الخميس 2 مايو 2024

ابن طفيل.. ومدرسة العقل النقدى

أخرى14-1-2021 | 10:40

يعتبر ابن طفيل صاحب أسرار الحكمة الإشراقية أو قصة حي بن يقظان، القصة الفلسفية التي تحدث فيها هذا الفيلسوف والطبيب الكبير بلغة تنويرية سبقت زمانه بمراحل كثيرة، فهي تعتمد في الأساس مبدأ التفكير والابتكار والإبداع، وجاءت لتواجه المعتقدات الخرافية التي كانت كثيرة في عصره، وكان يبتغي من وراء هذه الحكاية أن يوصل للناس فكرة مفادها أن لا أحد من البشر يمكنه أن يسيطر على الناس، وإن الإنسان هو سيد نفسه ومقرر مصيره، وكانت أهم النتائج المستقاة من قصة حي بن يقظان تكمن في الجانب العملي والأفكار التطبيقية في الواقع، وهي أفكار يلتقي فيها ابن طفيل مع الفيلسوف أفلاطون، وقد قيل أنه النسخة الإسلامية من أفلاطون.


هو أبو بكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن محمد بن طفيل القيسي، من قبيلة قيس المعروفة. وكان يسمّى كذلك بالأندلسي القرطبي أو الإشبيلي. أطلق عليه علماء الغرب في القرون الوسطى تسمية: "أبو باسرAbuuacer"، وهو تحريف لأبي بكر. ومن المحتمل أن يكون ابن طفيل قد ولد في العقد الأول من القرن الثاني عشر الميلادي في وادي آش على بعد أربعين ميلاً في الشمال الغربي لغرناطة. وزاول في أول أمره الطب في غرناطة، ثم أصبح كاتب سر والي الإقليم.


وفي عام (549هـ/ 1154 م) أصبح طبيب السلطان الموحدي أبي يعقوب يوسف. ويقال إنه أصبح وزيرا لهذا السلطان كذلك. كان دائماً ذا تأثير كبير على هذا السلطان. وقد استغل هذا التأثير في اجتذاب العلماء إلى البلاط، حيث قدم الشاب ابن رشد إلى السلطان. 


وابن طفيل هو مؤلف القصة الفلسفية المعروفة "حي بن يقظان" التي تعد من أهم كتب العصور الوسطى وكتب رسالتين في الطب، وجرت بينه وبين ابن رشد مراسلات حول كتاب الأخير "الكليات".


ركز ابن طفيل على العقل، وأعطى له حيزاً كبيراً في قصته الشهيرة، مما يظهر أهمية العقل لديه، حيث جعله الطريق الوحيد إلى الله تعالى، وهو الذي دعا دائماً إلى حسن استخدام هذا العقل في البحث عن الله، وفي السمو إليه، مما جعل نفسه الفلسفي نفساً تنويرياً صوفياً تلتقي فيه العقلانية في أبهى صورها، مع قراءة صوفية مفعمة بالمحبة والصفاء والنقاء.


تأثير التنويري الكبير ابن طفيل لم يقف في المجال الإسلامي، بل انتقل إلى المجال الغربي والأوروبي على وجه الخصوص. الفيلسوف البريطاني صاحب النظرية الحسية جون لوك، كان أحد المتأثرين بأفكار ابن طفيل، وبعد ترجمة قصة "حي بن يقظان" سعى، إلى جانب مجموعة من الباحثين، إلى دراسة القصة بتمعن.


بالمقابل ذهبت الأستاذة في جامعة سيدني الدكتورة سمر العطار في كتابها "الجذور الحيويَّة لعصر التنوير في أوروبا: تأثير ابن طفيل على الفكر الغربي الحديث" إلى أن ابن طفيل كان له التأثير الكبير في بناء فكر التنوير في أوروبا والتنبؤ بالثورة الصناعية، فقد تحرت الدكتورة العطار في كتابها عن الجذور الحيوية لعصر التنوير في أوروبا والتي كان ابن طفيل أحدهما، بما يهمّ المختصين في الفلسفة القديمة والحديثة، والأدب المقارن في القرن الثامن عشر، خاصة الأدبين الإنكليزي والفرنسي، الدين، والعلوم السياسية، التربية، تاريخ الفكر، ودراسات الشرق الأوسط، مثلما أكد الأديب العراقي الحلي في مقال طويل له عن تأثير ابن طفيل على الفكر الغربي الحديث.


كان العالم الكبير والفيلسوف التنويري العظيم ابن طفيل أحد مؤسسي العقلانية الإنسانية التي ما زالت لغاية الآن يجني الناس ثمارها الحلوة، ثمار غيرت وتغير على نحو مستمر وجه العالم، من عالم موغل في التوحش والقتل والسفك، نحو عالمٍ إنساني بروح عميقة من التسامح وقبول الآخر والإبداع بلا انقطاع.


خوض ابن طفيل في علم الفلك:


يضاف إلى روايته التي تخبر عن حياة "حيّ بن يقظان" الفلسفية؛ أطروحتين تبحثان في الطب ومجموعة من المجلدات التي اختصت في علم الفلك، ولكن هذه الكتابات لم تصل إلينا وعرفنا عنها وعن محتواها مما وصل من الملاحظات التي قام بذكرها من عاصره وأتى بعده من الفلكيين.


وما يمكن استنتاجه من أعماله الفلكية أنه حاول إعادة تكوين مجموعة من المفاهيم البطليموسية عن الفلك المتعلقة بالأرض والكون بالإضافة على نقدها والعمل على تعديلها، وخاصة نظرية بطليموس في تحديد الدرجات وتلك الدوائر الغربية، هذه الانتقادات قامت بشكل مباشر على تنبيهه الفلكيين من بعده ليدققوا في النماذج اليونانية ومركزية الأرض.


النزعة النقدية


فطن "ابن طفيل" منذ البداية إلى أنه لا يمكن أن يكون هناك مفكّر أصيل بدون موقف نقدي، فالموقف النقدي هو بمثابة نقطة الانطلاق، بل ويمكن وصفه بأنه ذلك الموقف الذي يرى ضرورة مناقشة المعلومات كلها، ويرى أنه ليست ثمة معرفة مقبولة إلَّا بعد فحص وتمحيص، فالنظرة النقدية تكون دائمًا الحافز والدافع للباحث لسبر غور موضوعه، ولولا النظرة النقدية للظواهر الكونية ولفكر السابقين لما وجد لدى الباحثين والعلماء والمفكّرين موضوعات للبحث والدراسة ولأصبح الإنسان تابعًا لا مبدعًا، مقلّدًا لا مجدّدًا، وبدون هذه النظرة أيضًا تموت روح الابتكار والإبداع.


ولذلك نجد أن أول ما يمكننا ملاحظته عند قراءة قصته هي تلك النزعة النقدية التي تميّز بها ابن طفيل؛ حيث إنه قام بنقد كل من الفارابي وابن سينا والغزالي وابن باجة، وكان نقده لهم منطلقًا من التزام ابن طفيل في تفلسفه بخصائص وشروط الموقف الفلسفي.


ومن أبرز ما تميّز بها النقد عند ابن طفيل هو إظهاره للغثّ والسمين معًا في المذهب الذي يتناوله، فلا يكتفي بذكر العيوب أو المزايا وإنما عُني بذكر العيوب والمزايا معًا.


فأما الفارابي ، فقد رأى "ابن طفيل" أن أكثر ما وصل بلاد الأندلس من كتب الفارابي في المنطق، أما ما ورد منها في الفلسفة فهي كثيرة الشكوك، بها العديد من أوجه التناقض والتي من أبرزها موقفه من المعاد وخلود النفس، حيث إنه أثبت في كتاب «الملة الفاضلة» بقاء النفوس الشريرة بعد الموت في آلام لا نهاية لها بقاءً لا نهاية له، ثم صرَّح في كتاب «السياسة المدنية» بأنها منحلة وصائرة إلى العدم وأنه لا بقاء إلَّا للنفوس الفاضلة الكاملة.


ثم وصف في شرح «كتاب الأخلاق» شيئًا من أمر السعادة الإنسانية، وأنها إنما تكون في هذه الحياة وفي هذه الدار؛ ثم قال عقب ذلك كلامًا هذا معناه: «وكل ما يذكر غير هذا فهو هذيان وخرافات عجائز».


وهكذا يكون الفارابي في نظر ابن طفيل قد أيأس الناس جميعًا من رحمة الله تعالى، وصيّر الفاضل والشرير في رتبة واحدة؛ إذ جعل مصير الكل إلى العدم؛ وهذه زلّة لا تُقال، وعثرة ليس بعدها جبر. وهذا ما صرّح به من سوء معتقده في النبوة، وأنه بزعمه للقوة الخيالية، وتفضيله الفلسفة عليها إلى أشياء ليس بنا حاجة إلى إيرادها. ولكنه بالرغم من ذلك ينزله منزلة عظمى ويرى أنه من أنبغ فلاسفة الإسلام في المشرق؛ ولذلك يستشهد بالعديد من كتبه.


أما الشيخ الرئيس ابن سينا، يرى ابن طفيل أن كتابه المسمى «الشفاء» قد سار فيه على درب أرسطو وعلى مذهب المشائين، ولكن من أراد الحق الذي لا جمجمة فيه فعليه بكتاب «الفلسفة المشرقية». أي إن ابن سينا قد اتّفق ظاهريًّا مع أرسطو واختلف باطنيًّا، فيقول ابن طفيل: «ومن عُني بقراءة كتاب الشفاء وبقراءة كتب أرسطوطاليس، ظهر له أكثر الأمور أنها تتّفق، وإن كان في كتاب الشفاء أشياء لم تبلغ إلينا عن أرسطو. وإذا أخذ جميع ما تعطيه كتب أرسطو وكتاب الشفاء على ظاهره دون أن يتفطن لسره وباطنه، لم يوصل به إلى الكمال حسبما نبَّه عليه الشيخ أبو علي في كتاب الشفاء».


أما ما يتعلّق بأبي حامد الغزالي، فقد رماه ابن طفيل بالتلوّن والذبذبة بين الخاصة والعامة يظهر لأولئك ما يخفيه أمام هؤلاء؛ فهو عند ابن طفيل بحسب مخاطبته للجمهور، يربط في موضع، ويحل في موضع، ويكفر بأشياء ثم ينتحلها، ثم إنه من جملة ما كفّر به الفلاسفة في كتاب (التهافت) إنكارهم لحشر الأجساد، وإثباتهم الثواب والعقاب للنفوس خاصة.



ثم قال في أول كتاب «الميزان»: إن هذا الاعتقاد هو اعتقاد شيوخ الصوفية على القطع، وغير ذلك من العثرات التي لا تقال من اتّصاف الموجود العظيم بصفة تنافي الوحدانية المحضة... تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.


وقد حاول الغزالي أن يخرج من هذا المأزق بزعمه أن هذه الآراء قد تمّ فهمها بطريقة خاطئة حيث إنها لم تكتب للعامة وإنما هي كتابات مضنون بها على العامة، ولكن ابن طفيل يقرّر أن كتبه المضنون بها هذه لم تصل إليه... ولكنه مع ذلك يجلّ الشيخ الغزالي ويرى أنه ممّن سعد السعادة القصوى، ووصل تلك المواصل الشريفة المقدّسة، لكن كتبه المضنون بها المشتملة على علم المكاشفة لم تصل إلينا.


وعندما يتحدّث عن ابن باجة، فيرى أنه لم يكن في أهل الأندلس من هو أثقب منه ذهنًا، ولا أصحّ نظرًا، ولا أصدق رؤية غير أنه شغلته الدنيا، حتى اخترمته المنية قبل ظهور خزائن علمه، وبثّ خفايا حكمته، وأكثر ما يوجد له من التأليف فإنما هي غير كاملة ومجزومة من أواخرها، ويذكر من مؤلفاته «كتاب النفس» و«تدبير المتوحد» و«رسالة الاتصال»، ويرى أن المعنى المقصود برهانه في رسالة الاتصال ليس يعطيه ذلك القول عطاءً بيّنًا إلَّا بعد عسر واستكراه شديد، وإن ترتيب عباراته في بعض المواضع على غير الطريق الأكمل، ولو اتّسع له الوقت لمال إلى تبديلها.


ولذلك يرى ابن طفيل أن "ابن باجة" كان من الممكن أن يقوم بسدّ الثغرة في الاهتمام بالعلوم الفلسفية، نظرًا لنبوغه العقلي لو لم تعترضه العقبات القاسية التي إحداها أنه اتّقي شر الجمهور، فلم يخض في الفلسفة صراحة، وثانيها أنه اشتغل بالماديات فألهته عن التفرّغ للعلم، وحالت أطماعه في الثروة بينه وبين الإتقان، وثالثها أن المنية قد عاجلته قبل ظهور خزائن علمه.


وفاة ابن طفيل:

توفي ابن طفيل في مدينة مراكش بالمغرب الأقصى سنة 1185م وحظي بجنازة مهيبة حضرها حاكم الدولة الموحدية نفسهُ.


    Dr.Randa
    Dr.Radwa