الأحد 28 ابريل 2024

أنور السادات يكتب: صداقة الرجال هى اللبنة الأولى فى ثورة 23 يوليو

كنوزنا25-12-2020 | 13:55

لا شك أن هناك صورا مختلفة ومتباينة فى ذهن كل قارئ عن قيام حركة 23 يوليو، ولا شك أيضا أن الخيال قد يذهب بالبعض مذاهب شتى . لذلك رأيت أن أجلو لمجلة الهلال ناحية من نواحى هذه الثورة قد لا تكون مغامرة أو تدبيرا أو جهدا، وإنما هى فى معناها أقيم وأسمى من المغامرة والتدبير والجهد.

ذلك كيف وعلام اجتمع أولئك الذين قاموا بهذه الحركة.

حدث فى حوالى شهر أبريل أو مايو سنة 1952 - أى قبل قيام الحركة بشهرين أو ثلاثة - أن اتصل بعلمنا أن هناك تصميما أكيدا على الاستغناء عن خدمات بعض ضباط الجيش، وورد بالذات اسم جمال عبدالناصر على أنه من أول الأسماء بحجة إثارة القوات المسلحة، ورغبة من الملك فى أن يهيئ لنفسه الجو الذى يريده فى الجيش.

وأذكر أننا كنا مجتمعين فى منزل كمال حسين ولم تطل المناقشة فى هذا الأمر أكثر من ربع الساعة انتهينا فيها إلى قرار هو أنه حتى إذا استغنى عن خدمات جمال فيجب أن نتبع الخطة الموضوعة وألا نخضع لسلطان العاطفة فنعمل عملا قبل الأوان.

كان جمال هو أسعدنا بهذا القرار، فقد كان يعلم تماما أنه مهما كانت الظروف ومهما بلغ الطغيان فإن هناك تسعة أصدقاء صميمين سيتولون أمر معيشته وأمر منزله بل وعلى أتم استعداد لأن يبذلوا كل ما فى وسعهم من أجله حتى لو قدموا أرواحهم تضحية وفداء.

لقد كانت الصداقة فى لون جديد - يصح أن تطلق عليه صداقة الرجال - هى اللبنة الأولى فى بناء حركة 23 يوليو.

كان صلاح سالم يقوم بإجازته من رفح حيث عبدالحكيم هناك وكنت معهما، فكان إذا أخذ شيئا من الفاكهة أو المواد الغذائية الأخرى المتوافرة فى تلك المنطقة سلم بنفسه إلى كل عائلة نصيبا مفروضا يبدأ توزيعه فور وصوله إلى محطة العاصمة، لأن جمال كان دائما ينتظره بعربته لتأدية مثل هذه الواجبات.

وكان لابد أن تنعكس صداقة الرجال هذه من التسعة إلى باقى الرجال من الضباط الأحرار، كى ينتهى الأمر أخيرا بأن تكون هيئة الضباط الأحرار كيانا واحدا وإحساسا واحدا.

وحدث فى أبريل سنة 1952 أن ألقى القبض على ضابط من الضباط الأحرار واتهم بأنه يوزع منشورات الضباط الأحرار، وظل حوالى الشهرين وهو موقوف، ولكن جمال عبدالناصر كان يذهب فى مطلع كل شهر إلى عائلته ليسلمها ماهيته بالكامل.

وحينما أعود بذاكرتى إلى الخلف قليلا أذكر أننى فى سبتمبر سنة 1947 كنت فى سجن مصر فى الزنزانة رقم “54” وكنت قد أمضيت أكثر من سنة ونصف السنة فى تلك الزنزانة، فما راعنى وأنا جالس فى أمسية من أمسيات ذلك الشهر إلا أن أدخل لى كتاب كنت قد طلبته، وأننى لأذكر جيدا أننى من شدة فرحى بهذا الكتاب أخذت أتصفحه، وكانت القراءة هى السعادة الوحيدة فى ذلك المكان.

وقبل أن أصل إلى نهاية الكتاب وقعت فى يدى ورقة كانت موضوعة فيه بطريقة خاصة، فتناولتها لأقرأ فيها خطابا من جمال عبدالناصر اليوزباشى وقتذاك، وفيه تفصيل كامل عن الخطة التى أعدتها الجماعة لتهريبى من السجن، وكافة المعلومات الأخرى التى يقتضينى اتباعها، وتركت ساعة التنفيذ إلى وقت آخر.

وهناك الإيمان بالمبدأ المشترك والإخلاص له، والتمسك به مهما كانت التضحيات، وأبرز  مثل على ذلك هو قائد الأسراب حسن إبراهيم، فقد حدث فى سنة 1942 وفى الجمعية السرية الأولى أن أدى مجهود حسن إبراهيم، واشتراكه فى عملية طيران الطيار سعودى إلى الخطوط الألمانية أن تأخرت أقدمية حسن، والعجيب أنها مستمرة إلى اليوم، ولم يقبل حسن أن تعدل أقدميته إلى أصلها بعد الحركة، مع أن هذا حق سليم شريف له.

ولقد كان صلاح سالم يحوز ثقة حيدر الكاملة، وكانت هذه الثقة من أكبر المصادر التى غذت حركة الضباط الأحرار بالمعلومات، بل لا أغالى إذا قلت أن هذه الثقة استغلت إلى أبعد حد فى تقوية الحركة، من غير أن يعلم حيدر أو أى إنسان من المحيطين به شيئاً عن مدى ما يقوم به صلاح.

وبالجملة لقد اشتركت عوامل كثيرة فى إخراج هذه الحركة بقوتها وزهوها، وشدتها وحنوها وعنفها ورزانتها.. لقد كانت عوامل ليست من صنع البشر.. وإنما هى من تلك الإحساسات السامية التى ترتفع بنفوس البشر فوق ذلك المستوى المادى فتعرف التضحية والصداقة وتعرف الأخوة وتعرف فوق كل شىء وقبل كل شىء الإيمان بإله عظيم يريد الخير للعالم ولا يرضى لنا إلا الحياة الشريفة القوية.

    Dr.Randa
    Dr.Radwa