تنشر "الهلال اليوم"، الفصل الخامس من رواية "بورتوسعيد" للكاتب الروائي الدكتور سامح الجباس، والصادرة عن دار "شرقيات" للنشر والتوزيع، وجاء الفصل بعنوان " حارة الأصمعى".
حارة الأصمعى
العرب لايعرفون رد الجميل.
مُلقى أنا هنا على جانبى منذ سنوات وسنوات. يذكروننى كل يوم ويُنكروننى كل ساعة، يتمرغون فى خيرى ويستعيذون من ذِكرى.
فى أحد المخازن المنسية التابعة لهيئة قناة السويس تركونى منذ سنوات ونسونى. يلعنوننى وكأنى رجس من عمل الشيطان كما يردد شيوخهم وأنا الذى فتحت عليهم أبواب الخير.
مدينة تغفو على شاطىء البحر المتوسط. مدينة كأى مدينة مصرية أخرى ظلت غافية حتى رأتها عيناى، وتحرك خيالى أو قل إن شئت عبقريتى ورأيتها كما لم يرها أحد من قبل. شرعت شهوراً أدرس فكرتى حتى وضعت المشروع كاملاً، جاهدت للقاء الخديوى وإقناعه بفكرتى، سافرت إلى فرنسا وانجلترا محاولاً اقناعهم بتأسيس شركة القنال، بدأت فى بيع أسهمها وأنا أحفر بيدىّ بحيرات من أطماع المساهمين.
الربح المضمون، الخديوى المتحمس لتخليد اسمه فى التاريخ، آلاف الأيادى التى ستحفر بدون مقابل إلا رضا الخديوى والرب. اضربوا بمعاولكم. ستموتون فى بيوتكم أو وأنتم تحفرون فما الفارق ؟
فى يوم الأثنين 25 ابريل عام 1859 توجهت إلى النقطة التى حددتها لتكون مصباً لقناة السويس والتى تقع عليها بورسعيد الآن، وكان معى وفد من مجلس إدارة شركة القنال وموجل بك (مدير عام أعمال الحفر) ولاروش (رئيس قسم الاعمال الخاصة ببورسعيد) وهاردن (المقاول العام لأعمال الحفر) ومستخدمو الادارة، وعمال وبحارة وقمت برفع العلم المصرى فى نقطة بداية الحفر، وبعدها أمسكت بمعول وضربت به الأرض ايذاناً بالبدء فى أعمال الحفر ثم توجهت إلى العمال المصريين قائلاً :
" سيضرب كل منكم ضربة فأسه الأولى فاذكروا أنكم لن تُقـّلبوا الأرض فحسب بل إن أعمالكم سوف تجلب الرخاء إلى أسركم وبلدكم الجميلة.. "
و بعدها شرع العمال المصريون فى حفر القناة.
سيقولون حجر أصم، ولا يدركون كم أتألم، فى رقدتى هذه أفتقد مرأى المياه وهى تمتد أمام ناظرىّ إلى شمال العالم وجنوبه، تمخر السفن أمواجى فأفرح, تدوىّ صافرة السفينة فى أذنى كصرخة مولود يستقبل الدنيا، سيقولون مات الآلاف من أجدادنا فى حفر تلك القناة ؟
وأنا؟!
بدأ تخطيط المدينة ليحدها من الشمال الرصيف الموازى للبحر الأبيض المتوسط والذى أُطلق عليه فيما بعد رصيف أوجينى، والذى أُنشىء لصد هجمات البحر ولحماية المدينة من الأمواج العالية وكان هذا الرصيف بمثابة سد منيع يحمى المنشآت والورش الصناعية، والمحلات التجارية التى بدأت تنتشر على شاطىء البحر.
أما الحد الشرقى فهو رصيف الترسانة وفى الجنوب المقابر وفى جهة الغرب رصيف بحيرة المنزلة.
من منكم إستمات واستدان وأهُين حتى يجمع المال للازم لحفر تلك القناة؟ من أعطى حياة جديدة لتلك المدينة الوليدة بورسعيد؟ أنا من دفنت الفرما ومددت يدى لرحم الحياة لتولد بورسعيد، أنا من قطع خلاصها وأسماها واستقبل ضحكتها الأولى، أنا من خطط شوارعها ورفع أول علم على مينائها. أيكون هذه هو جزائى؟ مُلقى منسى مهموم وحيد فى مخزن رطب عفن الرائحة، أهذا هو رد الجميل أيها المصريون؟ هل هذا هو التكريم الذى يليق بمكانتى؟ لو كنتم كسّرتم أجزائى قطعاً قطعاً لكنت أفضل حالاً لكن أن تتركونى هنا فى هذا المخزن القديم بحيث تصل إلى أنفى روائح الميناء، وأسمع بأذنىّ صافرات السفن وهدير الماء فهذا عذاب لايطيقه بشر ؟
"... لقد علمنا من مصدر موثوق به أن العمال التعساء كانوا يُسحبون سيراً على الأقدام إلى بورسعيد وقد رُبط بعضهم إلى بعض كالجمال أو مثل قطعان العبيد فى افريقيا........"
(تقرير من جريدة ستاندارد البريطانية – 1861 م )
المصريون لا يعرفون رد الجميل.
هللوا لعبد الناصر. أحبوه. خرجوا يطالبونه بالبقاء. ودعوه بالدموع كأب مات فجأة تاركاً أيتاماً ثم..شتموه.
هتفوا للسادات. بطل الحرب والسلام ,واللاحرب واللا سلام. غنوا له. شتموه. قتلوه.
صفقوا لبطل الضربة الجوية. ركعوا له. حوّلها إلى هايبرماركت. باع ورهن, وأضاع و..
" وعشان كده احنا اخترناك"
".. قد تم عرض علينا مأمور ضبطية اسكندرية انشاء قلم جوازات السفر فى بورسعيد حيث أن ادخال جهتى القنال تحت الضبط والربط على الوجه اللائق منوط بذلك وقد بين أن ايراد هذا القلم يكفى لسد مصاريفه ولا يكلف الحكومة شيئاً فى حال موافقتنا على انشاء القلم المذكور..........."
(أمر الخديوى اسماعيل الى ناظر الداخلية محمد شريف باشا فى 22 يناير سنة 1869 م )
أأصبحتم أفضل بدونى حقاً؟ حتى وأنا مجرد تمثال مازلتم تحملون لى الضغينة؟ لا لعودة تمثال ديليسبس إلى مدخل القناة. ومن قال إننى أريد العودة اليكم ؟
أحيا فى ذكرياتى، أعيش حياتى مرات .
قامت شركة القنال فى عام 1860 بشراء صفقة من مخلفات الجيش الانجليزى وكانت عبارة عن أكواخ خشبية ضخمة، واستبدلتها الشركة محل الخيام التى كانت تستخدمها لمستخدميها وعمالها الأجانب بينما استمر العمال المصريين فى سكن الخيام!
بلغ عدد المصريين الذين أُكرهوا على أعمال الحفر سنة 1862 ربع مليون عامل ,وهو عدد كبير جداً بالنسبة إلى تعداد سكان مصر فى ذلك الوقت.
و فى خلال ذلك العام ظهر تجمع سكانى جديد غرب المدينة وهو حى العرب حيث سكن العمال المصريين بينما استوطنت، وبقية الموظفين والمشرفين الأجانب الجانب الشرقى من المدينة الذى أُطلق عليه فيما بعد حى الأفرنج.
أننى أريد أن تضعونى على ظهر سفينة تحملنى عبر القناة التى أحببتها طوال حياتى.
فى مارس 1863 أنشأ الخديوى اسماعيل محافظة قنال السويس وعين لها اسماعيل حمدى بك كأول محافظ لها على أن يكون مقرها بورسعيد وتدخل ضمنها القنطرة وقرية التمساح (الاسماعيلية فيما بعد )
واذا ماتوسطت السفينة المسافة بين بورسعيد والسويس فألقونى إلى الماء. دعونى أغوص. وأغوص.
فى سنة 1867 زاد اتساع المدينة وظهر حى المناخ ,إلى جوار حى العرب وحى الأفرنج وكانت أسعار السلع الاساسية فى ذلك الوقت كالتالى :
أقة اللحم الضانى الممتاز 4 قروش
100 بيضة 4 قروش
الفرخة الكبيرة 5 قروش
اتركوا المياه تحملنى بلطف حتى تُرقدنى فى قاع القناة. هناك سأتنفس الصعداء. سأموت. لا أريد أن أذهب مثلكم إلى "الفرما " أريد أن أموت مغموراً,محتضناً بما أحببت طوال عمرى. مياه القناة.
عقدت شركة قنال السويس مع الحكومة اتفاقاً فى 23 ابريل سنة 1869 يعطيها الحق فى أن تكون هى المسئولة عن تقسيم وبيع وتخطيط أراضى مدن القناة على أن يُقسم صافى البيع بين الحكومة وشركة القنال !!