشعب المصرى بصفة عامة والقارئ المصرى بصفة خاصة أذكى من كل هؤلاء الذين يتصورون أنهم يخدعونه بحجب الحقائق. 


ومنها أننى  أعرف إلى مدى استحكمت أزمة التصديق واتسعت الفجوة بين كل ما يقال وكل ما هو واقع. 


ومنها أخيرا أننى  أعرف أن رماة السهام المسمومة ومعرفتى بهم تعصمنى من الغضب لأى شئ يصدر عنهم، بل لعلى أقول أننى بمعرفتى بهم اعتبر شتائمهم فى مديحا لى كما أن اتهاماتهم ضدى أوسمة على صدرى. 


بدت لى هذه المعانى واضحة جدا عندما تلقيت برقية من صحفى لامع فى بيروت كتب إلى يقول: أنا أحسدك على خصومك. 


ورددت عليه أقول له: أنت على صواب فأنا استحق الحسد على خصومى، ولكنى أيضا استحق الحسد على أصدقائى، ولو خيرت لما اخترت غير ما لدى على الناحيتين. 


ولهذا لم أكن أتعجب من الهجوم المتواصل على، فطالما أن هناك بعض الناس تهاجمك، فمعناها أن الناس تهتم بك، بل ومعناها أكثر أن الناس كلهم يهتمون بك، ولكن بعض الناس غير راضين عن اهتمام الناس بك، والهجوم عليك هو اعتراف بقيمتك واعتبار أن لك أثرا فى الحياة وليس عليك إلا أن تتأكد من هذه الحقيقة. 


كان لمن هاجمونى مبرر آخر. 


فأنا تعرضت لليمين الرجعى فى العالم العربى، كما تعرضت لليسار المغامر فيه.


 وليس يهمنى أن أحصل على رضا أيهما، وقد اعتبرت وما زلت أعتبر أن هذا الرضا شرف لا أسعى إليه، ووسام ليس بين أحلامى أن أعلقه على صدرى. 


أعرف أن كثيرين وضعونى فى خانة اليمين وارتاحوا، ولكن هذا لا يمنعنى من إعلان رأيى بضرورة إعادة النظر فى المعانى التقليدية لليسار واليمين بعدما تخطاها عصرنا المذهل، وحتى لو اعتمدنا المفهوم القديم، فأنا يسارى بمعنى أننى وطنى، لأن الوطنى لا يمكن إلا أن يكون يساريا، وكل وطنى لابد أن يلتزم اجتماعيا مع اليسار.


على أية حال الهجوم على  يسرنى جدا لأن أية كلمة تقال ولا تحدث صدى لا أهمية لها، يطمئننى عندما ينشر لى كتاب ويحس به الناس ويضطرون لمناقشته، وحتى إذا ناقشوه بالشتائم، فهذا يعطينى احساسا بأن من لا يستطيعون المناقشة لا يجرؤون على السكوت، ولابد أن يتكلموا فيقولون أى شئ حتى الشتائم، لكننى لا أعترض ولا أرد عليها. 


إننى أقرأ ما يكتبه الآخرون وكأننى أقرأ عن شخص آخر لا علاقة لى به، بعض الناس يروى وقائع محددة، يقول إنه قال لى وقلت له، وكثير منه غير صحيح، وأنا لا أناقش ولا أتوقف، وأعتبر القيل والقال من أوله إل آخره يخص أصحابه ولا يخصنى حتى وإن كنت أنا موضوعه.

 

(2)

أول هجوم على شخصى كان بسبب تحقيقات قمت بها فى السودان، وكان معها رأيى أنه لا يمكن الكلام عن وحدة وادى النيل إلا إذا استقل السودان واختار الوحدة بإرادته.


 لم نكن نعرف مع من نتحدث عن السودان، ووجدت الشتائم تنهال على فى الصحف لأنى انفصالى، وصوت الأمة التابعة لحزب الوفد بدأت تهاجم أخبار اليوم. 


وعندما أجريت حوارا مع المهدى الكبير فى أخبار اليوم وآخر ساعة ارتفعت نبرة الشتيمة وكنت مقتنعا بما أقول، وكنت أرى الأوضاع فى السودان عن قرب، وكنت واثقا أنه لا أحد ممن يشنون الهجوم على عندهم أى فكرة عن السودان الحقيقى. 


وفى بدايات عمرى الصحفى كنت أتضايق، ثم اتخذت قرارا مع نفسى، وهو الدراسة العلمية الجادة، المتمثلة فى رسائل جامعية، أما الكتابات الصحفية الملتهبة فأنا أضعها فى دولاب مكتوب عليه "قراءات مؤجلة"، واسترحت نفسيا، قد أقرؤها يوما ولكنى لا أريد الانفعال. 


أتذكر أن احد المقالات نشرته أخبار اليوم، واتصل المسئول عن مكتبى ليبلغنى مضمون المقالة، فأرسلها لى وكنت خارج مصر، وقرأت ثلاثة أسطر فقط، وقلت لهم: يا جماعة إن هذا لا أقرؤه فى مصر، فكيف أرغب فى قراءة هذا الكلام فى الغربة ضعوه أرجوكم فى الملف إياه " قراءات مؤجلة".


ولو كنت أرد على حجم ما هوجمت به لضيعت عمرى فى الردود.


أنا أريد أن يضيع عمرى فى قول شئ مفيد للناس. 


لابد أن الهجوم هاجسه أنك إنسان مؤثر واعتراف من الآخرين بك ورغبة فى إزاحة تأثيرك، فإذا أنت تعثرت فى الهجوم، فقد تعثرت. 


بسهولة تجد خمسين شخصا يقولون عنك نفس الكلام وأن حولك علامات استفهام، الناس تحب البشر صفا واحدا متساويا محاذيا، فإذا خرج من الصف بأى مسافة قالوا: اشمعنى؟ 


والأمر ليس متعلقا بالسر أكثر مما يتعلق بالسائل، والغموض يأتى من تساؤل حتمى: ليه مش أنا؟


وإذا تساءل بهذه الجرأة فلابد أن عندى شئ ليس عنده، أو محروم منه وفى النهاية يحيط المسألة بعلامات الاستفهام والغموض. 


(3) 

بعد أن خرجت من الأهرام لم أكن أريد أن أكون طرفا فى شئ مما رأيته يهدر أمامى متدفقا كحمم البركان، ولم يكن بى خوف على الحقيقة، وعزلت نفسى فى مكتبى وفى بيتى، وركزت جهدى كله فى كتابة " الطريق إلى رمضان" وكان كتابا عن مصر فى أعقاب سنة 1967 إلى حرب أكتوبر 1973. 


ومضت أيام وأسابيع، ثم فوجئت بمجلة الحوادث اللبنانية تبدأ فى نشر سلسلة من التحقيقات عنوانها" ماذا فعلا الطريد هيكل بالشريد على أمين"؟

كنت أعرف أن مجلة الحوادث فى ذلك الوقت تنطق بلسان جماعات معينة فى العالم العربى لها اتجاهات  ومصالح وارتباطات لسبب واحد وهو أن صاحبها الأستاذ سليم اللوزى لقى مصرعه فى ظروف مأساوية تثير غضبا حقيقيا فى نفس أى إنسان، لكن بعض ما حوته السلسلة لفت نظرى. 


كان واضحا أن كاتب السلسلة مصدره الأستاذ مصطفى أمين.


 مثل إننى كنت وراء قانون تنظيم الصحافة لكى أسيطر على المهنة.


 وإننى قمت بنفى على أمين إلى لندن.


وإننى تخليت عن مصطفى أمين وعلى أمين بعد القضية ولم أقف معهما.


 وإننى كنت أزوره فى السجن لمجرد أن أتشفى فيه.


 وإننى وجدت عملا فى الأهرام لابنته لكى أتظاهر أمام الناس لا أكثر ولا أقل. 


ثم زاد العيار مع قرب نهاية السلسلة فإذا أنا تواطأت على الأستاذين مصطفى وعلى أمين، وأنا الذى لفقت التهمة للأستاذ مصطفى أمين، وأنا الذى عارضت الإفراج عنه طول الوقت وآخره مع الرئيس السادات على رغم أنه كان مقتنعا طول الوقت ببراءة الأستاذ مصطفى أمين. 


لم أغضب، ولكن الذى غضب وثار هو الأستاذ سعيد فريحة، وكان شاهدا على كل ما حدث، بل كان شريكا فيه، فكتب فى الصفحة الأولى من صحيفة الأنوار اللبنانية تفاصيل ما رآه بعينه.


 دفاعى عن مصطفى أمين أمام جمال عبد الناصر وأمام أنور السادات.


 ذهابى إلى السجن ومعى الأدوية والفيتامينات وصناديق التفاح وعلب الدجاج، والمشاكل الكبرى التى تعرضت لها فى ذلك الوقت حتى كادت بعض الشبهات تلحق بى أنا الآخر. 


اتهموا سعيد فريحة بأنه ينافقنى، فكتب يقول إننى أعرف مصطفى قبل أن أعرف هيكل بخمسة عشر عاما، وإذا كان الأمر نفاقا فلماذا أنافق رجلا يلزم بيته ولا أنافق هؤلاء الذين يسيطرون على مواقع القوة والنفوذ؟ 


أبلغنى الأستاذ سعيد فريحة أنه يضع إمكانات داره تحت تصرفى لكى أكتب الحقيقة التى كان شاهدا عليها، واعتذرت، وجينما جاء بعد ذلك فى زيارة للقاهرة سألنى: هل تتصور أنهم يؤكدون أن الرئيس السادات قال لهم إنك عارضت فى الإفراج عن مصطفى أمين حين أخبرك به، ورويت له تفاصيل ما حدث، وإننى ناقشت الرئيس السادات فى توقيت الإفراج عن مصطفى لكيلا يبدو خروجه ضمن صفقة الإفراج عن جواسيس لأن هذا يسئ إليه مدى العمر إذ يثبت التهمة عليه جنائيا. 


(4)

قيل فى وقت من الأوقات أن الصحافة كانت مغلقة على فى زمن عبد الناصر.


 وقيل أنى كنت أحتكر الأخبار لنفسى.


 قيل ما قيل.


 وفى نفس الوقت كان احسان عبد القدوس يكتب، وأحمد بهاء الدين يكتب، وجلال الحمامصى يكتب، ومصطفى أمين يكتب حتى عام 65، ويوسف السباعى يكتب، وعندما كنت موجودا رئيسا لمجلس إدارة أخبار اليوم قمت بعدة خطوات أعتز بها.


 عينت جلال الحمامصى مشرفا عاما على التحرير.


 أعطيت موسى صبرى سلطات رئيس تحرير.


 طلبت من أنيس منصور أن يكتب بابا ثابتا، واخترت بنفسى عنوانه، جاء أنيس بثلاثة عناوين، وكان مترددا فاخترت "مواقف". 


كيف تغلق الصحافة على صحفى، لقد كنت أحافظ على كرامتى كصحفى، ثم أنه كانت هناك ثقة بينى وبين عبد الناصر، ودخلنا معا فى مناقشات لم أحجب رأيى عنه فيها. 


أيام الاتحاد الإشتراكى الذى حاول أن يكون حكومة فوق الحكومة، أو حكومة إلى جانب الحكومة وأغرق نفسه فى متاهات فكرية تعبر عن أشخاص ولا تعبر عن فكر جماعى، فى تلك الأثناء كنت أنادى فى مقالاتى بتحييد أمريكا، فماذا حدث؟


خرج أربعة كتاب فى الجمهورية بأربع مقالات، كل مقال صفحة تهاجمنى. 


 فأين الصحافة المغلقة على هيكل؟


 لقد كنت بالنسبة لعبد الناصر صديقا، كان يثق فى خطى الاستراتيجى وفى سلامته، كنت أكتب ولا يقرأ مقالى كما كان بعض الناس يتصورون.

 

(5)

عندما خرجت من السجن  فى نهايات العام 1981 كنت مجروحا من المهنة وأهلها. 


 صحافة العالم كله وقفت معى...إلا الصحافة المصرية. 


 أنا أعتقد أننى أديت دورى المهنى وأديت دورى لزملائى، كان رصيدى بدون تشويه يثبت قدر وحجم العطاء المهنى، وأنا قابل للحساب عن كل ما كتبت وعن كل موقف اتخذته، وعندما كنت أنظر إلى الوراء لا أشعر بما يثقل ضميرى، لقد حاولت أن أكون أمينا مع نفسى، لقد كتبوا عنى الكثير، ولم أرد، قررت ألا أدخل فى حوار مع أحد، كنت أعرف قيمة نفسى ولا أغفل قيمة الآخرين، ولا أقلل من قيمتهم. 


أنا أعطى دائما العذر للطبيعة الإنسانية، هناك موقف لم أفهمه، حين كنت فى السجن لم أقرأ شيئا، وحين خرجت جمعوا لى ما كتب، فوضعته فى ملف مكتوب عليه " قراءات مؤجلة" ثم قرأتها. 


 اكتشفت أن صحافة العالم وقفت معى فيما عدا الصحافة المصرية، ثم بدأت أسمع أعذارا، من يقول لك كان مضغوطا علينا، وكنا مضطرين، وأنت عارف الظروف، وسامحنا، واعترف أننى أقفلت هذه الصفحة عملا بمبدأ " اعط العذر للطبيعة البشرية". 


(6) 

كان يدهشنى حقيقة أن أعرف أن لى  فى الصحافة المصرية خصوم. 


لقد تركت المسرح كاملا للجميع وأنا أعرف جيدا أننى سعيت جهدى إلى أن أساعد الصحافة المصرية،  وسعيت جهدى إلى أن أقف إلى جوار العاملين فيها، وسعيت إلى خلق صحافة حديثة عندما توليت الأهرام. 


ببساطة هذا هو الجهد الذى قدمته، وإن رأى البعض أنه أقل مما ينبغى، فمن حقى أن يكونوا متوازيين، لقد بنوا جميعا هجومهم على بدعوى أننى كنت الصحفى الأوحد.


تحدثوا عن احتكار الصحافة أيام الرئيس عبد الناصر. 


فات على هؤلاء أن العلاقة بين الصحافة والسلطة علاقة حوار وصراع، وهى فى نفس الوقت علاقة اعتماد متبادل فيه صراع بينكم. 


" إنت عايز منه حاجات كتير قوى وهو عاوز منك حاجات كتير.... هو عاوز ياخد منك خدمات أكبر ويديك أخبار أقل إنت عاوز العكس".  


 العلاقة متشابكة ومعقدة لكن يبقى معيارها فى النهاية هو إلى أى مدى يمكن أن يتحول ما تفعله سياسا إلى أن يصبح عملا إخباريا؟

 إلى أى مدى يخدم صحافتك؟ 


وإلى أى مدى يخدم جريدتك؟ 


إلى أى مدى يساعدك على الاحتفاظ باستقلالك وحريتك؟ 


(7)

رغم كل ما تعرضت له من مشاكل فى زمن الرئيس السادات إلا أننى اتخذت خيارا بكامل حريتى وإرادتى بأن أبقى بها مهما كانت المشاق، مبديا رأيى مهما كانت المخاطر، مخالفا قول الكاتب الفرنسى فولتير"أن كل كاتب يجب أن يكون حرا فى اختيار وطنه.. وطنه حيث توجد الحرية"، فوطنى هو وطنى، فتحديد نقطة البداية وهى الوطن وما عليه من بشر وقضايا، قبل التوجه إلى الوجه الإنسانى الأرحب، وبعدها وليس قبلها يتحقق اللقاء بالعالم الأوسع. 


عندما صدر قرار التحقيق معى أمام المدعى الإشتراكى " يونيو 1978" جرى إعلانى فى مكتبى فى مصر. 


وحين أرادوا مصادرة جواز سفرى جرى تسليمه لهم من يدى مباشرة فى مصر. 


وعندما صدر قرار الإعتقال فى سبتمبر 1981 لم يزد الأمر عن قرع باب شقتى فى مصر. 


فبقائى فى مصر وتحت سلطة النظام يعطى مصداقية لما أقول كتابة وكلاما، كون الكلام لابد أن يكون مسئولا ليس لأنه فى ظل القانون وإنما فى مطال السلطة. 


لم أرغب بدور اللاجئ السياسى، وقد يصلح لشخص احترف السياسة، وليس لصحفى له رأى.


اللجوء السياسى خارج الأوطان يخلع جذر الشجرة من أرضها، ويرهن اللاجئ لسلطة جديدة يحتاجها بأكثر مما تحتاجه، وينتهى به المطاف من مقابلة الحاكم فى اليوم الأول إلى التعامل مع ضابط مخابرات فى اليوم الأخير رهينا لسياسات ومقاصد. 


(8) 

خلال فترة التحقيق معى أمام المدعى الاشتراكى وقد امتدت على مسافة ثلاثة شهور من يونيو إلى أغسطس 1978 كان التحقيق معى خبرا فى كل الصحف المصرية، بنفس الصيغة فى نفس المكان تقريبا، يقول كل يوم بأننى ذهبت إلى جلسات التحقيق وعدت متهما بأننى كتبت خارج مصر ما أساء إلى سمعتها، هكذا بغير تفصيل أو إيضاح. 


إزاء هذا الغموض والإبهام راجت داخل مصر وخارجها أقاويل وأحاديث عما يجرى فى التحقيق، ووجد بعض ذلك طريقه إلى النشر فى صحف عربية وأجنبية، وكان فيه ما هو قريب من الحقيقة، وكان فيه ما أهو أبعد الأشياء عنها، وفى الحالتين امتنعت عن التأكيد أو النفى حتى لا أدع مجالا للتأويل، واثقا فى كل الأحوال أن لحظة ستجئ يمكن أن توضع فيها التحقيق أمام الذين حاولوا متابعة القصة كلها رغم حواجز الغموض والإبهام. 


طوال فترة التحقيق وحتى بعد نهايته وإلى أن ابلغت رسميا بأن حظر السفر الذى كان مفروضا على وعلى غيرى ممن تعرضوا لمثل ما تعرضت له قد رفع، امتنعت متطوعا عن الكتابة أو بمعنى أصح عن النشر، وكان قصدى أن أقطع الطريق على أى حجة وأن أستبعد أى مظنة أو لبس. 


نشأت فجوة زمان دامت ستة شهور فى علاقتى بالقارئ العربى، ولم أكن استطيع بعد هذه الفجوة أن أستأنف النشر وكأن شيئا لم يكن.


 كان لابد من جسر على هذه الفجوة، وكان الجسر الوحيد كما قدرت هو الحقيقة فيما أجرى من وقائع التحقيق معى بواسطة المدعى الاشتراكى فى مصر، فهذا الأفضل من الحكاية هو نفسه الفصل الناقص، الفجوة الضائعة التى لابد لها من جسر. 


قبل أن أجلس أمام المدعى الإشتراكى بما يقرب من سنة – وربما سنين – كان واضحا أننى معرض لمشاكل فى القاهرة التى اخترت أن أبقى فيها لا أغادرها إلا لرحلات عمل يتجه معظمها إلى لندن، بالذات حيث توجد مجموعة الناشرين التى تملك حق نشر كتبى فى العالم. 


كان خيارى الذى اتخذته بكامل حريتى وإرادتى أن أظل فى مصر مهما تكن المشاق، وأن أبدى رأيى من داخلها مهما كانت المخاطر، ومع أن كثيرين حاولوا تبصيرى بما يمكن أن ينتظرنى فى مصر وحاولوا إقناعى بالبقاء بعيدا عنها ولو لبعض الوقت، ووصل بعضهم ولهم الفضل إلى حد أنهم قدموا عروضا بمهام وأعمال تشغلنى خارجها، إلا أننى شكرت ثم اعتذرت. 


كان ذلك اختيارى، صوابا أو خطأ، ولا أحسبنى كنت غافلا عن عواقبه، فالذين لا يعطون إخلاصهم الدائم للرياح تسوقهم مع اتجاهاتها السائدة فى الفصول الأربعة يعرضون لتغيراتها فى كل فصل. 


فى أوائل شهر نوفمبر من العام 1977 أقيم لى عشاء وداع فى لندن، وكان الجمع صفوة من المشتغلين بالسياسة والدبلوماسية والصحافة، وسألنى " جوردون بروك شبرد" مدير تحرير الصنداى تلجراف، عما إذا كنت مصمما على العودة إلى القاهرة، وكان ردى بالإيجاب " فقد غبت عن وطنى أكثر من شهرين، وهذا أقصى ما أطيقه على فراقه". 


كان رأى " جوردون بروك شبرد" أنه لا يجد ضرورة ملحة لذلك فى الوقت الراهن على الأقل، لأن كل معلومات القاهرة التى تخصنى تبعث على القلق، فهناك ضيق بما أبديه من آراء، وهناك تحريض على وتربص بى. 


ثم سألنى " شبرد" وقد رأى تمسكى بما اعتزمت عليه " إذا كنت أقبل الإحتكام إلى تصويت يقوم به الجمع من الأصدقاء هنا، وكلهم يعرفنى ويعرف الظروف، وكان رأيى أننى مع كل العرفان لأصدقائى أمام قضية لا يمكن الاحتكام فيها إلى غير مشاعرى وضميرى. 


وأتذكر أننى بعد ذلك سألت " جوردون بروك شبرد": ما الذى يتبقى من شجرة تخلع من تربتها؟


 لوح خشب؟ 


لم ييأس ذلك الصديق العزيز، وإنما وجدها فرصة للإقتراب من زاوية أخرى فقال: إذن لماذا لا تذهب إلى بلد عربى آخر... ألست تعتبر نفسك قوميا عربيا؟.. أو ليست أرض الأمة العربية كلها وطنك كما تقول؟


 هناك فى أى بلد عربى تتفق أفكاره مع أفكارك سوف تظل جذور الشجرة فى تربتها دون أن تتحول إلى لوح خشب. 


كان ردى أن مشكلة عالمنا العربى أنه ما زال تحت تأثير المنطق القبلى، ما زال محكوما بالولاءات لأفراد، ربما كانت تلك ظاهرة موجودة فى العالم كله، لكن هناك اختلافا دقيقا وحاسما. 


ثم قلت: أنا أريد أن أكون موضوعيا ضمن قناعاتى، وذلك صعب أو شبه مستحيل فى العالم العربى، وإذا كان الأمر كذلك فإن وطنى المحدود يبقى مهما تكن الظروف أولى بالبقاء فيه، خصوصا إذا كان هذا الوطن هو مصر بكل دورها وتأثيرها فى تاريخ ومصير الوطن العربى الكبير. 


لم يقتنع " شبرد" ولم يسكت، بل سألنى: وهل تستطيع أن تكتب؟ 


وكان ردى: هناك حدود، وفى هذه الحدود أحاول، وأعرف أن ما أكتبه يحجب عن القارئ فى مصر، ومع ذلك يبقى الكلام هنا فى مصر ومنها ضروريا، يبقى فيها ضروريا لأنه تمسك عملى بحق التعبير عن الرأى، ويبقى منها ضروريا لأنه إشارة أو رمز إلى أن أفكارا أؤمن بها ما زالت فى مصر شعلة أو حتى شمعة. 


سألنى: والمخاطر؟ 


وكان ردى: قائمة فى كل وقت، وماثلة فى كل مكان فى العالم العربى، مع أن التقاليد الحضارية فى مصر تستطيع فى بعض الأحيان أن توفر قدرا من الأمان لرأى مخالف أو مختلف، وهذا أصعب فى أى مكان خارج مصر فى العالم العربى، أقولها إنصافا. 


أشارت ال" صنداى تليجراف" إلى هذا الحوار الذى دار بينى وبين شبرد ضمن مقال كتبته بمناسبة التحقيق الذى جرى معى بواسطة المدعى الإشتراكى وربما لهذا سمحت لنفسى أن أستشهد به. 



(9)

لم تكن إحالتى إلى تحقيق يجريه معى المدعى الإشتراكى فى أوائل شهر يونيو 1978 أول مرة يحوم حولى شبح مثل هذا الإجراء.


 لقد حام الشبح مرات عدة قبل ذلك فى سنة 1976 وسنة 1977. 


أتذكر مرة من المرات بلغت فيها الحملة على مداها مختلقة فى ذلك أسبابا ما أنزل الله بها من سلطان كما يقولون.


 نشرت إحدى الصحف صباح أحد الأيام ما يكاد يكون عريضة اتهام ضدى، بل ونشرت ما يكاد يكون حكما مسبقا، وكان هناك قول صريح بأنى محال لا شك فى ذلك اليوم إلى المدعى الإشتراكى، وكان مقررا أن يلقى الرئيس أنور السادات يومها خطابا فى اللجنة المركزية للاتحاد الإشتراكى العربى، وكان التلميح أن الإحالة آتية ضمن ذلك الخطاب. 


وجاء الخطاب المنتظر، وجاء خلوا مما جرى الوعيد به، وأتذكر أننى أمسكت قلمى بعد انتهاء الخطاب وكتبت للرئيس السادات خطابا من أربعة سطور وجهت له فيها الشكر على أنه لم يستجب لحملات تحريض ظالمة. 


لكن الشبح ظل يحوم، يقترب أحيانا حتى تكاد أن تتلامس ظلالنا، ويبتعد أحيانا وإن بقى ظاهرا قرب حد الأفق، ولم يكن الاقتراب أو الابتعاد عبث مصادفات، وإنما ظواهر موصولة بمواقفى: هل أكتب؟ وأى الموضوعات أتناول؟ وإلى أى مدى؟ 


حتى كانت مبادرة السفر إلى إسرائيل فى أواخر سنة 1978. 


أبديت رأيى عارفا مقدما أنه سير الحفاة على طريق الشوك، ومضت الأسابيع والشهور مشتعلة بالتوتر والقلق حتى انفجرت عاصفة الخماسين التى هبت على مصر فى شهر مايو 1978، وأطاحت بأوضاع المسرح السياسى المصرى كما كان فى ذلك الحين. 


وقتها ضاع اليمين فى مصر ممثلا فى حزب الوفد الجديد، الذى لم يجد أمامه غير أن يحل نفسه.


 وحوصر اليسار فى مصر ممثلا فى حزب التجمع الديمقراطى. 


وكان الأغرب من ذلك كله ما حدث للوسط – كما كانوا يتصورونه – ممثلا فى حزب مصر الذى كانت الأغلبية الرسمية الحاكمة، ما حدث له عجب، فإن الأرض انشقت تحته فاختفى، والأغلبية الرسمية الحاكمة التى كانت له تركت ساحته متوجهة إلى ساحة أخرى جديدة، وربما كان فى ذلك نوع من الحكمة الإلهية، فإن عناصر فى رئاسة الحزب القديم كانت – كما يقول أقطاب الحزب الجديد :مسئولة عن النظرة البوليسية إلى العمل السياسى فى المرحلة السابقة، وكان تركيزها المبالغ فيه على دعاوى الأمن لا هدف له غير تعويض العجز عن الفكر والفعل السياسيين. 


فى وسط هذه الضوضاء الشديدة والزحام جاءنى القائلون يهمسون إلى بأن دورى قد جاء، وبأن بعض المواد التى طرحت فى الاستفتاء العام الذى أجرى وقتها موجهة إلي، بل إن بين صياغات هذه المواد عبارات فصلت تفصيلا لكى تلبسنى، وكان ذلك صعبا على التصديق، فقد بدا لى اهتماما لا اظننى أستحقه. 


ثم أشيع أن هناك قوائم بإحالات إلى المدعى الإشتراكى وأن أسمى وارد فيها، ولكننى عرفت بالخبر اليقين على طريقة " ويأتيك بالأخبار من لم تزود"،  فقد اتصل بى ذات مساء " بوب جوبيتر" مراسل هيئة الإذاعة البريطانية بالقاهرة يسألنى: ما هو تعليقك؟ 


وقلت له: تعليقى على ماذا؟ 


قال لى: ألم يبلغك أحد؟...  لقد أذيع الآن قرار بمنعك من السفر انتظارا لتحقيق يجريه معك المدعى الاشتراكى. 


وكان شعورى مزيجا من الدهشة والأسف، ولم يكن الأمر فيما يتعلق بى يحتاج إلى قرار يمنعنى من السفر، يذاع وينشر فى الدنيا كلها، لقد كان يكفى أن يتصل بى أحد أفراد سكرتارية أى مسئول معنى بالأمر ليقول لى إن وجودى فى مصر مطلوب حتى إشعار آخر، وكان مؤكدا أننى سأمتثل راضيا. 


كان اختيارى البقاء فى مصر مع تمسكى بحقى فى إبداء رأيى معناه يقينا أننى معرض فى أى وقت لمثل ذلك، وأنه نوع من المخاطر قبلته وكان أمامى منذ وقت طويل أن أقفل فمى وأسكت، أو أحزم حقائبى وأذهب، وذلك ما لم أفعله. 


فلم أكن أبدا من الذين يتسللون فى الليل قبل أن يواجهوا باستدعاء أمام أى جهة مهما كان سلطانها، فأنا أعرف نفسى وأعرف دورى فى الخدمة العامة لوطنى ولأمتى، وأظن – وقد أكدت التجربة – أن هناك فى مصر وفى العالم العربى وفى الدنيا الواسعة كلها من أظهروا بما لا يدع مجالا للشك أن الذاكرة الإنسانية ليست مسطحا من الماء الآسن العكر. 


إذن ما هومبرر إجراء معى على هذا النحو، وهو لا يسئ إلى بقدر ما يسئ، وقد أساء فعلا إلى الصورة العامة لما يجرى فى مصر؟


لم يتركنى " بوب جوبيتر" لخواطرى، وإنما سألنى إذا كان يستطيع أن يجئ فورا إلى مكتبى ليحصل على تعليق يذاع بصوتى من لندن، وجاء وأبديت رأيى أمامه، ثم أبديت رأيى أمام كثيرين غيره من حملة الأقلام والميكروفونات والعدسات تنقله حرفا وصوتا وصورة إلى أرجاء الله كلها، وكنت فيما قلت حريصا على مصر، فهى وحدها التى أهابها إجلالا، وملئ عين حبيبها، كما يقول بيت الشعر المشهور. 


اكتفيت بأن أبديت دهشتى من إجراء لا أجد له داعيا، ولم يكلف أحد خاطره بإبلاغى به أو بحيثياته ودواعيه قبل إذاعته على العالم، ثم إننى لم أفعل شيئا سوى إبداء وجهات نظرى فى قضايا مصيرية بالنسبة لوطنى وأمتى، وهذا حق لا يستطيع أحد أن يعترض سبيلى إليه، وقد مارسته فى ظل القانون وفى وضح النهار وهذا كل شئ. 


خرجت بعض الصحف بعناوين حمراء، أو لعلها صفراء، وبقوائم وضعتنى فى صحبة لم أتشرف من قبل بمعرفة معظم الذين تجمعوا فيها، كانوا قرابة أربعين، أكثر من ثلاثين منهم خارج مصر، والباقون أكثر قليلا من خمسة كانوا فى مصر، وحتى هؤلاء كان بينهم من لم تقع عليه عينى حتى ذلك الوقت وحتى الآن. 


نسبت إلى تهم أعرف ويعرف الذين وجهوها أننى يقينا لم أقترفها وألحقت بى مقاصد لم أسع إليها ولم تدر قط فى خواطرى، وكان ذلك مناخا غير مألوف فى مصر على كثرة ما مرت بمصر العهود، واقترح على البعض مخلصين أن أرفض المثول أمام المدعى الاشتراكى فى هذا الجو وكانت حجتهم: إذا كنت بما تصرفت قد أتيت ذنبا فقانون العقوبات موجود والنيابة العامة وحدها مسئولة عنه، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن المناخ كله مجاف لروح العدل، إذا كان العدل هو هدف القانون. 


كان رأيى مختلفا بصرف النظر عن أية تحفظات كانت لى على الأمر كله فى الشكل وفى الموضوع، وكان اقتناعى بعدها أننى لن أمتنع عن التحقيق، بل على العكس سوف أتعجله.. وهكذا كان. 


(10) 

توجه الصديق الكريم المستشار ممتاز نصار إلى مقابلة مع المدعى الإشتراكى الوزير أنور حبيب، يقول له: إنه حاضر معى فى التحقيق بوصفه محامى، ونحن نرجو تحديد أقرب موعد للمثول أمامك. 


تحدد بالفعل موعد الجلسة الأولى، الأربعاء 14 يونيو 1978، ولم أكن أعرف ما سوف أسأل فيه، ورحت أراجع ما كتبت وأستوثق من بعض الوقائع، أحاول أن أكون مستعدا لكل الاحتمالات. 


كانت لدى كما قلت تحفظات على الأمر كله، فى الشكل والموضوع. 


ماذا فعلت؟ 


إننى لم أفعل سوى إبداء رأيى فى قضايا مصيرية بالنسبة لشعبى وأمتى، ولقد أبديت رأيى بالكتابة وهى مهنتى طول عمرى كله، وصحيح أننى نشرت آرائى خارج مصر لكنى فعلت ذلك حين امتنع على النشر داخلها، ومع ذلك فأنا لم أخرج من مصر وإنما آثرت برغم كل شئ أن أبقى فيها، ومعنى ذلك أننى فضلا عن ولاء مطلق لها رضيت الخضوع لقوانينها. 


لم أكن أعرف – ولا أظن أن أحدا غيرى كان يعرف – شيئا اسمه التحقيق السياسى، وربما جاز أن يكون هناك تحقيق سياسى داخل تنظيم سياسى واحد، بمعنى أن تنظيما سياسيا معينا يرى فى تصرف أحد أعضائه خروجا على مبادئه، وهنا يكون التحقيق السياسى لبحث أمر التزامه أو خروجه على مبادئ الحزب وتقرير بقائه فيه أو فصله منه، وأنا أعرف أننى لا أنتمى إلى تنظيم سياسى، إلى أى تنظيم سياسى، وإذن من أين يمكن أن تطولنى مسألة التحقيق السياسى؟ 


إننى بالقطع خارج هذا النطاق، ومعنى ذلك فيما يتعلق بى أنه يستحيل أن يكون هناك تحقيق سياسى، فالخلط غير وارد وغير محتمل بين منطق التحقيق ومنطق السياسة، إذا كان هناك تحقيق، إذن فليس هناك غير إطار قانون العقوبات، وليست هناك أداة غير النيابة العامة. 


وإذا كانت هناك سياسة، إذن فليس هناك غير إطار الحوار، وفى إطار الحوار لا يمكن أن تكون هناك إجراءات وعقوبات إلى آخره، وعلى فرض جواز ما لا يجوز، فأى قانون ينطبق على ما سوف يجرى فيه التحقيق معى بواسطة المدعى الاشتراكى. 


إن كل ما كتبته وما هو موضع التحقيق أغلب الظن، والجو كله كما نرى ظنون سابق على الاستفتاء الذى استندت إليه كل هذه الإجراءات مع غيرى ومعى – فهل يمكن أن يكون هناك قانون عقابى بأثر رجعى؟ 


إننى لم أتوقف كثيرا أمام هذه التحفظات، ولقد كانت قيمتها بالنسبة لى أنها أكدت للكل أننا لسنا أمام إجراءات قانون وإنما نحن أمام إجراءات سياسية اتخذت من القانون برقعا، وهذ شئ خطير خطير. 


 لم أشعر بقلق، صحيح أننا لسنا أمام إجراءات قانون، وإنما نحن أمام إجراءات سياسية، وصحيح أيضا أن الخلط بين الاثنين خطير خطير فى أى مكان وفى أى زمان، لكن عصرنا الحديث له مزاياه كما أن له بالقطع مساوئه. 


(11) 

جاء موعد الجلسة الأولى الأربعاء 14 يونيو الساعة العاشرة صباحا، ووجدت جمعا من مراسلى الصحف ووكالات الأنباء العالمية ينتظروننى خارج مكتب المدعى الإشتراكى، فى الدور السابع من مبنى جديد ضخم يطل على ميدان " لاظوغلى" ولا يبعد غير خطوات عن مجلس الشعب ومقر رئاسة الوزراء. 


كان قولى لهم: ابتداء من الآن لم يعد من حقى أن أقول شيئا، فالمدعى الاشتراكى وحده يملك أن يقول ما يريد، وأصروا على انتظارى حتى انتهاء الجلسة الأولى، فربما كان هناك ما أستطيع قوله. 


توجهت فى صحبة المستشار ممتاز نصار إلى القاعة التى تقرر أن يجرى فيها التحقيق.


 كان المدعى الاشتراكى بنفسه هو الذى سيتولى التحقيق معى، وهكذا كانت قاعة الاجتماعات الكبيرة الملحقة بمكتبه هى المقر المختار لجلساته، والقاعة صفان طويلان متوازيان من الموائد المتلاصقة يربطها فى الصدر مكتب نصف دائرى جلس إليه المدعى الإشتراكى الوزير أنور حبيب، وإلى يساره المحامى العام المستشار عبد الرحيم نافع، وإلى يمينه المحامى العام المستشار أحمد سمير سامى. 


فى مواجهتهم كانت هناك ثلاثة مقاعد،أحدها لكاتب الجلسة، وآخر بجانبه لى، ومن ورائنا نحن الاثنين المقعد الثالث للمستشار ممتاز نصار، إلى جوار المحامى العام المستشار أحمد سمير سامى كان مقعد خصص للأستاذ حسن الشرقاوى سكرتير نقابة الصحفيين الذى حضر لمتابعة الجلسات وفقا لقانون النقابة. 


اتضح لى منذ اللحظة الأولى أن هيئة التحقيق تريد أن تقوم بالمهمة الموكولة إليها فى جو يسوده احترام متبادل، وهذه شهادة حضارية لمصر ولتقاليد رسخت فيها بالتجربة وعلى مر السنين. 


على فنجان قهوة افتتاحى اتفقنا على أسلوب التحقيق. 


قال المدعى الاشتراكى إنه سوف يسألنى فى بعض ما كتبت، وقد تمتد أسئلته إلى موضوعات أخرى لا تتصل بما كتبته، وأنه هو بنفسه الذى يتولى التحقيق. 


وقال إن لى مطلق الحرية فى الإجابة كما أشاء على أى سؤال يوجهه إلى، بل إنه يقترح – رغبة فى مزيد من الدقة – أن أقوم بإملاء ما أرى إثباته نصا من إجاباتى فى سجلات التحقيق. 


وقال إنه لا يعرف متى تنتهى، فهناك أسئلة كثيرة عما كتبت، وما كتبته والحمد لله كثير. 


 وقلت: إننى تحت تصرفه فيما يشاء معرفته، سواء بشأن ما كتبته أو بشأن مواقفى غير المكتوبة، وكل ما أطلبه هو ألا يكون النقاش بيننا على جمل خارج سياقها أو على مقالات معزولة وحدها عن مجمل ما كتبت، ذلك لأننى أعتقد أن لكل كاتب موقفا كاملا تجاه أى قضية من القضايا، وهو لا يستطيع أن يصب كل ما عنده فى جملة ولا يستطيع أن يعرض فكرته مستوفية فى مقال واحد، ولهذا فإننى أتمنى أن يكون النقاش – كما قلت – على مواقف كاملة من قضايا محددة. 


بدأ التحقيق وتعاقبت جلساته واحدة بعد الأخرى.


عشر جلسات كاملة، أربع منها فى شهر يونيو، وخمس فى شهر يوليو، وجلسة ختامية فى اليوم الأول من شهر أغسطس، وكان متوسط مدة الجلسات ثلاث ساعات، أى أننا جلسنا وجها لوجه ثلاثين ساعة كاملة بين سؤال وجواب. 


كان هو السائل أساسا، وكان المحامى العام المستشار عبد الرحيم نافع يتدخل أحيانا بأسئلة فرعية، وكذلك يفعل فى أحيان أخرى المحامى العام المستشار أحمد سمير سامى، وأشهد أن الفرصة أتيحت لى – فى كل الأحوال – كى أقول ما أريد من إجابات فى الرد على ما وجهوه من أسئلة. 


وكانت هناك أسئلة تحفظت على صياغتها وسجلت تحفظى، وكانت لى إجابات طويلة على بعض الأسئلة لم يحاول أحد اعتراضها، وفى مرات كانت هناك مواقف طلبت فيها إيقاف التحقيق لكى أدلى بخلفيات مفصلة لبعض ما سئلت فيه من آرائى ومواقفى، خلفيات رأيتها ضرورية لعلم هيئة التحقيق، وفى نفس الوقت لم أجد داعيا لإثباتها فى نصوصه، وكان حسن إصغاء وصبر فى المتابعة. 


فى الجلسة الأخيرة بتاريخ أول أغسطس أخطرت منذ البداية بأنها الجلسة الأخيرة، وكنت على وشك أن أسجل أن موسم صيف بأكمله ضاع منى ولم أفعل لأن مثل ذلك يصبح تزيدا لا مبرر له ما دمت أخطرت بأنها الجلسة الأخيرة. 


وبعد ساعة ونصف الساعة وجه إلى السؤال الأخير وأجبت عنه. 


سألنى المدعى الإشتراكى ذلك السؤال التقليدى الذى ينتهى به أى تحقيق: هل لديك أقول أخرى؟ 


قلت: نعم. 


ثم رحت أملى تعقيبا على التحقيق دام لأكثر من ساعة كاملة حاولت فيه أن ألخص رأيى فى الموضوع كله بطريقة سريعة ومركزة، وتبادلنا عبارات مجاملة وتحية. 


(12) 

 قلت للمدعى الإشتراكى إن لدى عنده طلبان أرجو أن أكون فى طلبهما داخل الحدود التى تسمح بها القوانين. 


الطلب الأول أن أحصل على صورة كاملة من سجلات التحقيق. 


وقال لى المدعى الاشتراكى إن هذا من حقى، وإنه سوف يطلب من سكرتاريته تصوير كل صفحة من صفحات التحقيق لتسليمها لى، وإنه يرجو أن يتم ذلك فى ظرف أسبوع. 


والطلب الثانى أن يخطرنى فى أسرع وقت مناسب له بما يراه بالنسبة لإمكانية سفرى إلى لندن لمدة أسبوعين فى شهر نوفمبر. 


قلت له إن لدى كتابا سوف يظهر فى السوق العالمى فى هذا الوقت فى لندن، وستبدأ جريدة الصنداى تايمز فى نشر بعض حلقات مسلسلة منه فى ذلك الوقت، وهناك إلحاح على من الناشرين أن أحضر معهم احتفالات ظهور هذا الكتاب. 


وقلت إنى أتفهم الظروف، ولذلك فإنى لا أطلب منه تصريحا بالسفر، وإنما أطلب منه مجرد إخطارى، هل أستطيع أو لا أستطيع السفر، حتى أتمكن فى موعد ملائم أن أخطر الذين ينتظروننى فى لندن أننى ذاهب إليهم، أو أخطرهم فى أن الظروف ما زالت تحول بينى وبين السفر. 


وقلت إننى لا أريد إحراجه، فانا أعرف أن المسألة فى صميمها مسألة سياسية، وكل ما أطلبه كما قلت وشددت على القول أن أعرف، وقال لى المدعى الإشتراكى إنه سوف يخطرنى بالقرار فى مسألة السفر فى بحر عدة أيام، أسبوع أو نحو ذلك. 


فوجئت فى اليوم التالى 2 أغسطس 1978 بصحف الصباح فى القاهرة تنشر أن التحقيق معى تأجل لأجل غير مسمى أو لموعد يتحدد فيما بعد، وكان ذلك شيئا مختلفا كل الاختلاف عن الحقيقة، وكتبت خطابا إلى المدعى الإشتراكى رجوت محامى أن يتفضل مشكورا فيحمله بنفسه إلى مكتب المدعى الإشتراكى، ويستوضح منه سبب التباين بين الحقيقة وبين الصورة التى أوردتها الصحف. 


عاد إلى المحامى يقول إنه قابل المدعى الاشتراكى بنفسه وسلمه الخطاب، وإن الحقيقة هى ما نعرفه، وأما ما نشر عنها فقد تسبب فيه لبس غير مقصود، ولم يكن أمامى غير انتظار التطورات، ومضت الأيام والأسابيع والشهور. 


لم أتسلم الصورة الرسمية المعتمدة للتحقيق، ورغم أنى طلبت مثل هذه الصورة الرسمية المعتمدة، ومن حسن الحظ أن الأستاذ المستشار ممتاز نصار، كان فى الجلسات الأربع التى حضرها معى يسجل كل ما يدور، وبعد أن حرمنى مرض طارئ ألم به من حضوره معى فإنه أناب عنه من مكتبه زميله وصديقه المستشار إبراهيم زكريا الذى واصل بعده نفس الأسلوب فى تسجيل وقائع الجلسات الست التى سعدت فيها بحضوره معى حتى تمام التحقيق. 


ومع أنى كنت أعود إلى مكتبى بعد كل جلسة فانقطع لإعادة بناء وتسجيل كل ما جرى فيها ضمن سياقه، فقد اعتمدت بالدرجة الأولى على أورق الصديقين الكريمين المستشار ممتاز نصار بالنسبة للجلسات الأربع الأولى، والمستشار إبراهيم زكريا بالنسبة للجلسات الست التى تلت ذلك من التحقيق. 


بعد كل ما جرى سألت نفسى عن النتيجة من كل ما جرى. 


عشر جلسات، ثلاثون ساعة، ثلاثة شهور استغرقت موسم صيف بأكمله، ولم أعرف لماذا جرى ما جرى ... ما أعرفه فقط هو أن أى إساءة إلى مصر لم تصدر عنى. 


(13) 

لقد قيل يوما أن الصحفيين المصريين يكتبون خارج مصر ضد مصر، ولم يكن هذا الكلام دقيقا بالنسبة لى على الأقل، وقد تمنيت أن يلتقط أحد مقالا واحدا أسأت به إلى مصر، وينشره هنا، ليقدم الدليل على إدانتى، ويكتب بالمانشيت الأحمر: هذا ما يقوله هيكل بعد تاريخه، لكن شيئا من هذا لم يحدث... وظل الطنين. 


جاءنى صديق يحمل إلى نشرة استماع صادرة عن هيئة الإذاعة البريطانية ناولها وهو يقول: لقد بدأ الهجوم عليك مرة أخرى فى صحف القاهرة؟ 

وناولنى نشرة الإستماع وهو يقول: ينسبون إليك الآن وبالتلميح الصريح تقريبا أنك كنت مصدر المعلومات فى مقالات كتبها صحفى بريطانى فى جريدة الجارديان سنة 1972، وفيها كلام عن فساد فى مصر. 


أمسكت بنشرة الاستماع مستغربا، لم أستغرب الهجوم ولكنى استغربت التهمة، ومشيت بنظرى على سطور ما يخصنى فيها، ثم وضعتها على مائدة أمامنا وأنا أهز رأسى أسفا، وقلت له أو لعلى قلت لنفسى: اننى أتذكر هذه المجموعة من المقالات فى الجارديان، كتبها ديفيد هيرست وهو مراسل الجريدة فى الشرق الأوسط. 


انه كتب هذه المقالات فيما أذكر سنة 1972، وأنا لم أقابله فى حياتى إلا سنة 1975، وفى حياتى كلها قابلته مرتين، وكان قد طلب لقائى ليعرف رأيى فى اتفاقية فض الاشتباك الثانية فى صيف 1975، وقد نشر رأيى منسوبا إلى فى ذلك الوقت، قبل هذا لم أقابله، وبعد هذا لم أقابله لا بموعد ولا صدفة.


كان ديفيد هيرست تحت الرقابة، وكذلك كنت أنا، وقبل ذلك كله وبعده فلست الصحفى الذى يذهب إليه مراسل أجنبى ليحصل منه على معلومات، إننى أقابل صحفيين بغير عدد، ولكنهم يجئيون فى طلب رأيى منسوبا إلى صاحبه، ولست أريد أن أعطى نفسى أكثر مما أستحق، وفى نفس الوقت فأنا أعرف مكانى وأحرص عليه. 


وأعترف على استحياء شديد أننى سعدت بعبارة قالها أنتونى ناتنج وزير الدولة السابق للشئون الخارجية فى وزارة إيدن ضمن برنامج عنى أخرجته هيئة الإذاعة البريطانية ووضعته على موجاتها يوم 14 ديسمبر 1978 فى سلسلة صور شخصية.


فى هذا البرنامج سئل أنتونى ناتنج عن تقييمه لى فترة اقترابى من القمة فى مصر وفترة ابتعادى عنها.

 

 وقال ناتنج: عندما كان قرب القمة كان الكل يهتمون بما يعرفه، وعندما ابتعد عن القمة تحول اهتمام الكل إلى ما يفكر فيه. 


وفى الحقيقة فإنى أعجز أحيانا عن معرفة السبب الذى يدعو إلى اتهامى بما لم أفعله.


 إن أسباب ابتعادى فى أعقاب حرب أكتوبر معروفة، ثم أن آرائى فى كل القضايا موجودة ومنشورة، وهى على خلاف ظاهر وواضح فى كثير من المجالات القومية والوطنية والاجتماعية والسياسية، ولست أدعى أن رأيى وحدى هو الصواب ورأى سواى هو الخطأ فتلك عصمة لا يملكها بشر، وإنما يتحمل كل بشر بقدر ما يطيق وعليه مسئوليته ومنها حسابه، وقد رضيت دائما بالحساب عن آرائى حتى فى أكثر الظروف عنتا وتعسفا، لكن تلك مسألة والادعاء على بما لم أفعله مسالة أخرى على النقيض منها تماما. 


(14) 

قيل لأحد كبار القانونيين – وقد كتب ونشر ما قيل له – إننى كنت وراء ضرر أصابه. 


 لم أكن أعرف الرجل ولا تشرفت بلقائه، وكان موقفى منه عكس ما نقل إليه، وفضلا عن اهتمامى به لقيمته العلمية – والإنسانية باعتباره مواطنا – قد كان قريبا لصديق كبير لى هو على الشمسى باشا. 


وقيل لأحد الزملاء الصحفيين إنه دعى لمنصب صحفى مهم عن طريقى، وإننى لم أبلغه بالدعوة الموجهة إليه وهكذا ضاعت الفرصة منه، وقد كتب ونشر ما قيل له، ومن ذلك عرفت لأول مرة حكاية أنه كانت هناك دعوة له. 


وقيل للكثيرين: إننى كنت وراء اضطهاد تعرضت له " العائلات" فى مصر، بينما كان مكتبى ملجأ لكل عائلة، تريد أن ترفع صوتها، ولا أريد أن استشهد بأحد، لأن الاستشهاد بأحد فى هذا الصدد قد يصبح نوعا من المن عليه لا يجوز لى ولا يليق به، وقد أعفانى أحد كرام الناس وهو رجل لم أقابله منذ سنوات من كل حرج، وهذا الرجل هو محمد على فرغلى باشا، وكان من أبرز نجوم الحياة الإقتصادية والاجتماعية فى مصر قبل الثورة، وكان يلقب بملك القطن. 


أصدر فرغلى باشا كتابا يحوى مذكراته بعنوان" عشت حياتى بين هؤلاء" تضمن فصلا عن تجربته معى، وقد امتد هذا الفصل على مساحة عشر صفحات كاملة من 187 إلى 196، وقد روى فيها تفصيلا كيف" وقفت معه ومع مئات غيره فى ظروف صعبة دون انتظار حتى كلمة شكر" وأثار صدور الكتاب اهتماما كبيرا فى مصر، لأن صاحبه وإن كان من الذين أضيروا بالقرارات الاشتراكية إلا أنه حاول أن يرتفع فوق مصالحه الشخصية. 


ولم يجئ صحفى عربى إلى مصر، أو كاتب أو مفكر، إلا وقصوا عليه حكايات أننى حجبت الكل – عنوة – ولا أعرف كيف؟ حتى أصبح الكاتب الأوحد، وكان العجب يبلغ من السامعين مبلغه لأن السجلات أمامهم تشهد بالعكس على طول الخط.


 لقد كنت أنا الذى تعاقد للأهرام مع صفوة من أقلام مصر وأحسن صحفييها، ولقد تمنيت مرات لو طاوعنى الحياء – أو لعلها الكبرياء- فأنشر بعضا من رسائل أصحاب هذه الحكايات إلى بخط أيديهم يشهدون فيها ويشيدون، فلم يكن هناك بينهم وبدون استثناء واحد لم أقف معه، ولم أفتح له طريقا أمامه بحكم صلات الزمالة لكننى كنت أراجع نفسى وأردها حتى عن مجرد الوقوف أمام طواحين هواء فضلا عن معارك معها. 


هل نسى كل ما شهدوا لى به، وآخره ما كتبه الأستاذ مصطفى أمين فى " فكرة" قبل أيام من انفجار خلافى مع الرئيس السادات وخروجى من الأهرام.


 هو الذى كتب بخط يده يقول: كنت أتتبع الجهود الضخمة التى يبذلها هيكل لرفع الظلم، ولكن الأقلام الكبيرة أصيبت بالخرس".


 كان هو الذى كتب وكنت أنا الذى قررت ألا أنشر هذا الكلام عنى. 


وكنت أيام مسئوليتى عن أخبار اليوم بالإضافة إلى الأهرام – الذى أعدت فيها  جلال الحمامصى مشرفا على تحرير أخبار اليوم، وعينت إحسان عبد القدوس رئيسا لتحرير أخبار اليوم، وعينت يوسف السباعى رئيسا لتحرير آخر ساعة -  وكانت هذه أحسن الاختيارات التى وجدتها فى السوق لأعطى أخبار اليوم الفرصة لمنافسة الأهرام، وقد ظل هذا الوضع قائما قرابة سنتين، ثم كنت أنا الذى طلبت الإعفاء من مسئوليات الانتقال إليه، وما تفرضه من ضرورات إعادة تنظيم العمل على أسس تلائم نقطة تحول أساسية فى الصحافة العربية، وقد قبل طلبى. 


إلى جانب ذلك كانت جريدة الجمهورية هى جريدة التنظيم الطليعى فى الاتحاد الاشتراكى، وفيها كانت قيادات الصف الأول كلها تكتب، ومعظم ما كتب كان فى معارضة آرائى واعتبار ما أقوله مروقا على خط الاتحاد الاشتراكى. 


وكانت هناك دور صحفية أخرى لها رؤساء تحريرها ولها محرروها.


 دار الهلال على سبيل المثال وروزاليوسف. 


طوال هذه السنين لم أتجاوز حدود الصحيفة التى كنت أرأس تحريرها وهى الأهرام، وحتى عندما عينت رئيسا لمجلس إدارتها فإننى اعتبرت أن ذلك قرار سياسى وليس قرار مهنة، ولهذا لم أضع اسمى مرة واحدة على الأهرام كرئيس لمجلس الإدارة، وإذن فإن الصحافة لم تكن فى ذلك الوقت صحفيا واحدا، ومع ذلك فإن هذا الصحفى الواحد ترك لهم مكانه فى الصحافة المصرية.. وإذن فلماذا؟ 


قيل لى مرات: إن خطئيتى الكبرى أن الأهرام نجح عالميا، وكذلك كتاباتى فى الدنيا الواسعة بعد خروجى من الأهرام، وإن هذا النجاح فى حد ذاته جريمة لا تغتفر، ولم أقبل هذا التفسير، فلم أكن صانع الأهرام الحديث وحدى، ثم أليس من سنن الطبيعة أن يقدم كل جيل إضافة إلى ما صنعته أجيال سبقت؟ 


ولم أكن أطلب من أحد أن يرد لى جميلا، ولكنى أيضا لم أكن أتوقع جزءا سنمار. 


ومرات حاولت أن أعزى نفسى، لقد كان ذنبى أننى ابتعدت عن كل سلطة، أو لم يحدث ذلك لغيرى؟ 


ألم يتحول الملك فاروق على نفس النمط من الوطنى الأول والعامل الأول والفدائى الأول لكى يصبح بعد نزوله عن عرش مصر وخروجه منها أفاقا ولصا وهاتك أعراض على نفس المكان من صحف أخبار اليوم؟ 


ألم يتحول مصطفى النحاس على نفس هذا النمط وهو الذى كان على الأقل طوال حقبة الثلاثينات رمزا للمقاومة ضد الإحتلال وضد القصر، إلى خائن وفاسد وألعوبة فى يد زوجته على نفس صفحات أخبار اليوم؟ 


ألم يتحول جمال عبد الناصر وهو رمز حركة الحرية والتحرر والعدل الإجتماعى، إلى طاغية وجلاد بعد أن تأكد رحيله إلى رحاب الله بنفس الأقلام وإن اختلفت ألوان الحبر؟ 


وأنا بالقطع لا أريد أن أقارن نفسى بالملك فاروق، ولا أتجاوز فأضع نفسى على نفس الدرجة مع مصطفى النحاس، ولا أتجاسر على مقام جمال عبد الناصر، وإن كان قد حدث هذا لهؤلاء ما حدث، فلماذا لا يحدث لى نفس الشئ؟ 

(15)

ظللت لسنوات طويلة من حياتى عزوف عن استعمال حق الرد على من يهاجموننى خصوصا فى ظروف لا تسمح بالحق من أصله، ومن ثم تصبح ممارسة الفروع أو محاولة ذلك نوعا من ضرب الرؤوس بالجدارن. 


فى السنوات التى أعقبت خروجى من الأهرام فى فبراير 1974، صال وجال كثيرون أسميهم فى العادة "فرسان الساحات الخالية"، هؤلاء الذين يرمحون فى ميادين يعرفون مقدما أنه ليس فيها عدو وبالتالى ليس عليها قتال. 


وحين وصلت إلى من بعيد صرخات " فرسان الساحات الخالية" التى كان مقصودا بها إرهاب العدو قبل ملاقاته لم أجد فيها ما يغرينى أو يدعونى إلى الإصغاء لأصواتها، أوانتظار أصدائها. 


خرجت مرتين اثنتين بالعدد عما آثرت الإلتزام به.


مرة حين نشرت إحدى الصحف عنوانا رئيسيا فى صفحتها الأولى تعليقا على رأى أبديته خارج مصر بمعارضة " رحلة القدس" قالت فيه بالحرف" واحد ضد مصر".


 كان ردى على ذلك كلمة واحدة فى نهاية مقال نشر أيضا خارج مصر جاء فيها " بل واحد من مصر". 


وفى المرة الثانية كان ردى كتابا عنوانه" بين الصحافة والسياسة" وهو يحكى بنفسه قصته، القصة كانت فى حد ذاتها مؤلمة وحزينة، وقد كنت أفضل أن أكتم تفاصيلها فى نفسى ولكن أصحابها لسوء الحظ لم يتركوا لى خيارا غير أن أروى الحقيقة كاملة وبوثائقها. 


وخلال هذا كله لم يكن يراودنى شك فى أن الظروف سوف تتغير وأنه سوف يجى يوم ينفذ فيه ولو شعاع ضوء يكشف لكل الناس ما لابد أن يروه، ومن الحق أن أعترف أن صحف المعارضة فى مصر وبالتحديد " الأهالى" و " الشعب" حاولت ما استطاعت أن تصلنى بالقارئ المصرى، لكن صحافة المعارضة مظلومة فوسائلها محدودة ومجال حركتها مقيد.


 ومن ناحية أخرى فقد كنت أشعر طول تلك الفترة أن المساحات التى تخصصها هذه الصحف أحيانا لما أقول أو أفعل، هى عملية خصم من حقوق أحزابها وكتابها الذين هم أصحاب الحق قبل غيرهم فى مساحات صفحاتها، ثم تحول شعاع الضوء إلى نافذة تفتحت كاملة للشمس من حيث لم أحتسب وأتوقع وهذه مفارقة غريبة.


فقد كانت النافذة هى جريدة أخبار اليوم ورئيس تحريرها الأستاذ إبراهيم سعدة، وقد تشككت فى نواياه حينما زارنى فى مكتبى فى أواخر سنة 1985 ليقول لى أن صفحات أخبار اليوم مفتوحة أمامى إذا أردت. 


كان مبعث تشككى هو اختلاف آرائنا وتوجهاتنا، وربما من هنا فإننى وضعت عرضه موضع الإختبار العملى، وأشهد أنه كان عند وعده وتحمل بسببه راضيا ما جعلنى رغم اختلاف الآراء والتوجهات أعتبره صديقا يتحتم على أن أعفيه من مآزق قادته إليها جرأته. 


لقد قبلت عرضه بالكتابة فى أخبار اليوم متشككا فيها، ثم أعفيته من حرج الكتابة فى أخبار اليوم متعاطفا لأن ما كتبته أغضب أكثر مما أرضى. 


(16)

فتحت صحيفة ال " ديلى تلجراف" التى جاءتنى فى الصباح الباكر على مائدة الإفطار، وإذا خبر فيها عنى يقول أننى مشغول فى مصر بالمشاركة فى تكوين حزب سياسى جديد يحمل اسم جمال عبد الناصر، ووجدتنى أمد يدى إلى التليفون أدير قرصه برقم بيت مدير تحرير التلجراف، ثم أتوقف فى منتصف الرقم لأنظر إلى ساعتى فأجد أنها ما زالت عند السابعة والربع صباحا، وأضع سماعة التليفون فى مكانها، وأنتظر موعدا أكثر تحضرا أستطيع أن أقتحم وقت الناس بشواغلى. 


بالكاد أنتظر حتى التاسعة ثم أدير الرقم عارفا أننى سوف أوقظ الرجل من نوم عميق، لكننى أعتمد على صداقة وثيقة ربطتنا من زمن بعيد، وأسمع صوته يرد كأنه يجئ من أعماق بئر سحيق، ثم يعرف صوتى ويقول بسرعة وقد دب التنبه فى نبراته: بحق السماء ما الذى أيقظك فى هذه الساعة؟ 


وأقول له: إننى ما زلت مضبوطا على توقيت القاهرة، ولكنه كان يجب أن يسألنى عما حدا بى إلى ايقاظه هو فى هذه الساعة، وليس عما أيقظنى أنا فيها، ثم استطردت أقول له: أنت المسئول هل قرأت عدد التليجراف اليوم؟ 


رد بأنه قرأه بالأمس قبل أن ينام، ولكنه لم يفهم بعد حكمة سؤالى، وأصل الموضوع أن الخبر المنشور عنى فى التليجراف اليوم غير صحيح، وهو يعرف وأصدقاؤنا فى العالم كله يعرفون أن تأسيسى حزب سياسى أو المشاركة فى تأسيس حزب سياسى هو أمر خارج عن نطاق ما أفكر فيه. 

إنه يعرف وأصدقاؤنا فى العالم كله يعرفون أن هناك شيئا واحدا أريده، وهو أن أظل كما كنت دائما صحفيا. 


إن الصحفى قد يكتب فى السياسة ولكن كتابته فيها لا تعنى احترافه لها، إن الصحفى قد يكتب فى شئون المال أو الفن أو الحرب ولكن ذلك لا يجعله مضاربا فى البورصة أو ممثلا على الشاشة أو جنرالا فى ميدان قتال، والصحفى الذى يكتب فى السياسة قد يتخذ لنفسه موقفا، ولكنه فى ذلك يختلف عن السياسى المحترف، فالصحفى السياسى يعتبر الموقف والدفاع عنه غاية، بينما السياسى يعتبر أن الغاية هى السلطة لتنفيذ ما يعتقد فيه. 


رد " جوردون بروك شبرد" وقد طار النعاس تماما من صوته: يا إلهى هذا كله فى هذه اللحظة من الصباح الباكر، حسنا قل لى ماذا يتعين علينا أن نفعل الآن، إن الخبر جاءنا فى برقية من القاهرة، وكان يجب أن أسألك فيه ولكنى خشيت إحراجك بالسؤال، المهم الآن ماذا نفعل؟ 

اتفقنا أن أبعث برسالة تنشرها التلجراف فى اليوم التالى وحدث.  


حين نشرت التلجراف رسالة تصحيح واقعة قيامى أو اشتراكى فى تأسيس حزب سياسى فى مصر جاءنى من يتساءلون: ولما لا؟ ولماذا تقطع بهذا الحسم احتمالا قد يكون واردا إن لم يكن اليوم فغدا؟ 


قلت لهم: كل ميسر لما خلق له، وأنا أعرف حدودى وألزمها، إن الكاتب الصحفى بالطبيعة لا يستطيع غير أن يكون مستقلا، والاستقلال لا يعنى التحرر من الالتزام، لكن الالتزام مع الاستقلال يكون التزاما بفكرة وليس التزاما بفرد أو التزاما بتنظيم، إن الالتزام بفرد نوع من العبودية، والالتزام بتنظيم نوع من الأسر بالذات فيما يتعلق بالكاتب الصحفى.




(17) 

كنت أقرأ ما يكتب فى الهجوم على واكتفى بالتعرف على اتجاهاتها دون أن أدقق فى النصوص، كنت أطل على العناوين وأمر بعينى على السطور،وأتطلع إلى أسماء الكتاب وبينهم من كانوا فى موضع القرب والود منى. 


كنت أتفهم وأعذر، وليس لرجل اختار لنفسه أن يطلب من الآخرين اعتماد موقفه، فلكل رجل أولوياته وحتى حساباته وذلك حقه. 


وأعترف أننى أحسست بالوجع مرة واحدة، حين وجدت عنوانا رئيسيا على الصفحة الأولى من جريدة الأخبار موضوعه عنى، وكان العنوان من كلمة واحدة" الكداب" والذى حدث أن أصغر أبنائى وهو يومها فى التاسعة من عمره مر على – كما تعود كل صباح – وهو فى طريقه إلى المدرسة، وخطر ببالى أن أدارى الجريدة حتى لا يرى ما رأيت، ثم عدلت عن المحاولة. 


جاء الصبى إلى جوارى وكانت تحيته فى الصباح ندية حلوة، ثم وقع نظره على مجموع الصحف ولمح بسرعة ما كنت أتمنى أن أخفيه، وراح يقرأ ولم أعترضه، وقرأ الصبى ثم تطلع إلى وفى عينيه حيرة لا يعرف كيف يداريها، ولا يعرف كيف يعبر عنها، ثم تحولت الحيرة إلى نظرة امتزج فيها الحزن بالغضب.


 بادرته بأنى لست متضايقا ولا أريده أن يتضايق، ثم قلت له: ذات يوم سوف أجلس إليك وأحدثك عما نحن فيه الآن، لكننى فى هذه اللحظة أرجوك ألا تشغل بالك بغير درسك. 


وقف الصبى أمامى وغامت عيناه بدمعة، وأحسست بالعجز عن أى قول أو فعل، وكان الصبى رائعا، فقد اختصر الموقف بفطرة البراءة فيه وأمسك برأسى يقبلها ومضى صامتا.  


(18)

تفتحت عيناي على حل بسيط لكل هذه المفارقات.


 ذنبى أننى كنت شاهدا أتيح له أن يرى ويسمع كل شئ، وكان فى موقع يمكنه من هذا، والذين يخشون الحقيقة لابد لهم أن يتخلصوا من شهودها. 


هناك كثيرون لم يروا ولم يقرأوا، أجيال جديدة لم تكن معنا منذ البداية.


هناك كثيرون رأوا وقرأوا، لكن الذاكرة تضعف مع الأيام ثم لا يظل فى الأذهان إلا ما تراه العيون وتسمعه الآذان لحظتها.


 ثم إن هناك من رأوا وقرأوا لكنهم يعتقدون فى الحكمة القائلة بأنه إذا كان الكلام من فضة فإن السكون من ذهب، خصوصا إذا كان فيه ما يزعج السلطان. 


كانت ذنوبى إذن أننى ابتعدت عن أية سلطة، ثم إننى كنت شاهدا رأى معظم جوانب الصورة، ثم إننى سأرد على الكلام فى يوم من الأيام، وأعترف ويشهد على ذلك كل من قابلنى فى هذه الفترة الحافلة بالصخب والضجيج، أننى كنت أتابع ما يكتب وينشر وكأننى أتابع ظاهرة لا تتصل بى ولا تمت إلى بسبب.  


كانت الحملة على وجه اليقين لها أهداف أخرى هى إرغامى على اتخاذ موقف الدفاع عن نفسى أو إغراقى فى الصمت إلى الأبد حتى لا أتكلم، أوإضعاف أية مصداقية لما أقول إذا ما قررت يوما أن أحكى ما رأته عيناى وسمعته أذناي. 


لم يكن الخوف فقط من فتح ملفات ما جرى فى الصحافة المصرية، فالصحافة فى أى بلد هى جزء من الحياة السياسية فيه، ولا يمكن أن يكون غير ذلك، وفى العالم الثالث عموما فإن السياسة ليست مجرد صراع مصالح اجتماعية وتيارات فكرية ورؤى مستقبلية، إنما هى مع الأسف أيضا وهذه طبائع التطور ومراحله حروب دامية من أجل البقاء، ومعارك ظاهرة وخفية، ومطامع ومؤامرات، ثم هى أيضا مخططات قوى عظمى تلعب بمصائر ومقادير شعوب وتحاول فرض سيطرتها على الآخرين وترويض همههم وإفقادهم الثقة بكل شئ حتى يصبحوا على استعداد للقبول بأى شئ، ثم إعادة تشكيل أفكارهم وأحلامهم بوسائل عديدة تبدأ بالكلمة والصورة، وتنتهى بالمدفع والدبابة.