الثلاثاء 28 مايو 2024

السادات.. رئيس مصر الذي تمنى أن يكون أدهم الشرقاوي

فن25-12-2020 | 14:30

لم يكن عاديًا، وإن كان منا مصريًا فلاحًا أصيلاً حرًا، بل كان أسطوريًا كجلجامش البابلي الذي خرج في رحلة طويلة إخترق فيها طول البحار وعرضها ليحصل على نبته الخلود، حاول أن يهزم الموت ويتسلق على أكتافه ليقتنص أعوامًا مديدة، هكذا كانت رحلة رئيس مصر الثالث "محمد أنور السادات" الذي نحتفى اليوم بمرور 102 عامًا على ميلاده مسيرة طويلة من العمل السياسي سعى فيها إلى تأصيل مكانة مصر والسعي إلى إستقلالها بشكل عام، فأحرز النصر الكبير في أكتوبر 1973 فحمل إلينا السلام الذي ننعم به الآن، وكتب لمصر خلودهًا فلم تبخل أن تخلد ذاكراه فى صفحات التاريخ.


عندما نعود إلى طفولة "السادات" نكتشف فيها الينابيع الحقيقية للإهتمامه بالسياسة وأن يكون له دورًا إصلاحيًا فأراد أن يكون المقاتل الذي يسعى إلى تحريرها، فقد كان ضربًا من الخيال الذي تمازحه فيه الأراضي الخضراء الشاسعة بقريته، حيث الحياة المتجددة والإنطلاق الذي لا يحده شيء ولا توقفه عين فلاشيء في الريف يعترض الخيال، فكانت الأفكار التي تراوده صغيرًا كالطيور التى ينبت لها ريش، فإذا طال الريش طارت في كل إتجاه، أو كالأغاني والمواويل التي كانت كالأجنحة التي تحمل خياله وأحلام كل صغار القرية وتذهب بها بعيدًا، وإن كانت كل هذه الطيور تحوم على شجرة واحدة هي مصر.

يحكى "السادات" في سيرته الذاتية التي كتبها الكاتب الكبير "أنيس منصور وتجاوت 450 صفحة عن إهتمامه بأن يسمع حكايات أمه عن حادثة دانشواي، فلم تكن دانشوي بعيدة عن قرية ميت أبو الكوم "محل نشأته"، وكان يستمع إلى موال أدهم الشرقاوي، وكانت لهذه المواويل معني واحد وهو أنها قصة جميلة حزينة، ولكن فيها بطولة وفيها شجاعة فزهران وأدهم فلاحان قد اختار عدوًا واحدًا هو الإنجليز الذي يجب أن يخرج من مصر، وأن يرفعوا أيدهم عنها فهم غزاه وهم أجانب وفي هذا الموقف وحده يجب أن يكون الإنسان بطلاً، فيقول "السادات" كان منتهى أملى وأنا طفل أن أكون زهران المنوفي أو أكون أدهم الشرقاوي".


رغم نبرة الحزن في المواويل المصرية، فإن الفلاح المصري في طول التاريخ وعرضه لم يعرف اليأس بل كان الصبر ملاذه ودرب نجاته، فإذا أحنى رأسه لتمر العاصفة، يرفع رأسه ليكون هو العاصفة التي تمر على جيش الغزاة، لذلك كانت آمال "السادات" الكبيرة تتعلق بدخوله الكلية الكبيرة فهي المستقبل المضمون فيقول: "فلم يكن لأي مصري فلاح فقير مثلي أي مستقبل، إنما المستقبل مضمون للناس الأكابر، للطبقة القادرة أو الطبقة الحاكمة من البشوات والإقطاعين والأٍسرة المالكة وأتباعها، أما نحن فلا مستقبل لنا إلا إذا كانت هناك واسطة".


كان "كمال أتاتورك" مثله الأعلى والذي كان ملقبًا بـ"الذئب الرمادي"، رأى صورته في بيته فقد كان في تلك الحقبة زعيمًا إسلاميًا عظيمًا كان فى عظمة "جمال عيدالناصر" بعد تأميمه لقناة السويس، وقرأ قصة حياته التي أعجبته كثيرًا وظل مبهورًا بها، فقد كان بطلاً، وفي كتاب قرأه لـ"عباس محمود العقاد" عن حياة الشاعرالألماني "جيته" وكان عنوانه "تذكار جيته" كان يفرق فيه بين صفات الأبطال في التاريخ ويقارن بين الرجل العظيم والإنسان العظيم فحازت على إعجاب "السادات"، ووجد في "أتاتورك" جوانب عظيمة التي استهوت طفلاًا وشابًا.

كان "السادات" يرى أن تطوير القرية وتعليم كل أبنائها ضرورة حيوية لأن هذا يخلق جوًا صحيًا لكي تزدهر المواهب وتنمو الملكات ويكون في مصر أبناء قادرون على تطوير وإيقاظ مصر وإستدارك ما فاتها في أزمانها، فكان أبيه هو الوحيد الذي كان يقرأ في قريته ولمدة خمسين عامًا وكان يطلقون عليه لقب "الأفندي" أي "محمد أفندى السادات"، لذا يجب ألا نخاف من المستقبل نواجهه، فالصعاب ضرورة لبناء الإنسان والإنسان القوي ضرورة لبناء الوطن، والوطن القوي ضرورة لكي نلحق بركب الحضارة الإنسانية فالسادات كان يرى أن بناء الشخصية هدف عام والذي يبدأ من التعليم.


دفع والد "السادات" إلى القراءة، وقد كان محبًا لها فيقول: "لم أرفع عيني عن الكتب وعندما كنت في السجن كنت لا أرفع عيني عن الكتب، إلا لكي أتأمل نفسي وغيرى أو كنت أغمض عيني وأنظر إلى داخلي وأعتقد أنني وجدت في أعماقي كنزًا هائلاً ويستطيع كل إنسان أن يجد ما وجدته لو نظر فب أعماقه".


أضاءت الفترة التي قضاها "السادات" فى السجن الكثير في نفسه، وأضاءت له الطريق إلى الحياة السياسية، والتي بمقتضاها عرف أن الإنسان قيمة كبرى، وأنه لاشيء في هذه الدنيا يساوي كرامة الإنسان، وإن الإنسان حين يضع كرامته إن رفعها ارتفع، وإن وضعها اتضع، فالجوع مع الكرامة أشرف من الهوان مع التخمة فكم شبعت كلاب فى بيوت الباشوات وكم جاعت ألوف في الحقول من الآدميين.


من أهم المفارقات في حياة "السادات" أن من يكون سببًا فى إدخاله الكلية الحربية طبيب إنجليزيًا يُدعى "فتز جيرالد"، وهو الذي تشبع منذ صغره بكراهية الإنجليز وكان يحلم بالزحف عليهم وطردهم من بلاده، إلا أن القدر يشاء أن يدخل الكلية الحربية بتوصية من واحد منهم، فكان هو اللبنة الأساسية التي حركت بداخله الخطوة الأولى التى دفعته للأمام إلى طرد الإنجليز من مصر على أرض الواقع، وعن تفاصيل الواقعة يحكى"السادات" أن فى يوم كشف الهيئة كان رئيس اللجنة فى ذلك الوقت "إبراهيم باشا خيري" وكيل وزارة الحربية فكان شخصية كبيرة ومتزوج من إحدى قريبات الأسرة المالكة، فاستطاع الطبيب الإنجليزي أن يتوسط له وتم قبوله طالبًا في الكلية  الحربية، وكان ذلك حدثًا جليلًا، ولكن بعد أن تم قبوله في الدور الأول تم فصله فى الدور الثاني، وذلك لأن في عام 1936 حاول "النحاس باشا" أن يتفاوض في إلغاء الإمتيازات الأجنبية، وهذا يعني أن يكون الإنسان مصريًا وفي بلده مواطنًا من الدرجة الأولى، أما المواطن من الدرجة الأولى هو الذى يحمل جواز سفر أجنبيًا ويسمونه حامل "رعوية إنجليزية" فقد يكون حامل الرعوية خادمًا أو طاهيًا أو سائقًا، فكان دم المصرى مباحًا إذا قتل على يد أحدهم، فلا يحق المطالبة بحقه إلا إذا رجع إلى السفارة المصرية والتي عادة يخرج منها القاتل بأيادي نظيفة، فهكذا كان حال مصر قبل ثورة 23 يوليو 1952، ولحسن الحظ فى ذلك الوقت تم قبول 52 ظابطًا فى الكلية الحربية وكنت الرقم الأخير فى القائمة "52" وكان عدد المتقدمين من المصريين يبلغ ألفين مصري، فعندما ذهب لدفع مصروفات الكلية أخبروه بتخفيض العدد إلى "45" فبالتالي لم يكن من المقبولين، ولكن واسطة الطبيب الإنجليزى له كانت هى السبب فى دخوله مرة أخرى، ولكن هذه المرة كان عليه مقابلة إبراهيم باشا شخصيًا، فذهب السادات بصحبة والده إلى "فيلا" الباشا فانبهر ببيته الذى لم يكن اسمه أو أثاثه كالبيوت والشقق التى يعرفها، فجلسنا في الإنتريه الذي لم يكن يعرف اسمه ففى قريته وفي بيت أبيه لم يكن هناك غير غرفة المسافرين لإستقبال الضيوف وكان أثاثها بسيط، قابل الباشا الذي أتى بملابسه الفخمة ولم يستطع أبيه أن يحادثه من فرط إرتباكه، فتعرف إليه فى أٌقل من دقيقة، ليدخل بعدها الكلية الحربية.


ولكن القدر يشاء أن يجمعه بـ"إبراهيم باشا خيرى" ولكن عندما كان "السادات" رئيس مجلس الأمة، وذلك بعد أن فرضت عليه الحراسة هو وأولاده فأراد التاريخ أن يعيد نفسه، ولكن هذه المرة وقف الباشا أمامه مرتبكًا ولم يفتح الله عليه بكلمة واحدة على عكس أبيه الذي لم ينطق سوى بـ"سعادة الباشا" في ذلك الوقت، ولكن السادات أجلسه، وطيب خاطره، ورفع عنه الحرج والفزع، وحل مشكلته، ولم يُصدق الرجل أن يلقاه "السادات" بهذا الترحيب فلم يكن بينه وبين الباشا شيء، وإنما هو النظام والطبقات التي كانت تسود المجتمع قبل الثورة فلم يكن في ذلك الوقت أن يفعل غير الذي فعله من أجله، لذا جاءت الثورة فغيرت من تركيبة المجتمع وكان التسامح من أهم معالمها.