تنشر «الهلال اليوم» القصة القصيرة «الملاك الحارس «سدراك»، من المجموعة القصصية «من مقام راحة الأرواح»، الصادرة عن دار «روافد» للنشر والتوزيع للكاتبة مريم عبد العزيز.
الملاك الحارس «سدراك»
عابدين.. يتفرَّع من شارع الشيخ ريحان بداية من ميدان التحرير، وصولًا إلى شارع بورسعيد، الكثير من الشوارع الفرعية يمينًا ويسارًا، ولكن عند المنتصف تمامًا يقع ضريح أحد آل البيت غير ذائع الصيت كأقرانه، يواجه الضريح أحد هذه الشوارع الفرعية، وعلى ناصية الشارعين تقع قهوة المعلم حنفي القطر، وفي الجهة المقابلة يقع دكَّان لعصير القصب على طراز دكاكين العصير قبل عصر العولمة، قطع من القيشاني الملون في أشكال هندسية، ونصبة من الرخام الرديء، و قرب باب الدكان طاولة خشبية ذات درج هو خزانة النقود، تعلوه بناية مهجورة ربما لتهالكها النسبي، موقع متميز للدكان يضمن له الزبائن طوال اليوم.
سدراك أو سدرا كما كنا نناديه، عرفناه بالدكان وعرفنا الدكان به، على الرغم من كونه فقط عامل بالدكان وليس مالكه, شاب فتيّ فيه لكنة تدل على أصول صعيدية, يشبه في تكوينه الجسماني عزت العلايلي, طويل القامة أسمر البشرة له شارب, لم نره أبدًا يرتدي الجلباب كعادة أهل الصعيد، ولكنه يرتدي سروالا أسود وصيديري ويلف شالًا حول رأسه، يقف خلف النصبة يتناول عيدان القصب ويدخلها في المعصرة, لا يقتصر عمله على صنع العصائر فقط، ولكنه كان يقوم بكل المهام الأخرى، من تنظيف للدكان واستلام القصب وتوصيل أكواب العصير إلى القهوة المقابلة، وفتح وإغلاق الدكان، يقوم بكل هذا في نشاط ملحوظ، وصوته الجهوري يطغى على المكان, أما صاحب الدكان فلم يكن سوى طيف يأخذ النقود في صمت ليعطيك قطعة بلاستيكية تحمل لونا كوديًّا يدل على نوع المشروب الذي طلبته.
مرَّ زلزال الاثنين وتسعين من القرن الماضي، وما تلاه من توابع، فلم يعد بإمكان البناية المتهالكة أن تصلب طولها لزمن آخر، فتقرَّر إخلاء الدكاكين في الطابق الأرضي وتعويض أصحابها, هكذا نال كل نصيبه ومضى لحال سبيله.. نبيل الساعاتي, والدهشوري تاجر الدقيق, والفكهاني الصعيدي, وكذلك صاحب دكان العصير, وبقي هو وحده حين وزعت الأنصبة لم يجد له نصيبًا، وأصبح حاله أشبه بموظفي الشركات الحكومية التي تم خصخصتها فتمت إحالتهم للمعاش المبكر قبل سن المعاش.
ولسبب ما لا يعلمه أحد، لم يحاول سدرا العودة إلى بلدته، كما لم يحاول ترك الحي، رغم انقطاع سبل العيش فيه نظريًّا, لم يمض على إغلاق الدكاكين يومان، وإذا به يقف على الناصية أمام الدكان في نفس موضعه القديم وأمامه قدرة لحمص الشام يبيعه لطلاب مدارس المنطقة في أكياس بلاستيكية في نهارات الشتاء، وفي سرعة لم يتخيلها أحد عاد صوته يملأ المكان، في رمضان يستبدل هذه القدرة بقوارير التمر هندي والسوبيا والعرقسوس.
لم نعرف عنه يومًا أنه من سكان الحي، ولم يمر يوم إلا وهو أول من تراه في النهار وآخر من تراه في الليل، وكأنه لا يترك الناصية أبدًا, يدَّعي البعض معرفتهم بسرِّ تمسُّكه بهذه الناصية، بحادث سيارة وقع أمامه لفتاة تدعى جمالات، كانت تحاول مساعدة بعض الصغار في عبور الشارع فصدمتها السيارة, كانت جمالات تخدم بكنيسة الملاك غبريال بحارة السقايين - وقد كانت الكنيسة الوحيدة التي تخدم طائفة الأقباط الأرثوذكس في مساحة نواتها عابدين وتمتد حتى حي الأمام الشافعي - أودى ذلك الحادث بحياة جمالات، فحمل سدراك الجثمان الغارق في دمائها الطاهرة من الشيح ريحان وحتى الكنيسة بحارة السقايين، وكانت المرة الأولى التي يدخل فيها الكنيسة منذ هجر بلدته واستقر في القاهرة، ومنذ ذلك الحادث لم ينقطع سدرا عن القداس أيام الآحاد، ولم يفارق الناصية، واعتبرها الملاك الحارس لهذه الناصية، وندر نفسه ليقوم بدور مساعدة الصغار في عبور الشارع, بالرغم من كل المتاعب التي واجهها للتمسُّك بالعمل في هذه الناصية منذ إغلاق الدكاكين، وكان آخر هذه المتاعب أن محامٍ سخيفٍ من سكان الحيِّ، ومالك للعقار الذي كان يقف أمامه بالقدرة، قد أبلغ عنه شرطة المرافق، حيث قرر هذا الأخير فتح دكان للعصائر، على أن يديره له سدرا، وافق سدرا، وبعد يومين ترك له الدكان وعاد للناصية، ربما لخلاف على الأجر أو تلبية للندر الذي قطعه على نفسه, وانتقاما منه استخدم هذا عصا القانون الملتوية، ما اضطره لترك مهنته الرئيسية واستقر به المقام بعد كل هذه السنوات نادلًا بقهوة المعلم حنفي القطر, مررت بالمكان بعد انتقالنا عنه بسنوات فوجدته ما زال يملأ المكان صخبًا.