هل الفن حقاً
غاية في ذاته أم أنه وسيلة لغاية أخرى؟ تختلف الإجابة عن هذا السؤال تبعاً للعنصر
الذي يركز عليه المرء اهتمامه في التركيب المعقد للفن، فهناك من يرى ضرورة أن يكون
الفن من أجل الشعب، أي توظيف الأعمال الفنية من أجل خدمة قضايا المجتمع، وتقاس
جودة أو رداءة العمل الفني عند أصحاب هذا الرأي بقربه أو بعده عن خدمة مصالح
الناس.
وهناك اتجاه آخر يرى أن الفن للفن، ويذهب أصحاب
هذا الاتجاه إلى أن الفن نشاط حر مستقل عن معايير الخير والشر، ويعلو على شتى الموضوعات
الاجتماعية.. وأن جمال العمل الفني يكمن في بنائه ومدى نسقية هذا البناء، وخضوعه
للمبادئ الفنية الصرفة، وأنه كلما ابتعد العمل الفني عن الوعظ والإرشاد المباشرين،
كلما علت قيمته الفنية وارتفعت، لأن الوعظ والإرشاد والنصح والتوجيه، ليست من مهام
الفن، وإنما هي من صميم عمل رجال الدين، والزعماء السياسيين، والمصلحين والتربويين.
وإذا نظرنا إلى
رواية «العيب» للروائي يوسف إدريس - على ضوء ما ذكرناه توًا- سنجد أن يوسف إدريس
كانت توجهاته اشتراكية، ومن ثمَّ كان ممن يؤمنون بضرورة توظيف الأعمال الفنية من
أجل خدمة قضايا المجتمع.
وجاءت أغلب أعماله - ومنها رواية العيب بطبيعة
الحال- تخدم هذا التوجه، وقد أدى به انحيازه الشديد لقضايا مجتمعه المصري والعربي
وحماسه البالغ لهذه القضايا، إلى التوقف عن العمل الإبداعي في مجالي القصة القصيرة
والرواية، واللجوء إلى كتابة سلسلة مقالات بجريدة "الأهرام" انتقد فيها
سياسات الانفتاح الاقتصادي والتبعية للغرب والصلح مع إسرائيل وجرائم تجريف الأرض
والفكر، وتصدى للتيارات الدينية المتطرفة، وهاجم تسلط الغوغائية وانتشار الجهل
والفساد والمفاهيم الغيبية والسلفية.
وساهمت هذه
المقالات في تشكيل وجدان وضمير قطاع كبير من الشعب المصري، وقد جُمِعَت هذه المقالات
في عدد من الكتب أبرزها «الإرادة» و«عن عمد اسْمَع تُسْمَع» و«بصراحة غير مطلقة»
و«فقر الفكر وفكر الفقر» و«أهمية أن نتثقف يا ناس» و«جنة الملائكة» و«انطباعات
مستفزة» و«جبرتي الستينات» وغيرها.
دخل يوسف إدريس
عالَم الإبداع القصصي بالصدفة، إذ درس الطب وعمل كطبيب بالقصر العيني 1951-1960؛
حاول ممارسة الطب النفسي سنة 1956، مفتش صحة، لكن موهبته الأدبية طغت، ودفعته
دفعًا إلى مجال الأدب والصحافة، فاشتغل كمحرر صحفي بجريدة الجمهورية عام 1960، ثم
التحق كاتبًا بجريدة الأهرام منذ عام 1973 حتى عام 1982.
لقد تخلصت القصة
القصيرة على يد د. يوسف إدريس من أمراض التأثر بالقصة الأوروبية عند جي دي
موباسان، وتشيكوف، وإرنست همنجواي، وتجاوزت القصة على يديه جهود محمد تيمور ولاشين
ويحيى حقي ومحمود البدوي، ولقد صاغ ملامح شخصياته التي استمدها من قاع الريف
والمدينة من خلال رؤيته هو ونظرته للعالَم.
العيب هي رواية
قصيرة تقع في 67 صفحة من القطع المتوسط، طرح يوسف إدريس من خلال وقائع هذه الرواية
كثيرًا من قضايا المجتمع المصري في ذلك الوقت؛ عام 1962، وهو عام ظهور الطبعة
الأولى للرواية، أولها قضية عمل المرأة، وكذلك الازدواجية الأخلاقية، وتفشي الفساد
وانتشار الرشوة في المصالح والمؤسسات الحكومية، وضعف النفس البشرية.. وغيرها من
قضايا فكرية واجتماعية وثقافية مهمة وخطيرة.
لقد عالج المؤلف
ظاهرة الازدواجية الأخلاقية والتدين الزائف، وقد أوضح كيف أدت هذه الظاهرة إلى
تناقض فج في سلوك بعض أفراد المجتمع، حيث تجد نموذجًا إنسانيًا مثل: «محمد أفندي»
الذي يظل طوال اليوم ممسكًا السبحة بيده، وطوال النهار يتحدث عما يجب وما لا يجب،
يتحدث عن الصح والعيب، ثم نكتشف مع بطلة الرواية الآنسة «سناء» أنه رجل مرتشي.
وهكذا يكشف «إدريس» عن الأمراض الأخلاقية من
خلال تعرية شخصيات رواية العيب.