انطلق الأستاذ نجيب محفوظ من عنوان قصة
"قاتل" من مجموعته "دنيا الله" التي صدرت عام 1962، ليُسبغ حالة من الغموض والتهميش الذي ينحدر إلى مرتبة التحقير من بطل القصة،
وذلك بإلقائه كلمة وحيدة مفردة مُجَهّلة كعنوان للقصة، "قاتل" المُجهلة
بإسقاط "الـ" التعريف، والتي جاءت إمعانًا في نفي المعرفة عن هذا الـ
"قاتل"، وللتأكيد على مدى حقارته وهوانه على محيطه ومجتمعه، وهو ما
سيعرض له الراوي، إضافة إلى ما سينطق به هذا الـ "قاتل" من كلمات تدل
على حالة الصراع والنزاع الدائم في نفسه، والتطلع خلال أحلام اليقظة إلى التحليق
في عنان السماء دون عمل أو جهد يُذكر أو محاولة منه لتغيير أفكاره التي من الممكن
أن تتحول مع الوقت لأفعال شأنها تغييره بالكامل، إلا أنه يؤثر الاستمرار فيما بدأ
ليتحول من مُجرد سارق فقير مُعدم ذميم إلى نخاس في أرواح البشر لقاء مبلغ يسير من
المال، وإن كان هذا المبلغ عظيم بالنسبة لظرفه الاجتماعي والمكاني الزماني.
عنون القصة يوحي بأنها تدور حول جريمة قتل، وطالما أن هناك جريمة قتل فمن الطبيعي أن
يكون هناك قتيل وأداة قتل ومسرح جريمة وخصوم، وظرف زمان وهو وقت وقوع الجريمة،
وظرف مكان وهو مسرح الجريمة، إضافة إلى الحالة النفسية للقاتل وقت وقوع الجريمة،
وصراعاته الداخلية؛ المتمثلة في تفكيره فيما سيحدث بعد القتل، وكذا تردده وقلقه
وريبته قبل القتل، وهذا أمر يدفع للتساؤل تُرى هل هذا المجهول سيقتل ثائرًا لنفسه
أو لمصلحة ومنفعة، أم أنه قاتل مدفوع بالأجر؟.
على عتبات القصة
"ما المخرج من هذه الوكسة؟!".. الجملة الأولى في القصة، جملة استفهامية تَعجّبية
في صيغة سؤال يُلقي بظلاله على الحكاية بالكامل، وكذا يفتح آفق التوقع
لدى القارئ، الذي يوقن أن هناك أزمة ما في هذه القصة يعيشها أحدهم، وأن الأمر تعثر
عليه فلم يجد مخرجًا لدرجة أنه بدأ محدثًا نفسه، فـ"الوكسة" هي
"مصيبة، أزمة، خيبة أمل"، والوَكْسُ هو النقص، وقد وَكَسَ الشيءُ، أي
نَكَس، ويقال: "وُكِسَ فلانٌ في تجارته وأُوكِسَ أَيضاً، أَي خَسِرَ؛ وفي
الحديث: أَن معاوية كتب إِلى الحسين بن عليّ: "إِني لم أَكِسْك ولم أَخِسْك؛
قال ابن الأَعرابي: لم أَكِسْك لم أَنْقِمْك ولم أَخِسْك أَي لم أُباعِدْك مما
تُحب، والأَوّل من وَكَس يَكِسُ، والثاني من خاسَ يَخِيس به، أَي لم أَنْقُصْك حقك
ولم أَنقُض عهدك.
ينطلق الراوي للحديث عن شخص مجهول خرج
لتوه من السجن يعيش متسولًا، بلا مال ولا مأوى، فاقدًا للأمل، مشيرًا إلى أن هذا
الرجل أعتاد السجن بقوله "وهو ليس أول سجن له"، دلاله على إمعانه في
الإجرام والحيدة عن القانون المُعبّر عن روح القيم والأعراف المجتمعية المنظمة
لحياة البشر بحيث لا يجور أحدهم على الأخر، هذا المُجَهّل، المجهول حتى الآن –
والذي خرق هذا القانون مرارًا- تُوصد كل الأبواب في وجهه ويعزف كل الناس في محيطه
عن رد السلام عليه أو مخاطبته، فبلغت درجة الازدراء والنفور منه مبلغها، حتى أن
تجار المخدرات أبوا أن يمنحوه ثقتهم.
تمر عليه الأيام وحاله في تدهور أكثر
من ذي قبل، نظرات ممتعضة تلاحقه هنا وهناك، وكأنه جرثومة أو وباء يخشى الجميع أن
يصيبه، إلا أن هذه الحالة المتردية لم تمنعه من الغرق في أحلام اليقظة، ليتخيل
نفسه على "موائد الخلفاء وبين الحسان من النساء وبحور الشراب والسطل"،
لم يجد قوت يومه ولم يجد من يتقبله إلا أنه أطلق لخياله العنان ليعيش لذة روحية،
فربما يخفف الخيال من وطأة المعاناة وآلامها، إلا أن هذه الأحلام إن لم ينطلق
صاحبها إلى طريق الجدية لتحقيقها ستظل أحلام العاجزين ولا مكان لها إلا في
خيالاتهم وأمنياتهم، وهو ما حدث مع هذا الخمسيني الذي أفضى في حاله الآني إلى ما قدمت
يداه من قبل، واكتفى بعد حصوله على حريته بأن يسترجع "أخيلة القصص التي كانت
ترويها الرباب في قهوة خان جعفر منذ ربع قرن أو يزيد"، ولم يتحرر من فكره
القديم لينطلق في بداية جديدة لا سيما وأن له أم ضريرة بلغت من العمر أرذله وهي في
أشد الحاجة لُيجالسها ويصاحبها أيامها الأخيرة، إلا أنه لم يلتفت إليها وبدورها
نسيته أو تناسته وفقدت الأمل في عودته إن كان بالأساس موجود من قبل.
ولكل سبب مسبب، فالأمل هو شعاع الشمس
الذي يغمر الأرض فيتبدد الظلام وتدب الحياة، هو الميلاد الجديد والبعث بعد الموت،
وإن كان مقدرًا للإنسان أن يموت دون أن تفارقه الروح، فموته ينطلق من فقدانه
للأمل، حينما يحل الظلام؛ ظلام الحياة، لا تسأل الإنسان إن كان يعيش أو لا، فهو
جسد يضرب في الأرض على غير هَدىّ، وهو حينها والعدم سواء".
من هذا المنطلق نجد أن كل الأسباب
مهيأة لموت هذا الـ "مجهول"، فهو فقد الأمل في كل ما حوله وكل من حوله،
لا أحد يعبأ به، ولا أحد يعيره اهتمامًا، لا أحد يقبله أو يُلقي له بالًا، ورغم
غرقه في أحلام اليقظة إلا أنه لا أمل له في الحياة، فقياسًا على هذه المعايير هو
ميت بالفعل وإن لم تُفارق روحه الجسد، فهو من تسبب في تدمير أسرته، اختفاء الزوجة،
وفاة الابن، الحال الذي يُرثى له للأم، علاوة على نبذه في مجتمعه.. ويتساءل
الراوي: "ترى ما هي المعجزة التي يمكن أن تجعل منه هارون
"الرشيدي"؟، مؤكدًا على ما يدور في رأسه من نشوة أحلام كاذبة، وتغير حال
الدنيا من فترة إلى أخرى، فبعد أن كانت "الفتونة" سببًا للبقاء وجلب
الرزق، "لم تعد الدنيا بحاجة إلى العضلات القوية".
وضع المؤلف كلمة "الرشيدي"
بين تنصيص يفهم منه أنه يرمي إلى شخص غير "هارون الرشيد"، الخليفة العباسي الذي كان يصور بصورة الخليفة الحذر الذي يبث عيونه وجواسيسه بين
الناس ليعرف أمورهم وأحوالهم، بل كان أحيانا يطوف بنفسه متنكرا في الأسواق
والمجالس ليعرف ما يقال فيها.
بينما يسير "المجهول" على
غير هدى في أحد شوارع درب دعبس بالحسينية حيث الجُحر الذي يسكنه، جاءه صوت قاطع من
بعيد معلنًا عن أسمه للمرة الأولى، "ولد يا بيومي"، وكأن الرجل كان
مشتاقًا لسماع أسمه الذي يبدو وأنه لم يسمعه لزمن طويل، فانتبه بعنف نحو الصوت
كأنما يستجيب للسعة سوط كما وصفه الراوي، ليبتسم ابتسامة تودد وتذلل، لدرجة أنه
أقترب من مناديه وقبّل يده، ورغم ذلك نهره المنادي صاحب الشأن والعزة، وسخر منه
لما آلت إليه حالته وأن السجن كان أفضل له مما هو عليه الآن، وهذا الأسلوب يُعد
نوعًا من أنواع الحروب النفسية المتبعة لدى البعض للإمعان في تحقير وتسفيه من
يحدثه، لتكون منطلقًا للاستجابة لما قد يطلبه منه، وإن كان مخالفًا لكل القيم
والمبادئ بل وإن وصل إلى جريمة وكبيرة كإزهاق روح وهو ما كان بالفعل، فبعد أن
ابتعدوا عن الدرب، طلب منه أن يقتل، وكان طلبه في صيغة سؤال "هل تقتل الحاج
عبدالصمد الحباني؟!". ورغم إنكار هذا
المجهول للفعلة، إلا أنه تساءل أولًا لحساب من سيقتل، وعندما عرف أنه سيقتل لحساب
رجل أكبر من المعلم؛ وأنه أخيرًا أصبح له دور - وإن كان القتل - أبتسم ابتسامة
زافرة، وبدأ يتفاوض على المبلغ، وإمعانًا في الخسة والنذالة استخدم أمه التي لا
يعرف عنها شيئًا ولا تعرفه؛ وسيلة لزيادة الأجر بدعوى أنها مريضة وبحاجة إلى
النقود وهو ما فهمه محدثه فَرد عليه في سخرية: "أمك"!.
وهنا نقطة تحول كبيرة في الشخصية، فالكم
المهمل الذي يأنفه الجميع تَحصّل على عشرة جنيهات عربونًا للقتل، بدأت معنوياته
ترتفع، فبدأ يشعر بقيمته، شَعُر أن له وجود وأنه نافع في مجتمعه ومحيطه، وإن كانت
منفعة سلبية ستفضي إلى جريمة قتل، إلا أن هذا الأمر السلبي بث الحياة في شرايينه
من جديد، رغم علمه المُسبق أن هذه الحياة التي عادت من جديد ستكتب كلمة نهايته،
فهو يحب الحياة ولا يحب الموت، سرق وضرب، لكنه أبدًا لم يقتل، إلا أنه وصل إلى
أقسى مرحلة قد يصل لها إنسان، وصل إلى فقدان الأمل وهو ما يعني الموت التام وإن لم
تفارق روحه الجسد، ومن هنا كان السبب في قبوله القتل، فهو مؤمن أنه ميت لا محالة،
وقبوله يُعجل في لقاء نهايته، وكأنه يد الله على الأرض لتنفيذ حكمه وإرادته؛ المرة
الأولى بقتله رجل بريء لا ذنب له في شيء، ولا يعلم حتى السبب الذي سيقتله لأجله،
والثاني هو التعجيل بنهايته وموته جسديًا بدلًا من الموت المعنوي البطيء الذي يشعر
به كل لحظة في حياته.
كان لابد له أن يُغادر الحسينية لقاء
اتمام جريمته، حتى لا تتبعه الشبهة كما أدعى، يبدو أنه بدأ يفكر في الحياة من
جديد، وأنه يأمل في النجاة بفعلته، فالأمل هو الحياة وفقدانه هو الموت، وربما
المال بعث الحياة في نفسه من جديد. رحّب كل من سمع بخبر رحيله، معتبرين هذا الرحيل
خطوة إيجابية ستعود على الجميع بالنفع والفائدة. أخيرًا ستنتهي المعاناة مع رجل لا
فائدة منه إلا التسول والشجار والسرقة والروائح الكريهة الملابس المهترئة النتنة،
فما أسوأ الإنسان حينما يكون عبئًا على محيطه ومجتمعه وأقرب الناس له، أصدقاء
طفولته وجيرانه، إلا أن هذا الترحيب برحيله ترك بنفسه شيئًا من الارتياح، فها هو
يجد لنفسه مبررًا لجريمته فيقول: "لذلك فأنتم تستحقون القتل".
كانت ضغوطات الحياة وقسوتها أقوى من
هذا النكرة، صحيح أنها ثمرة ما زرعه بيده، إلا أنها كانت أيضًا دافعًا له للقبول
بالقتل، وفي اليوم السابق لقيامه بجريمته بدأ الصراع النفسي بداخله، وبدأت
التساؤلات، ما الأسباب التي تحمل المعلم الكبير على قتل هذا الرجل؟، أوليس من حقه
أن يعرف جُرم قتيله، ولماذا استحق القتل؟.. لذلك وصف من استأجروه للقتل بالعصابة التي
تمثل القضاء والقدر، ورغم هذا الوصف، ورغم عدم اقتناعه بقتل الرجل إلا أنه لم يجد
بدًا عن ذلك.
سَكِر في تلك الليلة التي قضاها لجوار
إحدى الساقطات، بعدما تناول ما طاب له من الطعام، وبينما هو تحت وطأة السُكر، قال
لنفسه: "ليت الحياة تمضي هكذا بلا قتل، أتزوج من جديد وأنجب البنات والبنين،
فكّر أن يُتاجر من جديد ويربح – يقصد تجارة المخدرات – وسط حذر منه حتى لا يلمحه
مخبر.
في يومه الموعود استيقظ باكرًا، وأعد
العدة لتنفيذ جريمته، قطعًا من اللحم وزجاجة من الخمر، وسكينًا حادة النصل، وهو في
طريقه لمراقبة ضحيته عاودته أحزانه وكذا مخاوفه فتارة يتذكر أبنه الذي مات ولم
يشهد وفاته، وتارة يتأمل وجه الرجل الذي سيقتله، وهو يحدث أبناءه ووجهه دائم
الابتسام، بشوش، مبتهجًا وطيبًا، وليهرب من تأنيب الضمير مما سيقوم به تجاه هذا
الرجل، أوجد لنفسه زريعة لقتله وكأنه يود أن يقتل ضميره أولا، فوصف الرجل ومن على
شاكلته بأنهم "مناكيد" لا يضحكون إلا لذويهم فقط واستشهد بمأمور السجن
الذي كان يُعامل المساجين أسوأ معاملة، بينما كان يغرق في الضحك والمزاح حينما كان
جالسًا مع أبنه الذي زاره في السجن وهو في وقت العمل، إلا أن الصراع النفسي أشتعل
بداخله مرة أخرى، فهو مشفق على الرجل الذي يسير أمامه وأنه لا يعلم أنه سيموت بعد
قليل لقاء خمسون جنيهًا، وسَاَءَل نفسه: "كم يمتلك هذا الرجل من أموال، ولو
أنه يعلم ما سيحيق به كم سيدفع لقاء أن لا يحدث هذا الأمر.
خلال مراقبته لضحيته سار
"النكرة" تجاه المقابر حيث مسير الضحية في جنازة أحد الجيران، ليعود
إليه التساؤل مرة أخرى لم يريدون قتله؟، وتمنّى لو أن الرجل مات الآن وكفاه شر
قتله له.. وخلال وجوده بالمقابر خطرت بباله فكرة أن يعمل تربيًا، فهذا العمل سيؤمن
له بيع المخدرات في المقابر بشكل أمن، وهذه المشاعر المختلطة تبين مدى التخبط الذي
يعيشه الرجل، فهو لا يعرف له سبيل يهتدي إليه، ولا يعرف ما يُريد من حياته.
استعرض الراوي فكرة "الأمل"
أو ربما غفلة الإنسان، في أكثر من موضع من خلال حالة الأمل التي يعيشها الضحية،
وتطلّعه للمستقبل، بينما يقف الموت على بعد خطوات منه وهو لا يعلم، فكم من مرة
تحدث مع صبيانه في الوكالة أنه ربما تتحسن أرباحهم في العام المقبل، كما تحدث عن
خططه للعمل في الوقت اللاحق، وكان القاتل يقف على بعد خطوات ويسمع ويندهش، لأنه
موقن أنه خلال ساعات معدودة سيكون قد أجهز على الرجل وأنهى حياته، وهنا تتأكد
المقولة الشعبية "القاصد غالب"، مهما كان القدر الكبير من حب الناس،
ومهما كان الأمان الاجتماعي، أو الحالة الصحية الجيدة، والقاصد هنا لا يقتصر على
قاتل مأجور، بل ينطلق إلى فضاء أوسع ليشمل المرض وموت الغفلة وغيرها.. فكلها أمور
تقصد الإنسان على حين غفلة منه، فإذا ما تملكته أجهزت عليه.
ورغم كل ما دار في ذهن القاتل من
أسئلة، وكل ما راوده من أفكار إلا أنه عقد العزم على تنفيذ جريمته، وكأنه رسول
الموت المُوّكل بقبض الروح، رغم علمه ببشاعة الجُرم المقبل عليه، ويقينه أن أمورًا
أقل بكثير من هذه الفعلة أودعته غيابات السجون، إلا أنه أقدم بخطىً ثابتة تجاه
قدره وقدر ضحيته، ونفذ ما كُلف به ليستحق الصفة "قاتل".. فهل سيكون
السجن جزاء فعلته وجُرمه، أم أنه سيحصل على الموت الجسدي المحقق ليحل محل الموت
المعنوي الذي عاناه منذ خروجه من السجن؟.. أم أنه سيعود مرة أخرى ليسأل نفسه:
"ما المخرج من هذه الوكسة؟".