مضت الدولة الفاطمية تمهد الأرض لنفسها، تقمع المعارضين
أحيانا وتشترى ضمائرهم أحيانا. ودخل الشعراء والأدباء تحت مظلة الانفتاح، وراحوا
يهذون بكلام شديد الهيافة وفير الدخل، وظهر لون جديد من ألوان الشعر لم يكن لمصر
عهد به من قبل، اطلقوا عليه اسم شعر المجون، وسماه المصريون الشعر الحلمنتيشى،
ولمع من بين هؤلاء الشعراء ابن مكنسة وابن دنیال وابو الرقعمق، وكان الخلفاء
يقطعون لهم الإقطاعيات وصار لبعضهم قطعان الابل والغنم، واقتنوا الدور الفاخرة على
شاطىء النيل، وغاب عقل مصر تماما، وتاه فكرها في ضباب الحشيش، واصبحت أيام مصر
كلها أعيادا، تفنن الفاطميون في خلقها، كما برعوا في اقامة المهرجانات، تفسخت
الدولة وتفشخت. وعندما تولى الخليفة المستنصر بالله حدث لمصر ما كان متوقعا، نشبت
المجاعة أظافرها في البلاد واستمرت قیع سنوات. ( أكلت الناس بعضها بعضا ) وسع فيها
القمح بثمانين دينارا لكل أردب، ثم اشتد الأمر حتى بيع كل رغيف بخمسة عشر دينارا.
واكلت الناس الميتة والكلاب والقطط، حتى قيل بيع كل كلب بخمسة دنانير، وبيع كل قط
بثلاثة دنانير، وقيل أن الكلب كان يدخل الدار فياكل الطفل في المهد وأبوه وأمه
بنظران اليه فلا يستطيعان النهوض من شدة الجوع وعدم القوة، وصارت طائفة من الناس
يجلسون على السقائف وبايديهم حبال فيها كلاليب، فاذا مر بهم أحد من الناس القوا
عليه هذه الحبال ونشلوه بتلك الكلاليب، فاذا صار عندهم، ذبحوه في الحال وأكلوه بعظامه
وقيل أن الوزير ركب على بغلة ودخل الى دار الخلافة، فلما نزل عنها اخذت عنوة وأكلت
في الحال، فأمسكوا الذين فعلوا ذلك وشنقوهم و علقوهم على الخشب، ولما باتوا اصبحوا
لم يجدوا أحدا من المشانیق ولم يبق منهم غير العظام على الأرض؛ وساءت الأحوال اكثر.
فقيل أن في الفسطاط حارة تسمى حارة الطبق. وكان فيها نحو عشرين دارا بيعت كلها بطبق
من الخبز؛ وذكر الشيخ ابوالفرج الجوزي أن امرأة حاولت أن تبيع کنزا من اللؤلؤ
مقابل كيس من الطحين، ولكنها لم تجد من يبيع لها الكيس مقابل الكنز وبسبب المجاعة،
مات نصف أهل مصر، وقيل إن الرجل كان يمشي من جامع ابن طولون الى باب زويلة فلا
يصادف أحدا على الاطلاق. وأصاب الخليفة نفسية الفقر الشديد، فباع سلاحه وملابس
جنده، ثم باع رخام قبور أجداده، ولم يبق عنده من آثار النعمة إلا سجادة رومية
وقبقاب مرصع بالجواهر، ولكن سيظل التاريخ يذكر لهذا الخليفة الفاطمی أن في عهده
أصبح المسلمون في مصر أغلبية ساحقة، واصل الحكاية أن مصر ظلت منذ الفتح الإسلامي
والى عهد المستنصر بالله القلبة مسلمة وأغلبية قبطية تدفع الجزية وبعدما انحسرت
المجاعة وهدأ الحال وصفا الجو للخليفة، أصدر فرمانا بمنح القبط كل الحقوق التي كانوا
محرومين منها في الماضي، فسمح لهم بالدخول في وظائف الحكومة والاقامة في المدينة
وارتداء الملابس العادية، وكانوا في الماضي يرتدون زيا خاصا بهم، وحرم عليهم ركوب
الدابة بالمقلوب، كما سمح لهم ببناء الكنائس، وهبت معارضية شديدة ضد الإجراءات
الجديدة وتكونت جمعيات سرية من المسلمين، كان من اهدافها احراق كنائس القبط التي
انشئت في القاهرة، وفي المقابل تكونت جمعيات سرية قبطية. أخذت تحرق مساجد المسلمين،
وانتشرت الفتنة الطائفية حتى حدث ذات يوم أن ضبط بعض القبط يشعلون النار في الجامع
الأنور وعثر معهم على صفيحة نفط ومجموعة من الخرق القديمة. فقام العامة بسحل هؤلاء
في الشارع. ثم اشعلوا فيهم النار واحرقوهم ثم راحوا يجوبون الشوارع يسحلون كل من
يلقون من الأقباط ويشعلون النار في دورهم وكنائسهم. ولم تهدا الفتنة الا في اليوم
التالى، وعنئذ اصدر الخليفة فرمانا اخر بشنق مائتي مسلم وتعليقهم على الاشجار، من
شاطىء النهر حتى قصره عقابا لهم على ما حدث في اليوم السابق ! ولكن جنود الخليفة
البلهاء سلكوا الطريق السهل. فذهبوا الى شاطيء النيل والقوا القبض على مائتي فرد
من الفلاحين الذين حضروا من الريف لبيع البيض والخضراوات والزيد في القاهرة،
وشنقوهم بعد ما سلبوا منهم بضائعهم وعلقوهم على أفرع الشجر.
وران على مصر صمت
رهيب. واستمر عدة أشهر، وكان ينذر بهبوب العاصفة وخاف الخليفة من ثورة عارمة.
فأصدر فرمانا جديدا بأن يعود الأقباط الى الحال التي كانوا عليها في الماضي. فحرم
عليهم دخول المدينة والسكن فيها كما حرم عليهم الالتحاق بالوظائف الحكومية،
وأجبرهم على ارتداء الزي القديم، وركوب الدابة بالمقلوب !
وفي ذلك اليوم بالذات. يوم صدور ذلك الفرمان، تحول مئات
الألوف من الأقباط الى الدين الاسلامی، خصوصا هؤلاء الذين كانوا قد التحقوا بوظائف
الحكومة والذين سكنوا المدينة وتعودوا ارتداء الزي العادي وركوب الدابة كالمعتاد !
وبعد ذلك بسنوات ادعي الفاطميون أن رأس الشهيد الحسين قد انتقل الى القاهرة من
عسقلان واحتفلو بتلك المناسبة احتفالا عظيما، وأقاموا مشهدا فخما لرأس الحسين
وانشأوا مسجدا كبيرا. ومنذ تلك اللحظة اصبح الاحتفال بالمولد الحسيني هو أهم وأكبر
احتفال ديني في مصر واستمر كذلك حتى يومنا هذا !
وعندما جاء الخليفة العاضد الى السلطة جاءت ايضا نهاية
الفاطميين في مصر، ويقال أن المعز لدين الله حين دخل مصر طلب بعض المشايخ ان
يكتبوا له القابا بتلقب بها خلفاء الفاطميين، فكتبوا له عددا من الألقاب كان اخرها
العاضد، وشاءت الصدف أن يكون العاضد هو آخر الخلفاء
بالفعل ؟
وقد دخل الفرنجة مصر في عهد العاضد واحاطوا بالقاهرة، فاضطر
الخليفة الي احراق مدينة الفسطاط وظلت النيران مشتعلة في المدينة شهرين كاملين !
وعندما استنجد الخليفة بملوك العرب و ارسل خصلة من شعر حريمه مع رسوله، استجاب
السلطان نور الدين بن زنکی لنداء العاضد وارسل له جيشيا كبيرا على رأسه البطل صلاح
الدين، وقد نجح صلاح الدين في طرد الفرنجة من مصر، وشنق الوزير شاور ابن مجير
الدين السعدي على باب القاهرة لأنه هو الذي أمر بحرق مدينة الفسطاط. ثم نولي صلاح
الدين الوزارة في عهد العاضد ونلقب بالناصر، وقام بقطع الخطبة في مصر عن اسم
العاضد و فحصل للاخير قهر عظيم، ثم اقدم على الانتحار بان ابتلع فص الماس فمات من يومه،
وهكذا انتهت دولة الانفتاح وكانها لم تكن. رغم انها استمرت ۲۶۸ سنة واعتمدت على الأجهزة
والدعاية وجيش كبير من البصاصين اولحظة سقوطها لم يرتفع من مصر صوت يدافع عنها،
ولم تترك أحدا يدين بمذهبها، لأن الدولة الفاطمية لم تحول شعب مصر من مذهب السنة
الى مذهب الفاطمية، ولكنها حولت الدولة المصرية، فلما سقطت الدولة سقط معها مذهبها
وذهبا معا الى وجاء البطل صلاح الدين ليعيد صياغة الحياة في مصر من جديد، وليكشف
اللثام عن وجهها العربي لأول مرة، واذا كان التاريخ يحكی آن صلاح الدين هو الذي
هدم الدولة الفاطمية، فالحقيقة أن الدولة الفاطمية هي التي هدمت نفسها، كانت دولة
قصيرة النظر، تفشت فيها الخرافة، وتحكمت فيها الطائفية، ونخرت في عظامها عوامل
الانحلال، من فساد ومحسوبية ورشوة، وعندما استصفي صلاح الدين أموال العاضد بالله،
اخر خليفة فاطمی، وجد من بين ممتلكاته اربعة الاف جارية. قيل انه وطئهن جميعا،
وكان الجيش هو مدخل صلاح الدين إلى مصر العربية. سرح العساكر المجلوبة من العجم
والترك والأرناؤوط والتركمان، وأسس جيشا حديثا قوامه ثلاثة عشر الف جندي عربي،
وسمح لأول مرة للفلاحين المصريين بدخول الجيش، وقبل أن ينطلق فاتحا بیت المقدس،
محررا فلسطين من ايدي الافرنج، كان قد أعاد ترتيب البيت من الداخل. نشر العدل ووزع
الأعباء بالتساوی، واقام قاعدة اقتصادية متينة مكنتي من الحرب لسنين طويلة،
واستعان بعدد كبير من المستشارين اصحاب الفضل والراي. بغض النظر عن أديانهم. فهم
جميعا عرب وهذا يكفي. الأسعد بن مماتی من اقباط مصر. وابن میمون یهودی عربی. وبهاء
الدين قراقوش خصی حبشي، والقاضي الفاضل، والعالم الديني الأمين من عربستان، وسنقر
الاخلاطی من کردستان. وكانت أولي معاركه العظيمة عند قرية عربية صغيرة هي قرية أم
الرشاش ( ايلات الأن ) وانزل الصليبيين هزيمة منكرة. وكان حطين هي معركته الكبرى.
وكان جيشيه يربو على المائة الف، من بينهم سبعون ألفا من أهل مصر، ومن هناك مضى من
نصر الى نصر، حتى دخل القدس وصلى في المسجد الاقصی , لم يصل كغيره في حراسة جنود
الاحتلال. ولكنه صلى ومن حوله قواده المنتصرون، وعساكره المظفرون، وفوق رأسه تخفق
رايات العروبة ! ومات صلاح الدين بعد ما دخل التاريخ من أوسع ابوابه، ولقي ربه وهو
مقيم في الشام، ومات وهو فوق السبعين، بعدما حكم ما يقرب من ربع قرن وستعرف صلاح
الدين من سطور قليلة كتبها عنه ابن ایاس , نعم ستعرف لماذا انتصر صلاح الدين ؟
ولماذا انهزم غيره ؟ ولماذا نجح ؟ بينما فشل الاخرون ! بقول ابن اياس : صلاح الدين
خلف من الأولاد سبعة عشر ولدا ذكرا من صلبه، ولم يخلف في خزائنه لاذهبا ولا فضة،
ولم يخلف قرية ولا بستانا، ولا ملكا ولا ضيعة، وانفق جميع ما في الخزائن على
التجاريد والغزوات، حتى فتح البلاد التي كانت بيد الفرنج !
ولكن الحظ النكد ان الملوك الذين جاءوا بعد صلاح الدين لم
يكونوا جميعا من هذا الطراز. كان الملك العزيز بالله العمل الوحيد السيىء الصلاح
الدين، فهو الذي اختاره ليخلفه على العرش. وكان ضعيفا متهالكا، أباح الدعارة
وتدخين الحشيش، وتفرغ تماما للحريم والليالي الملاح، وحاول هدم الهرم الأصغر،
وانفق في ذلك أموالا طائلة لاعتقاده أن تحت الهرم كنزا ثمينا من الذهب ا وكان
الملك المنصور عکس اخيه، جادا وفاضلا، ولكن صراعات السلطة أدت به في النهاية الى
السجن. وجاء الملك العادل وكان نسخة من ابيه , كانت هوايته العدل والغزو في سبيل
الله. وكان طويلا جسیما، مدور الوجه، شرها في الأكل، باكل الخروف وحده، وقد مات
مثل أبية في دمشق ودفن هناك، وجاء الملك الكامل. وجاءت عساكر الصليبيين لتغزو مصر
نفسها ! تمكنوا من النزول في بر دمياط، واحتلوا المدينة وحولوا الجامع الى كنيسة،
وأقاموا حول دمياط سورا منيعا ا ولكن الملك الكامل الف جيشا من الفلاحين وحارب بهم
سنة عشر شهرا حتى تمكن من طرد الصليبيين من دمياط. وانشا خلال الحرب مدينة
المنصورة اشهر مدينة مصرية بعد القاهرة والإسكندرية وأسوان وبورسعيد، ولكنها اخف
مدن مصر دما، واجملها نساء، واطيبها هواء. كما جاء في وصف المؤرخين السابقين ! ثم
جاء الملك العادل ولكنه لم يحكم طويلا ومات في السجن. ثم جاء الملك الصالح ليضرب
مصر والعروبة في الصميم، فهو الذي استكثر من المماليك التركمان. فلما ضاقت بهم
القاهرة وصاروا يشوشون على الناس، وينهبون البضائع من الدكاكين، بني لهم قلعة في
الروضة وأسكنهم فيها وسماهم البحرية ! وفي عهده جاء الصليبيون مرة اخرى واحتلوا
دمياط وزحفوا داخل الوجه البحرى، وهب المصريون بقيادة الملك الصالح لمقاتلة الغزاة.
ولقد بدأ الرجل المعركة بمحاسبة المسئولين عن هزيمة دمياط وأمر بشنق حاكم دمياط
وخمسين من الأمراء كانوا موجودين داخل المدينة لحظة نزول الصليبيين فيها. وتركوها
تواجه مصيرها وغروا تحت جنح الظلام ! ولكن الملك الصالح مات والمعركة على أشدها.
فكتموا خبر موته عن العسكر وعن الشعب، وأرسلوا في طلب ابنه توران شاه، فجاء على
عجل ولكن الأحداث كشفت عن مركز القوة الحقيقي الذي كان يحكم البلاد من خلف ستار.
وهي الملكة شجرة الدر زوجة الملك الصالح، وكانت هي التي كتمت خبر موت الملك الصالح
وهي التي أرسلت تستدعي ابنه نوران شاه. وهي التي حكمت البلاد خلال تلك الفترة، بين
موت الملك وحضور ابنه وهي التي قادت المعركة، وكان حولها فرسان المماليك البحرية،
الأمير افطای والأمير عز الدين التركماني والأمير قطز والأمير بيبرس وكلها اسماء
ستلمع في تاريخ مصر والعرب، ولم يكن المماليك وحدهم حول شجرة الدر، كان هناك
مصريون ارتقوا إلى مرتبة القيادة السيد البدوي وجماعة السطوحيين واحمد المراكبي
الذي هجم بالمقاليع والحجارة على جيش الغزاة ( فكانت ساعة تشيب منها النواصي. وقد
تاب من هول ذلك اليوم العاصي ) وانكسر جیش الافرنج وقتل منهم اثنا عشر الف جندي،
وأسر من ملوكهم سبعة ومن عساکرهم خمسة عشر الف انسان لم يستطيعوا دفع الفدية
فوزعوهم على الأعيان ووجوه الناس ليقوموا باعمال الخدمة، هكذا اشتغل الفرنسيون من
وراء البحر خدما لدى الفلاحين لأول مرة ! ولكن اغلب هؤلاء اعتنقوا الإسلام وتزوجوا
من بنات الفلاحين، وانجبوا نسلا لعله السبب في شهرة المنصورة حتى وقتنا هذا، أما
مصر فقد سقطت نهائيا في قبضة الفرسان، وأبعدوا الفلاحين عن السلطة وعن الجيش.
ودخلت مصر منذ ذلك الحين عصرا آخر مختلفا.
هذا هو عصر المماليك !!
محمود السعدني