الثلاثاء 25 يونيو 2024

ابن الشاطر وأكذوبة الثورة الكوبرنيكية

أخرى7-12-2020 | 14:19

كتبَ الشيخ عبدالله النديم سنة 1893، دراسة بعنوان «بِمَ تقدم الأوربيون وتأخَرنا والخلق واحد؟!».. وفى بداية القرن العشرين وضع المفكر شكيب أرسلان مؤلَّفا بعنوان: «لماذا تأخَّر المسلمون ولماذا تقدَّم غيرهم؟»، ومن بعدهما توالت الكتابات حول سر تخلُّف العرب والمُسلمين وتَقدُم غيرهم. وتفاوتت المُقاربات من دون يقين أو حسم فى الإجابة، ويعتقد كاتب هذه السطور أن السبب الرئيس في تخلفنا هو تراجعنا عن الاهتمام بالبحث العلمي، وعدم قراءة تراثنا العلمي الحقيقي، الذي لو انشغلنا واشتغلنا به لسابقنا لأسهمنا مساهمات كبيرة في الحضارة المعاصرة، لكننا استعضنا هذا التراث العلمي بالتراث الفقهي، الذي من الممكن أن يتم الاهتمام به داخل أروقة المؤسسات الدينية، وزاد من صحة هذا الطرح ما قرأته عن واحد من أهم علماء الفلك في العالم، هو ابن الشاطر (704هــ / 1304م)، والذي ضيعناه كما ضيعنا غيره، بسبب الهرولة خلف فقهاء السلطان والجدال حول نواقض الوضوء، ودخول الخلاء.

وقبل أن نتحدث عن ابن الشاطر الفلكي الدمشقي نتعرف أولا على ثورة كوبرنيكوس، حيث ترجع شهرة كوبرنيكوس إلى تبنيه فكرة وجود الشمس وليس الأرض كجسم ثابت في مركز المجموعة الشمسية - النظرية السائدة آنذاك - على أن تتحرك الأجسام الأخرى حولها، وبنظرية مركزية الشمس هذة وقف كوبرنيكوس مناهضاً لتعاليم بطليموس عن مركزية الأرض، التي ظلت وقتا طويلاً غير قابلة للطعن، وليس معروفاً على وجه الدقة متى كون كوبرنيكوس رأيه عن مركزية الشمس بدلاً من مركزية الأرض، ومن المحتمل أن يكون ذلك قد حدث حوالي عام 1507م بكتابة مقال صغير قدم فيه رأيه، وإصطدم بصعوبات كثيرة أراد تذليلها أولاً قبل كتابة مقال أكبر، وقد أنهى كوبرنيكوس بحثه الكبير بعد عام 1530م ببضعة أعوام وإن كان قد تردد في نشرة بسبب ما بدى له من صعوبات جديدة في تفسير حركة الكواكب، ولم يسمح كوبرنيكوس بطبع أى نسخة من هذا البحث إلا عام 1540م حيث طبع منه نسخة واحدة ثم بعد ذلك – نتيجة لضغط من أصدقائه – إضطر إلى طبع كتابه كله، وقد وصلت أول نسخة من الكتاب يوم وفاته إلى فراون بورج، وكان عنوان هذا الكتاب الشهير قد قد تغير أثناء الطبع بدون علم كوبرنيكوس، واحتوى الكتاب بلإضافة إلى الأفكار الجديدة عن المجموعة الشمسية على مقدمة قصد بها واضعها إضعاف إستنتاجات كوبرنيكوس.

وليسأل القارئ ما علاقة كوبرنيكوس بابن الشاطر وقد ولد الأخير قبل الأول ما يقرب من قرن ونصف، يجيب عن هذا السؤال مؤرخ العلوم ديفيد كبلنج الذي كتب مقالا في كتابه: (قاموس الشخصيات العلمية. قال فيه: "لقد عثر في بولونيا، موطن كوبرينك (1473 - 1543م) على مخطوطات عربية عام 1937م، وثبت أن كوبرينك كان يأخذ عنها، ويدعي لنفسه ما يأخذ، ولقد ثبت منذ عام 1950م أن نظريات كوبرينك في الفلك، هي في أصلها مأخوذة عن ابن الشاطر الفلكي العربي المشهور، وادّعاها كوبرينك لنفسه، وبذلك يكون ابن الشاطر قد سبق كوبرينك، الذي عاش في القرن السادس عشر الميلادي، بوضع نظريته عن حركة الكواكب، ودورانها حول الشمس، أو ما يسمى الآن بالنظام الشمسي".

ولا نقول كما يقول الجهلة والمتخلفون "بضاعتنا ردت إلينا"، أو نكتفي بالفرح والتهليل بأننا أسبق من الغرب في كثير من العلوم، ومنها علم الفلك، بل علينا أن نناقش المسألة بداية من أول سطر في هذا المقال لنكتشف أننا من أضعنا أنفسنا باهمال العلماء تارة وبتكفيرهم تارة أخرى، وبالتالي إهمال منهجهم العلمي.

ولكن من هو ابن الشاطر هذا العالم الفلكي الدمشقي الذي سبق العالم في معرفة النظام الشمسي واحداث ثورة علمية قبل كوبرنيكوس بقرن ونصف من الزمان

انه علاء الدين أبو الحسن علي بن إبراهيم بن محمد بن الهمام بن محمد بن إبراهيم بن حسن الأنصاري الدمشقي، وقد عرف بين الدمشقيين خاصة، والشوام عامة، ومعهم المؤرخون وعلماء الفلك، بلقب: ابن الشاطر، نسبة إلى من علَّمه، في صباه وشبابه، فن التطعيم للخشب بالعاج والأصداف، والقرون والعظام، وكان لقب الجد الأعلى لهذا المعلم هو ابن الشاطر، ومن غرائب المصادفات أن يكون اسم هذا المعلم هو: علي بن إبراهيم، وكان في الوقت نفسه زوجًا لخالته.

وكان أبوه مؤذنًا بالمسجد الأموي، وكان جده كبيرًا للمؤقِّتين لمواقيت الصلاة بهذا المسجد الجامع، وعلى قدر لا بأس به من المعرفة بعلم الفلك، شأنه شأن سائر المؤقتين بالمساجد الكبرى الجامعة، في مدن العالم الإسلامي، مهتدين بحركات الشمس، وبزوغ النجوم ومغيبها، وانتشار أضواء الفجر الكاذبة وأضوائه الصادقة، الطولية منها في الأفق والمستعرضة، لتحديد مواقيت الصلاة. وتوفي والد علي الصغير وكان لايزال طفلًا فرعاه جده. ومع هذا الجد أحب الحفيد علي علم التوقيت، وشغف بعلم الفلك.

بدأ ابن الشاطر الصغير رحلته مع علم الفلك، وعلماء الفلك، وفضاءات الفلك، مستفيدا من رفاق معه في مرصد دمشق، ومفيدا لهم ببصيرته النيرة، وحسن قراءته لمعطيات الأرصاد، في الوقت نفسه، ولقد ساندته وساندتهم معه دراستهم لعلوم الرياضيات، وخاصة علم المثلثات الكرية، وكان نصير الدين الطوسي قد قطع شوطًا كبير بهذا العلم الإغريقي النشأة، عندما كان سجينًا في قلعة ألموت عند الحسن الصباح زعيم جماعة الحشاشين، ثم عندما صار مشرفًا ومسئولا عن مرصد مراغة في عهد تيمور لنك إثر اعتناقه لدين الإسلام.

وكان القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي الذي عاش فيه ابن الشاطر هو أشهر قرون الحضارة الإسلامية معرفة بالرياضيات وعلم الفلك. وفيهما ارتقى علم الفلك ذرى سامقة، بفضل جداول ابن الشاطر الفلكية الكبيرة والصغيرة، ورسائله القصيرة عن الآلات الفلكية وعملها ووظائفها، وعن تطويره لبعضها، واختراعه لبعضها الآخر.

مؤلفات ابن الشاطر

في دمشق راحت كتب ابن الشاطر عن آلات الرصد الفلكية تتوالى عن الرُّبع المجيَّب منها، والتام، والمقطوع، والجامع، والهلاليّ، والشكازية، والمقنطرات، وعن الإسطرلاب، والآلة الجامعة.

ومعها رسائل فلكية في الهيئة الجديدة، وفي تصحيح الأصول، والعمل بالدقائق باختلاف الآفاق المرئية، واستخراج التأريخ، وصندوق اليواقيت، وتعليق الأرصاد. كما ألف كتبا تحمل هذه العناوين: أرجوزة في الكواكب، لفظ الجواهر في معرفة الخطوط والدوائر، الزيج الجديد، لُمعة ابن الشاطرِ وهو الكتابُ الذي شرحه ولخصه، من بعده، كثيرون من العلماء، في أنحاء العالم الإسلامي، طوال قرون تالية، في الشام والقاهرة.

زيج ابن الشاطر

وكان أهم كتب ابن الشاطر هو: (زيْج ابن الشاطر)، وهو الكتاب الذي صار به مدرسة فلكية متميزة في الشام كله، مدرسة تعادل وتماثل في تميزها مدرسة ابن يونس الفلكية في مصر، قبل أربعة قرون. ففي هذا الكتاب حقق ابن الشاطر أماكن الكواكب، وبيّن سائر حركاتها. وقد رتب كتابه أحسن ترتيب، وشرح كل ما ورد به في مائة باب. ويأتي هذا الزيج، أو الجداول الفلكية، من حيث تسلسله التاريخي، بعد زيج البتّاني، وزيج الطّوسى، وزيج ابن يونس الحاكمي.

وفي هذا الكتاب قلب ابن الشاطر نظرية بطلميوس عن الشمس والكواكب رأسا على عقب، أو فلنقل إنه أوقفها على قدميها.

فقد برهن ابن الشاطر رياضيًا وفلكيًا، في هذا الزيج، ثم في زيجه الصغير الجديد، على أن الأرض، وهي من الكواكب السبعة، تدور حول نفسها، على محور لها، مرة في كل يوم، فيكون الليل والنهار، وحول الشمس مرة في كل سنة شمسية، فتكون الفصول الأربعة. وكذلك تفعل سائر الكواكب من دوران حول نفسها، ودوران حول الشمس في أفلاك دائرية حول الشمس متباعدة.

ومن قبل ابن الشاطر كان العالم الموسوعي البيروني، قد قال بما يقارب هذه النظرية، لكنه لم يبرهن على ما قاله رياضيًا أو فلكيًا، وكانت برهنته منطقية جدلية. ومن قبلهما كان العالم الإغريقي أرسطرخس الساموسي قد قال بهذا الرأي، فيما ترويه من أخبار كتب الموسوعات الغربية الحديثة. لكن أحدًا لم يكترث في زمان أرسطرخس بوجهة نظره، كما لم يعرفها أحد من الفلكيين بعد زمانه، فقد فُقدت كل كتبه، ولم يعرف له كتاب واحد من كتبه ترجم إلى العربية، في العصور الوسطى، على كثرة حرص المسلمين، في العصر الوسيط، بين حضارات العالم القديم والحضارة الحديثة، على ترجمة كتب علماء الإغريق والبطالمة السكندريين.

وقد كتب عن ابن الشاطر في الغرب مستشرقون ومؤرخون للعلوم من بينهم: بروكلمان في: (تاريخ الأدب العربي)، وسميث في: (تاريخ الرياضيات)، وسيديو في: (خلاصة تاريخ العرب)، وشاخت ويوزرث في: (تراث الإسلام)، وفيدمان في: (ابن الشاطر: فلكي عربي من القرن الرابع عشر الميلادي)، وصالح زكي في: (قاموس الرياضيات) وهو باللغة التركية، وجورج سارتون في كتابه: (المدخل إلى تاريخ العلم).

وقد قال سارتون فيما كتبه عن ابن الشاطر: "إن ابن الشاطر عالم فائق الذكاء، فقد درس حركة الأجرام السماوية بكل دقة، وأثبت أن زاوية انحراف دائرة البروج تساوي 23 درجة و31 دقيقة عام 1365 الميلادي، علما بأن القيمة المضبوطة التي توصل إليها علماء القرن العشرين هي: 23 درجة، و31 دقيقة و19،8 ثانية".

 

    الاكثر قراءة