الجمعة 3 مايو 2024

بين المواطنة العالمية وسيادة الدولة الوطنية

أخرى2-12-2020 | 14:45

أفرز الفكر الإنساني الحديث مجموعة متنوعة من المفاهيم الحضارية الكُبرى التي غيرت من صور المجمعات التقليدية وأشكال العلاقات السائدة بين الأفراد والجماعات، ومن بين هذه المفاهيم التي ارتبطت بتغيرات مجتمعية سادت مختلف بقاع العالم ومنها المجتمع المدني والديمقراطية والعولمة والحرب الاستباقية والأمن الإنساني والبيئة والسلام العالمي والمواطنة والأقمار الصناعية ووظائفها وشبكة الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي .. وغيرها.

وقد لعبت تلك الظواهر دورها الكبير فى تطور الوعى والثقافة الإنسانية وفى تطور العلاقات الدولية، وفي ذات الوقت جعلت المجتمعات الإنسانية الحديثة تولى اهتمام كبيرا لقضايا التبادل والتعاون والعيش المشترك، على أساس فكرة المصير الإنساني الواحد التى رسختها تلك الظواهر، فعلي سبيل المثال لم تعد قضايا البيئة وتلوثها قضايا محلية ذات شأن داخلي بل أصبحت قضايا عالمية، ذات شأن دولي فزيادة الانبعاث الكربونى فى بلد ما من البلدان سوف يزيد من تآكل طبقة الأوزون التى ستعانى منها الكرة الأرضية بجميع بلدانها وأقاليمها، كما لم تعد قضايا الأمن الإنساني كقضية الإرهاب مجرد شأن وطنى داخلى بل أصبحت قضية ذات طبيعة دولية تتأثر بها جميع الدول، فتنامى جماعات الإرهاب فى منطقة الشرق الأوسط لم يقتصر تأثيرها داخل البلدان التى نشأت فيها وإنما انتقلت عبر القارات لتلقى بآثارها المرة مثل ما حدث فى تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر2001 في الولايات المحتدة الأمريكية والتي خلّفت نحو ما يزيد عن ثلاثة آلاف ضحية، وتكبّد العالم بأسره خسائر تقدّر بمليارات الدولارات، لذا لم تعد هذه القضية شأن داخلي قاصر علي دولة دون الأخرى بقدر ما أصبحت قضية عالمية تستهدف العالم كله.

وأيضا من بين تلك المفاهيم الحضارية الكبرى التي حظيت باهتمام كبير طوال العقود السابقة والتي تطورت نتيجة ارتباطها بالدولة الوطنية الحديثة هو مفهوم المواطنة بصفتها مفهوم اجتماعي وسياسي وقانوني يحدد شكل العلاقة بين الفرد والدولة، وقد تشكّل المفهوم وتطور عبر عقود طويلة من الزمن، وتعني المواطنة ببساطة المساواة الكاملة بين جميع الأفراد في الحقوق والواجبات دون أي تمييز بسبب النوع أو العرق أو الدين أو العقيدة أو اللون أو الطبقة الاجتماعية.

ومع اختلاف الأزمان والأماكن تختلف المواطنة أيضا، وبالتأكيد مفهوم المواطنة منذ نشأته فى العصر الحديث مع ظهور الدولة القومية يختلف عن مفهومها الآن في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، وكذلك تختلف المواطنة من دولة لأخرى ففى الدولة الحديثة ذات الأجناس والأعراق المتعددة مثل الولايات المتحدة الأمريكية تسعي المواطنة فيها لتكريس قيمة الولاء لدي الأفراد الذي وفد أسلافهم من بلاد مختلفة فمن الطبيعى أنهم ينتمون إلى خلفيات ثقافية واجتماعية وعقائدية متنوعة هنا يصبح الهدف الأكبر للمواطنة أن ينصهر هؤلاء جميعا من خلال بوتقة المواطنة التي تجعل من تلك الاختلافات وأحيانا التناقضات بينهم؛ قوة هائلة لدعم الوطن الجديد والعمل على بقائه في صدارة الدول المتقدمة، وأما المواطنة في دولة مثل مصر ذات الأصول التاريخية الممتدة والعميقة والمتنوعة تهدف المواطنة فيها لتكريس قيمة الانتماء والارتباط بالوطن وجدانيا وفكريا، فالانتماء يشجع الفرد علي بناء المجتمع  والمحافظة عليه وعلي البيئة المحيطة به بشكل دائم، كما تسعى المواطنة فى مصر إلى انتقال الفرد من حالة المواطنة بالقوة إلى المواطنة الفعالة والتى تدفع المواطنين إلى الانخراط فى مختلف الفعاليات السياسية والثقافية والاجتماعية فى وطنه.

وقد ظلت المواطنة لفترات طويلة بمعناها التقليدي مدخلا رئيسا للمشاركة الشعبية بكافة أشكالها، ولكن سرعان ما استجابت للتطورات العالمية الحديثة فلم يعد بإمكان أي دولة أن تعيش بمعزل عن تلك المتغيرات أو تتجاهلها، فثورة المعلومات والاتصالات التي اجتاحت العالم أدت إلي  ظهور عديد من التغييرات الجذرية في المجتمعات الدولية فأصبح بإمكان أي شخص في العالم أن يتابع الأحداث في شتي بقاع الأرض عن طريق مختلف وسائل الاعلام والانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي ؛ مما أدي إلي خلق  المزيد من مساحات التواصل والاندماج الثقافي والاجتماعي.

 ومن هنا ظهرت فكرة المواطنة العالميةGlobal Citizenship كاستجابة للمتغيرات الدولية الحديثة، والتي تنطلق من مفهوم إنساني شامل، يسعى إلى تقارب الشعوب وخلق نوعا من التعاطف بين المجتمعات والجماعات المتنوعة، وقبول الاختلافات الثقافية ومعالجة المشكلات ضمن منظور عالمي، وتحقيق التنمية المستدامة، والعدالة والمساواة والعمل علي نشر السلام العالمي، وتعزيز مفاهيم التفاهم والتسامح والصداقة بين شعوب العالم والإيمان بفكرة المصير الإنساني المشترك.

فالمواطنة العالمية تهدف في مجملها إلى خدمة المجتمعات الإنسانية كافة، وتعني في جوهرها القدرة علي العيش المشترك في مجتمع يتسم بالديمقراطية والتعددية والانفتاح علي العالم، والمشاركة في بناء مجتمع عالمي عادل يحترم الخصوصيات ويشجع علي  وجود القيم الإنسانية المشتركة، وقد حددت منظمة اليونسكو معني للمواطنة العالمية وعرفتها بأنها ذلك الشعور بالانتماء إلى المجتمع الأوسع والانسانية المشتركة، الذي يتخطى الحدود الوطنية، ويقوي الترابط السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والترابط بين المستوي المحلي والوطني والعالمي.


ولا تقتصر المواطنة العالمية علي نشر مفهوم ثقافة الاندماج والانفتاح الفكري والثقافي علي الآخر والانتماء للمجتمع الإنساني الدولي فحسب، بل أنها تتضمن التفاعل مع القضايا السياسية والاجتماعية والأمنية والتحديات الكبرى التي تواجهها البشرية فضلا عن تبني ثقافة نشر الوعي سواء كان وعيا بيئيا أو صحيا أو اجتماعيا، وتبني ثقافة الحوار كمدخل للفهم والتحليل والتعاطف.

 

ويمكننا اعتبار الآثار المرة للحرب العالمية الثانية التي راح ضحيتها نحو ما يقرب من 50 مليون ضحية حول العالم، والتي كانت نتيجة طبيعية للاستقطاب الدولي الحاد وفكرة المحاور والسعي نحو الهيمنة والنفوذ علي أكبر مساحة من الأرض، وفي محاولة للخروج من هذا التاريخ الدموي سعت هذه الدول إلى إنشاء كيانات دولية كبرى، كما سعت إلي أن يتوفر لهذه الكيانات قدر كبير من المصداقية في سبيل تعزيز التعاون الدولي ومنع الصراعات في المستقبل، وحل المشكلات الدولية بالطرق السلمية من أجل حماية السلام الدولي.


وكان نجاح منظمة الأمم المتحدة في تحقيق أغراضها مبررا لظهور عديد من المنظمات والكيانات الدولية الكبرى التي انبثقت عنها، والتي اهتمت بالقضايا النوعية ذات الطبيعة الخاصة مثل محكمة العدل الدولية ومنظمة اليونسكو ومنظمة التعاون الاقتصادي ومنظمة الأغذية والزراعة FAO ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة العمل الدولية.. وغيرها من المنظمات، والتي تصدر عنها تقارير سنوية حول الشفافية والحرية والفقر وجودة التعليم والحكم الرشيد ومعايير الجودة والاعتماد في كافة المجالات، كل هذه المتغيرات التي تشملها التقارير الدولية أصبح لها ثقل كبير في تحديد مكانة وحجم الدولة وتحديد علاقاتها علي المستوي الدولي، كما أنها تنطلق من معايير ومقاييس ذات مصداقية كبيرة علي المستوي الإنساني؛ فإنها في نفس الوقت تعتبر أساسا قويا للحوار علي المستوي الدولي في سبيل المصلحة الفُضلي للأفراد والأوطان.


ورغم كل هذا فإننا يمكننا القول أن العدالة المطلقة والتمثيل العادل لكل دول العالم في تحديد سياسات تلك المنظمات الدولية لم يتحقق بعد، ومازالت تلك المنظمات تتأثر بسياسات المحاور المختلفة وبتوجيهات الدول ذات الثقل والنفوذ الكبير؛ مما يؤدي في بعض الأحيان إلى التدخل غير العادل في سياسات بعض الدول مثلما يسعي صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي إلى إملاء بعض السياسات غير إنسانية على بعض الدول كشرط للتقديم المساعدات الاقتصادية مثل تخفيض الإنفاق الحكومي علي الدعم والخدمات الاجتماعية، وهو ما يؤدي غالبا إلي كثير من المشكلات والاضرابات السياسية والاقتصادية كما حدث في اليونان والبرازيل وغيرها من دول العالم.

كل ذلك يدعونا إلي التفكير فيما إذا كان هناك تعارض بين السيادة الوطنية للبلاد مع فكرة المواطنة العالمية والنظام العالمي الجديد؟ وهل يجوز أن يعتدي النظام العالمي على سيادة الشعوب والدول تحت أي مسمي من المسميات؟

في واقع الأمر تحتاج الإجابة على هذا السؤال إلى تحديد وفهم معني السيادة الوطنية للدولة، ومعرفة المتغيرات التي طرأت علي هذا المفهوم، فغالبا ما ترتبط السيادة بالدولة ارتباطا شديدا بحيث لا يمكن فهم وجود دولة ما بدون أن يكون لها حق السيادة علي كل أراضيها وفي كل مجالاتها، وبالتالي يمكننا القول بأن السيادة ترمز إلي كيان الدولة، وهي القوة أو السلطة العليا المطلقة في الدولة وتعد أيضا منبع السلطات الأخرى.

ولابد من الإشارة إلي أن الدولة بمكوناتها المادية (السكان والأقاليم والمؤسسات) والمعنوية (الدستور والقانون والثقافة واللغة) تستمد سيادتها من فكرة المواطنة القائمة علي سيادة الشعب بما لديه من قيم تحثه علي معرفه مسئولياته والقيام بأدواره، ومعرفه حقوقه والمطالبة بها، كما أن السيادة تمثل أيضا الإرادة العامة للشعب وهي فوق أي إرادة فردية.

ولكن مع ظهور المواطنة العالمية وانتشار قيمها وعلي رأسها حقوق الإنسان أصبحت فكرة  السيادة الوطنية  قاصرة على فهم بعض المتغيرات الحديثة مثل القوانين والتشريعات الدولية التي تسمح بالتدخل في السيادة الوطنية لمنع انتهاك حقوق الإنسان وفرض احترامها علي جميع الدول التي وقعت علي الاتفاقيات الدولية التي تكفل حقوق الإنسان،  ومن هنا فقد أصبح من الضروري علي المستوي العلمي والموضوعي والإنساني حل التناقضات بين المعايير الدولية والمعايير الوطنية مما يتيح للمواطن الانطلاق إلى آفاق إنسانية رحبة؛ وبالتالي يصبح المواطن ليس مواطنا محليا بل يصبح مواطنا عالميا ينتمي للمجتمع الإنساني العالمي، وهذا المجتمع مطالب بأن يدافع عن حقوقه ويصونها.

لذا تبقي الإشكالية قائمة بين سيادة الدولة الوطنية والحفاظ على استقلاليتها في حالة من الجدال وخاصة في الدول الديمقراطية التي يحق فيها للشعب تحديد مصيره بما يحقق أهدافه في المستقبل، فالمفترض أن الشعوب جمعيها لديها مطلق الحرية في وضع الدساتير وتشريع القوانين.

ولذا لابد من إحداث نوعا من التوازن بين السيادة الوطنية وبين المواطنة العالمية، من خلال تطوير فهم بني الحوكمة العالمية والحقوق والواجبات والقضايا العالمية والروابط بين النظم العالمية والوطنية. والاعتراف باختلاف الهويات، وتطوير مهارات العيش المشترك لدي الأفراد في عالم يزداد تنوعا، وتعظيم قيم التسامح والمشاركة  والتعاون والتواصل والتبادل  والتضامن، واحترام الاخر،  ونبذ العنف ومناهضة العنصرية والتعصب، وترسيخ مفاهيم العدالة الاجتماعية، والسعي وراء بناء إنسان فعال قادر علي الانخراط في النظام العالمي الجديد يستطيع أن يفهم ويشارك في حوارات القضايا الدولية والحوارات المدنية، ولديه القدرة علي المنافسة وفق معايير دولية عادلة، ولابد أيضا من مد جسور التواصل الإنساني والحوار بين مختلف الثقافات والأديان؛ حتي يتسنى لنا مواكبه التطورات العالمية الحديثة والحفاظ علي مقتضيات التمسك بهويتنا الوطنية الخاصة في ظل التفاعل الإيجابي مع العولمة دون الذوبان فيها، وهو ما يفتح الطريق إلي البحث عن الأرضية المشتركة التي تسع البشر جميعا للعيش معا تحت شمس المستقبل.

    Dr.Randa
    Dr.Radwa