تنشر بوابة «الهلال اليوم» جزءًا من الفصل الرابع من كتاب: "أحجار على رقعة الأوراسيا"، للكاتب عمرو عمار، والصادر عن دار سما للنشر، وجاء فيه:
الرؤية الاستراتيجية
كما قال (هالفرد ماكيندر) أن من يحكم الأرض المركزية (أوروبا الشرقية) يسيطر على جزيرة العالم، ومن يحكم جزيرة العالم يسيطر على العالم، فقد اندمجت فعليًّا هذه الأرض مع المبادرة الصينية (الحزام الاقتصادي وطريق الحرير) وأصبح هناك حصاد لخمس قممٍ سنوية منذ العام 2012، لمجموعة (16+1) وهي 16 دولة من أوروبا الشرقية، التي اغتالتها أيادي مشروع مارشال، بالإضافة إلى الصين.
وكأنما تستدعي بكين أحجار وارسو على رقعة الشطرنج الكبرى، وتنجح في تأسيس اتحاد أورآسيوي موازٍ للاتحاد الأوروبي، يثير غضب بروكسل وحفيظة واشنطن.
فهذه الدول التي تمثل جسر العبور الجيوسياسي للصين إلى أوروبا، أغلبها أعضاء في الاتحاد الأوروبي، ويمكن لهذه الدول أن تساعد في دفع العلاقات الشاملة بين الصين، والاتحاد الأوروبي إلى الأمام.
وبالتأكيد ستلعب هذه القمم السنوية دورًا حاسمًا لفتح بوابة جديدة للسوق الأورآسيوي، خاصةً في ظل تعنت الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) في سياسته الحمائية، التي تفرض تعريفة جمركية على واردات أمريكا من الصلب والألومنيوم من الاتحاد الأوروبي، وأيضًا في ظل محاولاته الجادة للتخلي عن أدبيات السوق الحرة، وتفكيك التحالفات الاقتصادية العالمية التي ستعود بالضرر حتمًا على مصالح الاتحاد الأوروبي برمته، وأيضًا في ظل عجز واشنطن عن تقديم ما تقدمه بكين من عطايا لهذه القارة العجوز.
عطايا بكين لا تنتهي..
شهدت العاصمة البولندية (وارسو) أول قمة مع الصين عام 2012، بحضور (16 زعيمًا) من قيادات دول أوروبا الوسطى والشرقية، هذه القمة التي مهدت الطريق لمضاعفة استثمارات بكين في الأرض المركزية إلى (18 مليار دولار) عام 2014.
أما قمة بكين عام 2015، فقد أفرزت مشاريعًا ضخمة في البنى التحتية في خطوط السكك الحديدية والطرق والموانئ، مع كلٍّ من المجر، وصربيا، أسفر عنها بناء خط قطارٍ فائق السرعة بين عاصمتي البلدين (بودابست - بلجراد) بحلول عام 2017، كجزءٍ من مشروع عبورٍ (بري – بحري) يمتد من ميناء فيرايوس للشحن باليونان، في الجنوب إلى سكوبي (عاصمة مقدونيا) ثم إلى بلجراد (عاصمة صربيا) لينتهي في بودابست (عاصمة المجر).. ويعد هذا المشروع نموذجًا لربط الحلقات البرية بالحلقات البحرية على مسار طريق الحرير.
أيضًا قدمت الصين استثمارات ضخمة في إنشاء وتطوير مرافق الموانئ في كلٍّ من، كرواتيا، وسلوفينيا (على بحر أدرياتيكي) وبولندا، ولاتفيا (على بحر البلطيق) وبلغاريا (على البحر الأسود) وتركز بكين على مشاريع الطاقة الإنتاجية بين الموانئ، والمراكز الصناعية، في المناطق الساحلية.
وفي رومانيا، وقعت الصين اتفاقيات لبناء مفاعلين نوويين، في محطةٍ للطاقة النووية الرومانية.. في الصرب، أبرمت (21 اتفاقية ومذكرة تعاون) في يونيو من عام 2016، في مجالاتٍ واسعة، بين بكين وبلجراد، شملت الاقتصاد، والبنية التحتية، والطاقة والمالية والتصنيع العسكري، والتكنولوجيا والثقافة، والإعلام والتجارة، والاتصالات والعلوم، والسياحة.
وفي بولندا، اتفقت الدولتان عام 2016، على إحياء طريق العنبر، وهو طريق قديم كان يجلب عبره الحرير والفخار والشاي، من الصين إلى بولندا، والعنبر البولندي بالاتجاه المعاكس.. فالآن وبعد ألفي عام، تعود السكك الحديدية لربط البلدين، من أجل نقل البضائع بين مدينة لودز البولندية، ومدينة تشنغدو جنوبي غربي الصين، إذ تقطع مسافة (9800 كم) في أقل من أسبوعين(1).
ومؤخرًا كانت القمة السادسة المنعقدة في بودابست، نوفمبر من عام 2017، وقد زرعت هذه القمة فعليًّا بذور الانقسام داخل الاتحاد الأوربي، بعد أن فتحت بكين لهذه الدول مغارة (علي بابا) من أجل تمويل مشروعاتٍ قوميةٍ جديدة وضخمة في البنية التحتية، في قطاعات عديدة لهذه الدول.
تم إطلاق المزيد من خطوط السكك الحديدية بواسطة الصين، لزيادة عدد الرحلات المباشرة بين الصين وأوروبا، وتم الإعلان عن إنشاء مركز لوجستي من المرجح أن يكون في المجر، وأيضًا إقامة رابطة بين الصين والمجموعة الاقتصادية المشتركة، للتنسيق بين البنوك الأوربية، وصندوق التعاون الاستثماري الصيني (سيك) وكأن العالم أمام سوقٍ اقتصاديٍّ مشترك على غرار ما تم إبان الحرب الباردة في أوروبا الغربية.
قدم بنك التنمية الصيني تمويلات بقيمة 2 مليار يورو (2.4 مليار دولار أمريكي) في صورة قروضٍ موجهة نحو التنمية إلى هذه الرابطة، والتي تأسست رسميًّا في القمة، على أن يقدم الصندوق كمرحلةٍ ثانية، ما قيمته (مليار يورو).
كما ناقشت القمة الدعوة إلى إجراء دراسة جدوى، حول توسيع خط السكك الحديدية، الذي يربط بين ميناء فيرايوس اليوناني، وبودابست، ليصل إلى النمسا(2).
وحتى أبريل من عام 2018، استثمرت الصين على طريق الحرير، في الشحن البحري والموانئ، وتحديث بناء السفن التجارية على أحدث طراز، ما قيمته (1 تريليون دولار) وهو ما تعجز واشنطن وبروكسل، عن تقديمه لهذه الدول، ولو بعد قرنٍ من الآن، وعلى هذا فقاطرة الصين ستلتهم الأرض المركزية لا محال، ولو بعد حين.
فيشيغراد تتحدى سلطة بروكسل
إلى الآن لا تزال دول وسط وشرق أوروبا، قلقة على نحوٍ متزايد من حكم بروكسل السلطوي، كما أن بولندا والمجر، تخوض معارك قضائية مريرة مع الاتحاد الأوروبي، وهما دولتان عضو في مجموعة تأسست حديثًا باسم فيشيغراد ( بولندا- المجر- التشيك- سلوفاكيا) ككتلةٍ احتجاجية لنهج بروكسل السلطوي، وتآكل الديمقراطية من قبل المفوضية الأوروبية الاستبدادية، والتي أغرقت الدول الأعضاء في مئاتٍ من القوانين الديكتاتورية، لصالح اقتصاد السوق الحرة.
تطالب دول المجموعة، المساواة بين جميع دول الاتحاد، وترى أن دول أوروبا الشرقية تشعر بالتهميش من قبل ألمانيا وفرنسا، اللتين تتخذان القرارات الرئيسية منفردة، وهو ما يعني انضمام العديد من الدول إلى هذا التكتل الاحتجاجي، كلوبي مناهض داخل الاتحاد الأوروبي.
تفجر الخلاف الحقيقي بين المجموعة وبروكسل، نتيجة لموقفها الرافض لسياسات بروكسل الإلزامية للقبول باللاجئين العابرين من الشرق الأوسط إلى أراضيها، وهي الحملة التي تتزعمها المستشارة الألمانية (إنجيلا ميركل).
من جانب بروكسل، في ديسمبر 2017، لوحت المفوضية الأوربية برفع دعوى قضائية ضد الدول الأربع أمام محكمة العدل الأوربية، لرفضها استقبال اللاجئين، كما نظمت التيارات الليبرالية حملات تشويه ضد قادة هذه الدول في الإعلام الأوروبي، تتهمها بالديكتاتورية والفاشية، عبر دولارات جورج سوروس، الممول الرئيسي لملف اللاجئين إلى أوروبا.
ومن جهةٍ أخرى، فشلت مؤسسات سوروس، في إسقاط (فيكتور أوربان) رئيس وزراء المجر، المتحمس لطريق الحرير، خلال ترشحه لمدةٍ رئاسية جديدة في أبريل 2018، بعد أن نجح الأخير في تحجيم دور منظمات المجتمع المدني المجرية، ذات النهايات الطرفية، عبر تشريع قوانين منظمة للعمل شبيهة بالقانون المصري الصادر عام 2017.
مجموعة فيشيغراد التي تتلقى مساعدات اقتصادية من الاتحاد الأوربي، تُعد أكبر شريك تجاري لألمانيا، القوى الاقتصادية الأولى في الاتحاد، مما ينذر بخطرٍ داهم على ألمانيا، إذا ما دفعت لمزيدٍ من الضغط على هذه الدول للقبول بملف اللاجئين، خاصةً أن هذه المجموعة هي المستفيد الأكبر من عملية إعادة توزيع حصص الأصوات داخل الاتحاد الأوروبي، بعد خروج بريطانيا العظمى، مما يجعل هذه المجموعة تتمتع بثقلٍ سياسيٍّ هام في المرحلة القادمة.
أوربان نجح في تشكيل حلف مشترك بين (مجموعة فيشيغراد) من جهة، والأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، والأحزاب المحافظة الألمانية من جهةٍ أخرى، ضد المستشارة الألمانية (إنجيلا ميركل).
ومع تزايد الانقسام بين الشرق والغرب الأوروبي، حول قضية اللاجئين التي يتزعمها المحور المركزي ( برلين- باريس- بروكسل) والتي تخترق حرمة السيادة الوطنية، دخلت الحكومة النمساوية الجديدة أيضًا على خط الرفض، تبعها كلٌّ من هولندا، ومجموعة من دول شمال أوروبا، أبرزها إيطاليا.
- رئيس وزراء المجر (فيكتور أوربان) زار مدينة بافاريا الألمانية مطلع العام 2018، واجتمع مع قيادات حزب المحافظين الألماني، وأعلن من هناك أن العام 2018، هو عام استعادة إرادة الشعب الأوربي، الذي يرفض وصاية بروكسل عليه.
- الرئيس البولندي (اندرس دودا) ضرب بتحذيرات المفوضية الأوربية الخاصة بتفعيل المادة السابعة من ميثاق الاتحاد، عرض الحائط، ودفع بإصلاحاتٍ قضائية في تعديلٍ دستوريٍّ جديد، غير عابئٍ بحرمان بلاده من حق التصويت في الاتحاد الأوروبي، إذا ما فعلت هذه المادة.
- الرئيس (ميلوس زيمان) المنتخب حديثًا بجمهورية التشيك، في يناير من عام 2018، أعلن رفضه للعقوبات المفروضة على روسيا من قبل الاتحاد الأوربي، ودعا لإقامة علاقات قوية مع الصين، كما رفض تمامًا المساهمة في الحصص الإلزامية لبروكسل، من أجل إعادة توطين اللاجئين.
- رئيس الوزراء الهولندي (مارك روتي) وأثناء زيارته إلى برلين في مارس 2018، أطلق على هذه السياسة (سياسة إنشاء دولة فوق وطنية) من أعلى إلى أسفل، بسيطرةٍ مركزية من بروكسل، على غرار الولايات المتحدة الأوربية (3).
الاتحاد الأوروبي على طريق التحلل
ارتفع حجم الدين العام لبلدان منطقة اليورو، في المتوسط بنسبة (90%) من إجمالي الناتج المحلي، وهو ما يتجاوز بكثير سقف (60%) الذي أقرته (معاهدة ماستريخت) تلك الاتفاقية المؤسسة للاتحاد الأوروبي، والتي شكلت أساس الدستور الأوروبي، حددت من خلال الشروط المالية، نسبة عجزٍ في ميزانية الدولة العضو، لا تقل عن حاجز (3%) ونسبة دين عام لا تتعدى (60%) كأهم الشروط.
في اليونان، تبلغ النسبة (179 %) تليها إيطاليا رابع أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي بنسبة (133%) والبرتغال بنسبة (130 %) وقبرص بنسبة (107%) وبلجيكا بنسبة (106%).
كما ارتفعت البطالة في منطقة اليورو، إلى أكثر من (19 مليون عامل) عاطل عن العمل؛ تستحوذ (اليونان، وإيطاليا، والبرتغال، وإسبانيا) على نصيب الأسد بمجموع (11 مليون عامل) عاطل عن العمل، وفي فرنسا وإيطاليا، تزيد البطالة عن (13%) من القوة العاملة، وفي إسبانيا (20%) وفي اليونان(25%).
وعلى هذا انطلقت عملية (بريكست) من قبل تيار القوميين الصاعد بقوةٍ في الشارع السياسي بأوروبا بزعامة (ماري لوبان) من فرنسا، ويتزعمه الرئيس (دونالد ترامب) في أمريكا؛ كموجة احتجاجٍ غربيٍّ ثلاثي ضد:
- ارتفاع الهجرة المتوحشة من الشرق الأوسط إلى أوروبا، والتي انعكست سلبًا على نسب البطالة، وغيرت من الثقافة الغربية.
- جشع الأسواق المالية ( لندن - وول ستريت) أي ضد الكوربوقراطية.
- اختلال مؤسسات الاتحاد الأوروبي، التي وقفت عاجزة عن حل العديد من الأزمات، وقادت إلى توتر منطقة اليورو بشكلٍ حاد.
ولهذا صوت جمهور الناخبين في بريطانيا عام 2016، على الخروج من الاتحاد الأوروبي، ويضغط تيار بريكست في جميع أنحاء أوروبا بعنف، ليس من أجل تغيير نمط الحياة في منطقة اليورو فحسب، بل لإيجاد نمطٍ جديد للعولمة، يمكن أن يحول استراتيجية الحروب التي أدمنتها الولايات المتحدة، وورطت معها شعوب القارة العجوز، في قضايا خاسرة، إلى استراتيجية التنمية المستدامة، وكأنما تتشوق بريكست للمبادرة الصينية (الحزام الاقتصادي وطريق الحرير).
ولا يوجد أبلغ من الكلمات التي صرح بها رئيس وزراء المجر (فيكتورأوربان) أثناء حضوره فاعليات منتدى الحزام والطريق، المنعقد في بكين، مايو من عام 2017 حيث صرح قائلًا:
«إن نموذج العولمة القديم عفا عليه الزمن.. إن جزءًا كبيرًا من العالم عانى من المحاضرات المستمرة من قبل بعض البلدان المتقدمة، في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية واقتصاد السوق.. إن هذا النموذج القديم من العولمة قد فقد زخمه».
السترات الصفراء
ارتفاع حجم الدين العام لبلدان منطقة اليورو، وارتفاع معدلات البطالة بين مواطني أوروبا بصورةٍ غير مسبوقة نتيجة الهجرة غير الشرعية من الشرق الأوسط، وجشع الأسواق المالية، في لندن و(وول ستريت).
وأيضًا اختلال مؤسسات الاتحاد الأوروبي، التي وقفت عاجزة عن حل العديد من الأزمات التي قادت إلى توتر منطقة اليورو بشكلٍ حاد، بعد أن عجزت لسنواتٍ مضت عن تخطي الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008.
بالإضافة إلى سلطوية بروكسل على سيادة الدولة الوطنية، وإجبار دول اليورو على الانصياع إلى سياساتها النقدية، وكأنما تم خصخصة مؤسسات ومرافق دول اليورو، لصالح الكوربوقراطية.
كل ما سبق يُعد من العوامل الرئيسية التي قادت إلى ظهور السترات البيضاء من قلب شارع الشانزيليزية في العاصمة الفرنسية باريس.
لا أخفي القارئ العزيز سرًّا، فقد توقعت اندلاع ثورات الغضب من شرق وجنوب أوروبا على المدى المتوسط، ولم أتوقع أن تبدأ من فرنسا بهذه السرعة! مما دفعني إلى استعادة المؤلف قبل الطبع، لنلقي الضوء على بداية سقوط قطع الدومينوز، فقطار الربيع الأوروبي انطلق من فرنسا بنهاية العام 2018، ودارت العجلة دورتها ولن تتوقف، حتى لو تعطلت لفترةٍ وجيزة.
غضب الشارع الفرنسي، وقد تجسد في مشاهد دامية، تحرق السيارات الفارهة، وتتلف الممتلكات، وتنهب متاجر الشانزيليزية، وتضطرم النيران في كل ما يطوله أيادي الثوار أصحاب السترات الصفراء، وتغلق أبواب البرلمان الفرنسي بالإسمنت، وترمي بمياه الصرف الصحي على نوافذ قصر الإليزية، نتيجة القرارات الرئاسية التي فرضت ضرائب جديدة على الوقود، ومعاشات المتقاعدين؛ يبدو في ظاهره غضبًا موجهًا إلى الرئيس (ايمانويل ماكرون) التلميذ النجيب في مدرسة الكوربوقراطية، والمصرفي السابق في بنك روتشيلد الفرنسي، وقد أتوا به من خارج الأحزاب السياسية الفرنسية، إلى سدة الحكم في الانتخابات الفرنسية عام 2017، بعد أن خشي الشعب الفرنسي، من فوز زعيمة اليمين (ماري لوبان).
أما باطن بركان الغضب هذا، فيجسد حقيقة انقلابٍ ناعم من قبل الشعب الفرنسي على أدبيات اقتصاد السوق الحرة، وقوانين الكوربوقراطية، أي على الديمقراطية الليبرالية؛ ونموذج الكونية، الذي عاش العالم بأسره تحت رحمة قوانينه ومبادئه، وفق عقيدة البوريتانية الكالفينية، وبمفهوم الخطاب الموحد لأمةٍ قامت في عام الاستقلال 1776، قيل فيها على لسان جورج واشنطن:
«إن أمريكا هي النموذج الديمقراطي المختار بالعناية السماوية، وهي لا تستطيع أن تكون سوى تلك الأمة التي تدل على الطريق الذي يجب السير عليه، وعليها أن تسير هي في مقدمة ركب أمم الأرض كافة».
الآن يعلن الشعب الفرنسي رفضه الانصياع إلى الكوربوقراطية، والسير في ركابها، بعد أن رفع شعار (بداية التاريخ وتطور الإنسان الجديد) في مواجهة أفكار فرانسيس فوكوياما (نهاية التاريخ وبداية الإنسان الأخير) التي لم تحقق ما وعدت به من رفاهية الإنسان.
صياح الفرنسيين في باريس، ومن بعده باقي شعوب أوروبا، سيشكل نظامًا ماليًّا عالميًّا جديدًا، يرفض القبول بالديمقراطية الليبرالية، كآخر مراحل التطور الأيديولوجي، والشكل النهائي لأي حكمٍ إنساني.
هو صياح يبحث عن نمطٍ جديد للعولمة، يدور خارج مدارات نظريات الفيلسوف الاقتصادي الاسكتلندي (آدم سميث) والفيلسوف الألماني (هيجل) و(كارل ماركس) وأفكار الاقتصادي الأمريكي (ميلتون فريدمان) عراب الليبرالية الجديدة، وأول من نادى عام 1962، بضرورة رفع يد الدولة عن الاقتصاد، وضرورة خصخصة كل مؤسسات الدولة ومرافقها.
العجلة دارت وتساقطت قطع الدومينوز وتمدد الغضب بالسترات الصفراء من فرنسا إلى إيطاليا حتى بروكسل أمام مقر المفوضية الأوربية، والرسالة واضحة لا جدال فيها من أحد، وبات تفكك الاتحاد الأوروبي على يد تيار القوميين من اليمين الأوروبي الصاعد على مرمى البصر.
تحالفات على مرمى البصر
منذ الإعلان عن مبدأ ولفوفيتز وحتى اللحظة، يبدو أن أمريكا فشلت في منع ظهور قوةٍ معادية يمكن لها أن تسيطر على رقعة الأوراسيا.. ورحل برجينسكي عن العالم وهو ينظر بحسرةٍ إلى اتحاد لاعبي الشرق الأوراسي (روسيا – الصين) وقد حذر في كتابه (لوحة الشطرنج الكبرى) من هذا التحالف الذي يمكن أن يدفع بالهيمنة الأمريكية خارج رقعة الأوراسيا، ومن ثم على عالمٍ أحادي القطبية.
ولهذا اتهمت وثيقة استراتيجية الأمن القومي الصادرة عن إدارة دونالد ترامب، بشكلٍ صريح، كل من الصين وروسيا، بتقويض النظام الدولي الحالي، وكسر قواعده بما يهدد المصالح الأمريكية، وقدراتها على الهيمنة العالمية.
أيضًا هناك تحالف آخر حذر منه (جورج فريدمان ).. التلميذ النجيب لـ (هالفرد ماكيندر) ومؤسس مركز الدراسات الاستراتيجي والأمني الأميركي (ستراتفور) والذي يطلق عليها الإعلام الأمريكي (وكالة الاستخبارات المركزية في الظل).. وصفه فريدمان بعد الثورة الأوكرانية عام 2014، بالتحالف المحتمل الأخطر من منظور الولايات المتحدة، وهو تحالف بين روسيا وألمانيا، سيكون هذا بمثابة تحالف بين التكنولوجيا ورأس المال الألماني، مع الموارد الطبيعية والبشرية الروسية.
ورغم أن برجينسكي استبعد حدوث تحالف بين قطبي الشرق الأوراسي، نتيجة للخلافات الأيديولوجية بين موسكو - بكين، فإن فريدمان لم يستبعد التحالف بين موسكو وبرلين، رغم الحواجز التاريخية بين البلدين.
وبالتأكيد في ظل استمرار سياسة الحمائية، والحرب التجارية، والعقوبات الاقتصادية التي يديرها الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) ضد روسيا، والاتحاد الأوروبي وعلى رأسه ألمانيا، ستدفع خطوة نحو هذا التحالف الأخطر على واشنطن، خاصةً مع وجود مصالح جيواقتصادية هائلة بين موسكو وبرلين، عبر خط أنابيب الغاز الروسي إلى ألمانيا (نورد ستريم2) والتي تحاول واشنطن عرقلة بنائه بكل السبل.
بينما لا يزال اعتماد الأسواق الأوربية كأكبر سوق مستورد للغاز الطبيعي في العالم، على روسيا بصفتها المورد الأول للغاز، رغم انخفاض نسبة واردات أوروبا من الغاز الروسي نتيجة الأزمة الأوكرانية إلى (29%) عام 2018، بعد أن كانت (34.6%) عام 2010.
وتأتي النرويج كثاني أكبر مورد للغاز إلى الأسواق الأوروبية، بنسبة (26%) ثم يأتي بعدهما غاز كلٍّ من أذربيجان وقطر، ومؤخرًا الغاز الصخري للولايات المتحدة الأمريكية.
أما هولندا التي تمتلك أكبر حقل غازٍ أوروبي، يعتمد عليه السوق الأوروبي بشكلٍ كبير، منذ العام 1960، فقد اضطرت أمستردام فعليًّا إلى تخفيض الطاقة الإنتاجية لحقل (جرونينجن) العملاق، بسبب عوامل البيئة، على أن يتم غلق الحقل نهائيًّا في غضون عامين.
واردات الغاز الروسي إلى أوروبا
يُضخ الغاز الروسي إلى ليالي أوروبا الباردة عبر خطين:
الخط الأول: خط أنابيب (نورد ستريم1) كأطول خط أنابيب تحت البحر في العالم، يمر من روسيا إلى ألمانيا، عبر بحر البلطيق، وتبلغ طاقته السنوية (55 مليار م3) وبسبب قيود بروكسل على شركة (غازبروم) الروسية، يتم استخدام (22.5 مليار م3) فقط من السعة الفعلية للخط.
الخط الثاني: يضخ الغاز الروسي عبر أنابيب برية تخترق الأراضي الأوكرانية إلى أوروبا، ومؤخرًا أعلنت شركة غاز بروم الروسية، رفضها تجديد العقد مع أوكرانيا المضطربة سياسيًّا واقتصاديًّا، والمنتهي بحلول عام 2019.
وعلى هذا تسعى موسكو إلى إيجاد بديلٍ عن خط أنابيب أوكرانيا، من خلال خطين رئيسيين:
الخط الأول: يعبر البحر الأسود إلى تركيا دون المرور على أوكرانيا، ومنها إلى أسواق أوروبا، وقد تم الاتفاق عليه بين موسكو وأنقرة بنهاية العام 2017، ووضع حجر الأساس له بنهاية العام 2018، كبديلٍ عن فكرة خط أنابيب (ساوث ستريم) عبر البحر الأسود إلى بلغاريا واليونان، التي تخلت عنه روسيا نتيجة تعنت بلغاريا في الاتفاق.
هذا الخط يظل محفوفًا بالمخاطر، إذا ما وضع في الاعتبار، السياسة البرجماتية للرئيس التركي (رجب طيب أردوغان) وتأرجح العلاقات التركية - الروسية، صعودًا وهبوطًا، نتيجة التوترات والصراعات في منطقة الشرق الأوسط.
الخط الثاني: (نورد ستريم2).. وقد دخل حيز الإنشاء بديلًا عن خط أوكرانيا، ويهدف إلى مضاعفة طاقة الغاز الحالية التي تتدفق من (نورد ستريم1) إلى شمال ألمانيا، وستقدم شركة (نورد ستريم 2) ما قيمته (55 مليار م3) من الغاز الروسي إلى الاتحاد الأوروبي، عبر ألمانيا، بعيدًا عن بولندا.
الاتحاد الأوروبي في مواجهة نورد ستريم2
عام 2017، اقترحت المفوضية الأوربية تعديلات على توجيهات سوق الغاز، تهدف للسيطرة على خط (نورد ستريم 2) إذا تمت الموافقة على هذه التعديلات من قبل مجلس الاتحاد الأوربي، ستجلب مشاكل كثيرة على قطاع الغاز بصفةٍ خاصة والطاقة بأكمله، وستواجه هذه التعديلات معضلات رئيسية تتمثل في الآتي:
أولًا: مع نقص الإنتاج المحلي للطاقة بشكلٍ متزايد في أوروبا، هل يمكن الاستغناء عن ثلثي احتياجات أوروبا من الغاز القادم من روسيا؟
ثانيًا: كيف يمكن إقناع دول العبور الساحلية (فنلندا - السويد - الدنمارك) والذي يمر خط نورد ستريم1، عبر مناطقها الاقتصادية الخالصة على بحر البلطيق، إلى ألمانيا، برفض الموافقة على خط نورد ستريم2، خاصةً أن الخط لا يشكل أي اختراقٍ لاتفاقية الأمم المتحدة لعام 1982، المعنية بقانون البحار، والذي يمنح الدول حق العبور في المنطقة الاقتصادية الخالصة، والواقعة خارج المياه الإقليمية للدول الساحلية الأخرى، وعلى هذا، لن تملك دول العبور أي مشروعيةٍ لرفض (نورد ستريم2) وخاصةً أن دول الاتحاد الأوربي بالكامل موقعة على هذه الاتفاقية.
من جهةٍ أخرى تدعم مفوضية الاتحاد الأوروبي وواشنطن، الاعتماد على غاز حوض شرق المتوسط، وممر الغاز الجنوبي الأذربيجاني (نابوكو) بديلًا عن الغاز الروسي.
ورغم ضعف الاحتياطيات بالمقارنة بالغاز الروسي، فإن خطوات الاعتماد الأوروبي على غاز المتوسط، بدأت تتشكل من القاهرة التي تتجه الآن بخطواتٍ ثابتة نحو التحول إلى أكبر مركز للطاقة في منطقة الشرق الأوسط، لتوريد الغاز المسال إلى أوروبا، حيث تصبح مصر هي بؤرة جذب وتجميع خطوط الغاز من حوض شرق المتوسط القادم من قبرص وإسرائيل، وربما من سورية على المدى المتوسط، جنبًا إلى جنب مع تدفقات الغاز المصري المحلي، وعبر محطتي الغاز المسال في (إدكو – دمياط) يعبر غاز المتوسط المسال إلى أوروبا.
مع ذلك يظل هذا السيناريو رهينة الاضطرابات السياسية التي تشهدها هذه المنطقة، وإلى أي مدى يمكن أن تجد تركيا بديلًا عن ضياع حلم التحكم في مقبض غاز المتوسط العابر إلى أوروبا من أنقرة؟
أما مشروع (خط نابوكو) القادم من أذربيجان، فيستلزم حوالي (3500 كم) من خط الأنابيب، بتكلفةٍ باهظة تبلغ (42 مليار دولار) بينما يكلف (نورد ستريم2) حوالي (9.5 مليار دولار) فقط، ولا يعتمد على بلدان غير مستقرة سياسيًّا مثل خط نابوكو، ويمكن لروسيا أن تشن حرب أسعار على غاز أذربيجان لمنعه من الوصول إلى السوق الأوروبي (4).
المواجهة الأمريكية لنورد ستريم2
استمرارًا لغطرسة العقوبات الأمريكية على موسكو، وفي 25 يوليو 2017، صوت الكونجرس الأمريكي على مشروع قرار يفرض عقوبات جديدة على روسيا، بحجة استمرار الاحتلال الروسي شبه جزيرة القرم، وبذريعة الاتهامات الموجهة لموسكو بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لصالح دونالد ترامب.
لم تحتج موسكو على هذا القانون منفردة، بل احتجت قادة أوروبا بشدة، وخاصة ألمانيا وفرنسا؛ فمشروع القانون يفرض عقوبات على الشركات الأوروبية التي تعمل في مجال الطاقة داخل روسيا، حال عدم التزامها بتنفيذ هذه العقوبات.
هذه الشركات بمقتضى هذا القانون، لن تفقد حقها في المنافسة على المناقصات المعلنة في الولايات المتحدة فحسب، بل ستفقد كل أصولها في الولايات المتحدة، وستمنع من الوصول إلى البنوك الدولية، إضافة إلى تعذر تمكنها من مواصلة أنشطتها خارج الاتحاد الأوروبي.
القانون اعتبرته ألمانيا ضد مصالحها الصناعية، ويحد من تطورها الاقتصادي المرتبط بروسيا، ويعرقل وصول الغاز الروسي إلى أوروبا، خاصة أن هذه الشركات قد استثمرت بالفعل في خط أنابيب (نورد ستريم2).
العقوبات الأمريكية ضد روسيا موجهة في الأساس ضد ألمانيا الصناعية، فالولايات المتحدة التي تسعى لبناء أمريكا الصناعية مجددًا، تريد إعادة إرساء دعائم (نظرية ولفوفيتز) وهو ما بدأت ألمانيا في إدراكه مؤخرًا، خاصة مع اندلاع الحرب الكلامية بين ترامب وميركل، حول سياسة الحمائية التي يفرضها ترامب على الأسواق العالمية.
ولهذا وضع وزير الخارجية الألماني، الولايات المتحدة الأمريكية بالمرتبة الثانية، في تحديات السياسة الخارجية لألمانيا، بعد قضية اللاجئين، وتسبق تركيا وروسيا، وأوصى بضرورة بناء شراكات أوروبية بعيدًا عن أمريكا.
ترامب يغرق ألمانيا في البحار الثلاثة
يسعى ترامب وفق خطةٍ طويلة الأمد، إلى إخراج الغاز الروسي من السوق الأوروبي، وإقناع أوروبا بالتخلي عن هذا الخط، مقابل الحصول على الغاز الطبيعي المسال من فائض الغاز الصخري الأمريكي؛ على أن تصبح بولندا وكرواتيا، مركزًا للغاز الطبيعي الأمريكي، لدول وسط وشرق أوروبا التي ستفقد حق (الإتاوة) عن مرور الغاز الروسي العابر من أوكرانيا إلى أراضيها، بعد غلق هذا الخط عام 2019، واستبداله بخط (نورد ستريم2).
هذه الاستراتيجية الأمريكية في مواجهة تأثير روسيا في الشرق، وألمانيا من الغرب؛ تأتي كجزءٍ مما يسمى (مبادرة البحار الثلاثة) التي تأسست عام 2016، من قبل بولندا وكرواتيا، لربط استراتيجيات الطاقة بين البلدان الاثني عشر المطلة على (بحر الأدرياتيكي- بحر البلطيق - البحر الأسود).
تشمل المبادرة التي يقودها الرئيس التنفيذي السابق لشركة (إكسون موبيل) إحدى شركات الكوربوقراطية، وتعارض ألمانيا بشدة (المجر - جمهورية التشيك - سلوفاكيا - رومانيا - بلغاريا - ليتوانيا - استونيا - لاتفيا - سلوفينيا - النمسا) وجميعهم تقريبًا يعتمدون حاليًّا على الغاز الطبيعي الروسي.
أما بولندا التي تم تقسيم أراضيها (الكومنولث البولندي اللتواني) بنهاية القرن الثامن عشر، لصالح كلٍّ من الإمبراطورية الروسية، وبروسيا والنمسا، وقد تم غزو أراضيها مجددًا من قبل الاتحاد السوفيتي، وألمانيا النازية، في الحرب العالمية الثانية، فهي لا توافق على مبادرة البحار الثلاثة كرد فعلٍ على فقدانها وأوكرانيا (إتاوة) مرور أنابيب الغاز الروسي عبر أراضيها إلى أوروبا، فحسب، فهي تسعى لاستعادة حلم الكومنولث القديم، الذي امتد يومًا ما، من بحر البلطيق إلى البحر الأسود، ليتجاوزه عبر هذه المبادرة إلى بحر أدرياتيكي، ولهذا تحلم بولندا أن تصبح مركزًا جديدًا للغاز الموجه إلى وسط أوروبا بديلًا عن روسيا.
المبادرة تُعد بعيدة المنال، فعملية تحويل الغاز من الحالة الغازية إلى السائلة، من بلد المنشأ (أمريكا) ثم تحويلها من الحالة السائلة إلى الغازية، في بلد المصب (بولندا) ثم تضخ عبر أنابيب برية للاستهلاك النهائي؛ تحتاج إلى تجهيزات ومحطات، وطرق نقل عالية الكلفة، بالمقارنة بكلفة الغاز الروسي الذي يضخ مباشرة عبر أنابيب الغاز إلى أوروبا.
وتشير تقديرات شركة (غاز بروم) الروسية، إلى أن بولاندا عليها أن تدفع ما قيمته (265:295) دولار لكل ألف متر مكعب غاز، بينما يتم تسليم الغاز الروسي لوسط أوروبا بمتوسط سعر (190) دولارًا لكل ألف متر مكعب.
كما أن أمريكا حتى الآن، لا تمتلك سوى محطة واحدة للغاز المسال في تكساس، ويشير الخبراء إلى قصر مدة العمر الافتراضي للغاز الصخري الأمريكي، مما يجعلها غير قادرة على الاستمرارية في الإنتاج، ومنافسة التأثير الألماني على أسواق الطاقة في أوروبا، أو حتى على روسيا كموردٍ أساسي لهذه الطاقة (5).
ومن ثم لن تصبح المبادرة بديلًا حقيقيًّا عن خط (نورد ستريم2).. بالرغم من ذلك يمكن للرئيس الأمريكي تغيير قواعد اللعبة الجيوسياسية والاقتصادية، ولو مؤقتًا لصالح واشنطن، خاصة بعد انسحاب واشنطن من اتفاقية باريس للمناخ، والتي تعرقل استخراج الغاز، والنفط الصخري المضر بالبيئة.