الأحد 24 نوفمبر 2024

فن

سمحة الخولي ورتيبة الحفني.. سيدات الموسيقى والنغم

  • 25-12-2020 | 18:05

طباعة

عندما هاتفني رئيس تحرير، مجلة وكتاب وروايات وبوابة الهلال، الكاتب الصحفي خالد ناجح، معربا عن رغبته في مشاركتي بمقال للمجلة عن عدد خاص محوره الرئيسي "عظيمات يكتبن عن عظيمات"، شعرت بالحيرة؛ فعظيمات مصر كُثُر، ومن قدمن التضحيات والخبرات للفنون والثقافة والعلوم الإنسانية والاجتماعية والتطبيقية أكثر وأكثر، لكن بحكم تخصصي، رأيت أن أخص اثنتين بالمقال، الدكتورة سمحة الخولي، والفنانة رتيبة الحفني؛ لأن الاثنتين سبقتا عصرهما فنيًا وإداريًا وثقافيًا، وكانتا ملهمتين وصاحبتيّ فضل على أجيال كثيرة.


سمحة الخولي


نشأت سمحة الخولي في بيت رمز من رموز التنوير في مصر, فهي ابنة العالم الجليل أمين الخولي, والسيدة نجية حسن، التربوية مديرة المدرسة والمتذوقة للفن والأدب, مما وفر لها منزلا يحيطه العلم والثقافة.


بدأت الدكتورة سمحة دراسة الموسيقى من الطفولة, وحصلت على دبلوم المعهد العالي للموسيقى (كلية التربية الموسيقية حاليا) سنة 1951 بامتياز, وفي العام نفسه أُوفِدت في بعثة حكومية لبريطانيا, حيث حصلت على درجة الدكتوراه في تاريخ الموسيقى من جامعة أدنبره عام 1954, كما حصلت في العام نفسه على دبلوم الأكاديمية الملكية للموسيقى بلندن في تخصص عزف البيانو.


بعد عودتها من البعثة، اشتغلت د. سمحة بالتدريس في الكونسرفتوار منذ إنشائه سنة 1959, وكانت واحدة من مؤسسيه, وعُينت عميدة له في الفترة من 1972 حتى 1981, وهي أكثر فترات الكونسرفتوار ازدهارا, ففي فترة عمادتها قامت بإنشاء والإشراف على فرقٍ عدة هي: كورال أطفال الكونسرفتوار سنة 1974, ثم أوركسترا الكونسرفتوار سنة 1975، وكان أول أوركسترا مصري تماما, حيث كل أعضائه من طلبة الكونسرفتوار, وقد لعب هذا الأوركسترا المتميز دورا مهما في الحياة الثقافية المصرية خاصة الفترة التي تعثّر فيها أوركسترا القاهرة السيمفوني بعد حريق الأوبرا؛ وامتد نشاط أوركسترا الكونسرفتوار إلى خارج مصر في رحلات ناجحة متعددة لأوروبا وأمريكا وكندا من سنة 1976 وحتى 1985. كذلك أنشأت د. سمحة الخولي كورال شباب الكونسرفتوار وأوركسترا وتريات الكونسرفتوار والذي كان يهدف إنشاؤه في المقام الأول لعزف الموسيقى المصرية التراثية والموسيقى المصرية الحديثة إلى جانب الموسيقى الغربية، كذلك تولت الإشراف على فرقة الأوبرا المصرية من عام 1972 وحتى 1979 بعد حريق دار الأوبرا, فحفظت للفرقة البقاء, وقدمت الفرقة في هذه الفترة العروض الكاملة لروائع الأوبرا الغربية, والأهم من ذلك أنها قدمت العرض الأول والوحيد لأوبرا مصرع أنطونيو التي كتبها المؤلف المصري الرائد في هذا المجال حسن رشيد (1896-1969) على شعر لأحمد شوقي.


وفي عام 1982 عْينت رئيسا لأكاديمية الفنون، فامتد نشاطها ليشمل جميع معاهد الأكاديمية, وفي هذه الفترة قامت بتنظيم مهرجان ومؤتمر دولي احتفالا باليوبيل الفضي للأكاديمية سنة 1984، ونالت الدكتورة سمحة عددا من الجوائز والأوسمة من مصر والخارج أهمها "وسام الثقافة والفنون" من فرنسا مرتين سنة 1979 وسنة 1983, وميداليتين (كوداي ليست) من المجر, كذلك حصلت على جائزة وزارة الثقافة في النقد الموسيقي سنة 1961، وجائزة جمال عبدالناصر سنة 1975، وجائزة الدولة التقديرية في الفنون سنة 1984, كما حصلت على شهادة تقدير من نقابة الصحفيين المصرية سنة 1984، وميدالية التليفزيون المصري سنة 1985.


وإلى جانب إسهاماتها الأكاديمية المتعددة من مؤلفات ومقالات وترجمات وأبحاث علمية ومشاركات عدة في ندوات ومؤتمرات دولية, عملت د. سمحة مستشارا للموسيقى لوزير الثقافة لسنوات عدة, فكان لها دور في التوصية بجمع وتسجيل الأغاني الشعبية المصرية في أنحاء القُطر قبل أن تندثر، ومن إسهاماتها المجيدة، التي تكشف عن جانب إنساني عميق في شخصية هذه العالمة الفذة, قيامها بتأسيس معهد موسيقى "جمعية النور والأمل" للكفيفات سنة 1960, كما أشرفت فنيا على أوركسترا النور والأمل للكفيفات، والذي يعد الأوركسترا الوحيد من نوعه في العالم, وقد سافر هذا الأوركسترا الفريد في رحلات متعددة خارج مصر محققا نجاحات تعتبر نصرا رفيعا لمصر وللعمل الاجتماعي والموسيقي فيها.


ومن إسهاماتها في الخدمة التثقيفية العامة, قيامها بإعداد وتقديم برنامجها التليفزيوني (صوت الموسيقى) لأكثر من 25 عاما من 1975 وحتى 2001, والذي ساهم بشكل كبير في نشر الثقافة الموسيقية الرفيعة وإبراز المؤلفين والمؤدين المصريين والعرب.


رتيبة الحفني


رتيبة الحفني .. فنانة مصرية ومغنية أوبرا عالمية، وعميدة معهد الموسيقى العربية بالقاهرة، أول امرأة تتولى منصب مدير دار الأوبرا بالقاهرة، وُلدت عام 1931، ونشأت في أسرة موسيقية خالصة، فوالدها محمود أحمد الحفني لديه ما يزيد على 45 مؤلفاً عن الموسيقى، وهو أول من أدخل دراسة الموسيقى في المدارس المصرية، وجدتها لوالدتها الألمانية الأصل كانت مغنية أوبرا ألمانية.


أجادت "الحفني" عزف البيانو وهي في سن الخامسة، ودرست الموسيقى في برلين وميونخ بدعم من والدتها، ثم عادت إلى القاهرة وقامت بالغناء في أوبريت "الأرملة الطروب" عام 1961، وقامت بدور البطولة في "أوبرا عايدة" للموسيقار العالمي فيردي في باريس. حصلت على جائزة الدولة التقديرية في الفنون عام 2004، كما شغلت العديد من المناصب أبرزها معيدة بالمعهد العالى لمعلمات الموسيقى 1950، رئيسة دار الأوبرا المصرية من يونيو 1988 حتى مارس 1990، وأيضاً رئيسة المجمع العربى للموسيقى التابع لجامعة الدول العربية، وتوفيت عن عمر ناهز الـ 82 عاماً بعد رحلة طويلة مع المرض.


في عام 1960، أنشأت "الحفني" الجوقة الأولى للأطفال في مصر، وبعدها أنشأت جوقة أطفال أوبرا القاهرة وفرقة أم كلثوم للموسيقى العربية، ثم أسست الفرقة القومية العربية للموسيقى، رغم أنها واصلت تعليمها في ألمانيا ودراسة الغناء الأوبرالي في ميونيخ والفولكلورية والفنون في برلين، في الوقت الذي كانت فيه الفنون تزدهر يوماً بعد يوم في مصر، لكنها تظل أول مطربة أوبرا مصرية تحصل على دبلوم من مؤسسة الموسيقى العالمية.


لأكثر من عقدين، أشرفت "الحفني" على برنامج إذاعي للموسيقى والعديد من البرامج التليفزيونية، بما في ذلك سلسلة من البرامج التعليمية للأطفال، وكانت أول رئيسة لدار الأوبرا المصرية الجديدة عندما بدأت نشاطها عام 1988، وتعتبر "الحفني" أحد الفنانين النادرين الذين يتقنون كل أنواع الموسيقى العربية والغربية، وحققت العديد من الإنجازات التي يظل على رأسها أوبريت "الأرملة الطروب"، الذي يعد أول عمل أوبرالي تُرجم إلى العربية، حيث كانت "الحفني" الدينامو الرئيسي وراء تحقيق هذا المشروع، وهو ما دفعها للاعتزاز به والتأكيد عليه في لقاءاتها كافة، وكان من بين ما روته عن هذا العمل أثناء عرضه في احتفالات قمة الأفرو آسيوية، أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر طلب من مدير الأوبرا وقتها د. ثروت عكاشة البحث عن مغنية مناسبة لدور البطولة، ووقتها تلقت مكالمة هاتفية من مكتب الوزير يؤكد أن "ناصر" وراء اختيارها للعب دور البطولة الغنائية في الأوبريت.


وأوضحت أن عكاشة قرر تعزيز أوبريت الأرملة على نطاق واسع، وأراد جلب طبقات اجتماعية جديدة إلى دار الأوبرا، حيث تم تخفيض سعر التذكرة إلى ستة قروش ليسمح لكل الطبقات المتوسطة والعاملة لمشاهدة العرض، ويومها جلس أحد العمال جنبًا إلى جنب مع الفنانة الراحلة أمينة رزق، وسألها عن الأدوار المقبلة في الأوبريت، وتقول "الحفني" بالنسبة للكثيرين كان هذا العمل أول اتصال شعبي مع قاعة الأوبرا وكانت مناسبة لا تنسى في حياة البسطاء والفنانين.


وكانت "الحفني" ترى أن دار الأوبرا المصرية يمكن أن تتحدى فنيًا أي إنتاج دولي، أو تقوم بتنفيذ أى عمل عالمي، لكن على الرغم من أداء الأوبرا للمسرحيات الموسيقية باللغة العربية الدولية للوصول إلى جمهور واسع، إلا أن "الحفنى" كانت تفضل الغناء بلغة العمل الأصلي الأجنبية، ولذلك كانت ترفض ترجمة الأغنية، فمثلاً أثناء غناء مقطوعة لفيردي باللغة العربية، لن يتولد نفس الشعور والإحساس إلا باللغة الإيطالية الأصلية، وتقول "إنه من المهم جداً للمغنين فَهم اللغة التي يتم فيها الغناء".


لم يكن صوت "الحفني" مقصورًا على مصر فقط، لكنه امتد من خلال أوبريت "الأرملة الطروب" الذي عُرض على شاشات التليفزيون النمساوي، الأمر الذي ساهم في لفت انتباه المجتمع الدولي إلى صوت الحفني، وفي السنوات التالية غنت في روما وبرلين وأيضًا على مراحل في يوغوسلافيا، وتشيكوسلوفاكيا.


لكن في ظل توهجها الفني، قررت "الحفني" التنحي أو اعتزال حياتها المهنية الأوبرالية، وكان هذا القرار أحد الأسباب الرئيسية وراء انسحاب حسن كامي وصبحي بدير من الغناء الأوبرالي، وكان قرارها نابعًا من الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب، الذي ترك الغناء وهو في قمة تألقه، وكانت ترى أن الفنان الذكي هو الذي يترك المسار الفني وهو في القمة، وبهذه الطريقة يمكن للناس أن يتذكروه دائمًا قبل أن يشهد تدهورًا في صوته الذي يأتي مع التقدم في السن، ومع ذلك لم تستطع الابتعاد عن الموسيقى أو حياتها المهنية الأكاديمية، واستمرت على رأس قيادة الأوبرا المصرية، حتى رحلت عن عالمنا حارسة الثقافة الأوبرالية. 

    الاكثر قراءة