في إطار خطة الدولة وتوجيهات القيادة السياسية التي تسعى للوصول لأفضل السبل لضبط منظومة العمران، وحوكمة منظومة التراخيص؛ للقضاء على البناء العشوائى، ووقف فوضى التراخيص؛ بما يحقق مصلحة الوطن والمواطنين وتحقيق حياة كريمة للمواطنين، وتنظيم الشكل العام، تم بدء التطبيق التجريبي لمنظومة التراخيص والاشتراطات البنائية من خلال منظومة جديدة ستطبق علي المدن والأحياء المصرية.
ويأتي في مقدمة اشتراطات التراخيص الجديدة أن يكون سند الملكية مسجلا شهر عقاري، بعد أن تم التوافق عليها بعد دراسة واجتماعات ومراجعة متواصلة لعدة شهور بين وزارات التنمية المحلية والإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية والتعليم العالى والبحث العلمى والتخطيط والتنمية الاقتصادية و رئيس مجلس الوزراء ولجنتى الإدارة المحلية والإسكان بمجلس النواب ورؤساء الهيئات البرلمانية للأحزاب، مما يؤكد على أن معظم المشاكل المتداخلة والأزمات المتكررة وخسارة الأرواح وإهدار مقدرات الدولة واستنزافها نتيجة للعشوائية والفوضى في البناء، مما يؤكد ان حجر الزاوية لحل العديد من الأزمات والمشاكل تأتي من خلال اتباع الوقاية خير من العلاج والتي تعني مفهوم العدالة الوقائية المتمثلة في التوثيق والتسجيل والشهر العقاري، ومفهوم العدالة الوقائية بسرعة تمكين الحقوق لأصحابها في حال حصول مماطلة من الأطراف الأخرى، وعدم إهدار الوقت والمال في المحاكم وجلسات التسوية مما يؤخر وصول الحقوق لأصحابها وقد لا يصل أيضا في حال فقدان هذه العدالة واللجوء للعدالة القضائية .
وتعد العدالة الوقائية ضرورية لنجاح العدالة الاجتماعية، والقضائية والتنفيذية، ومنظومة العدالة عامة في نهاية المطاف، وتعد من أهم مراحل العدالة، لأنها تحول دون النزاعات ويصل الحق لمستحقيه، كما أنها لا تختص بالفصل في المنازعات، وتمتد إلى ما بعد ذلك وقبله.
وعلى الرغم من أهميتها، إلا أنها لم تنل حظها في الاهتمام والاستقلال بتشريعات لم تحصل على وقت كاف من النقد والتحليل حتى في التطبيق العملي للقرارات والتعليمات التي لا تتناسب مع الوقت الراهن ولا المستقبل القريب، مما يجعل الدولة أحوج إلى مشروع عام يحقق العدالة الوقائية في الشهر العقاري والتوثيق وتسجيل الملكية لينتهي بالتطبيق الكلي، في وقت لا تزال فيه مصر تكتفي بالتطبيق الجزئي البسيط للمفهوم المؤثر في تحقيق العدالة والأمن المجتمعي، جراء أثر العدالة الوقائية في الحد من نشأة المنازعات.
وتأتي العدالة الوقائية من الحرص على تحقيق العدالة قبل نشوء النزاع بإعطاء الحق لمستحقيه من البداية دون اللجوء لعرض حقه على القضاء، مما تعطي الحقوق قوتها القانونية وحجيتها التنفيذية، بحيث تكون للعقود مثل الإيجار والملكية قوتها التنفيذية.
وتعد العدالة الوقائية أحد مسارات العدالة الرئيسية، هي التي لا يمكن أن ينجح مسار منها إلا بوجود الآخر. ولما كان للعدالة الوقائية جوانب عديدة وفي مقدمتها الجانب الحمائي، فهي المسار المنوط به الحماية القانونية، وتجسد عند تطبيقها العدالة في المجتمع عامة وفي قطاع الاستثمار والأعمال خاصة، وبعض الجوانب الجنائية.
ولا تدخل فيها الوسائل المساندة، أو ما يسمى بـالأحكام البديلة، إذ إن هذه الأحكام البديلة تأتي بعد نشوء المنازعة، بينما العدالة الوقائية تبرز في صورة عقود العمل أو الإيجار، التي جرى إضفاء الصفة القانونية والتنفيذية عليها، فعند إخلال أي من طرفي عقد الإيجار بما نص عليه العقد لا يحتاج إلى القضاء لإثبات حقه، ولكن يذهب مباشرة إلى التنفيذ.
كما تأخذ العدالة الوقائية موقعاً مهما في الممارسة اليومية من خلال التوثيق، وتسجيل الملكية، والإشهار.
فإعطاء مفهوم العدالة الوقائية ما يستحق من اهتمام، يستدعي تضافر جهود جهات متعددة، فالوعي القانوني يترك آثاره الإيجابية على المجتمع برمته، إذ مع سيادة العدالة الوقائية يصبح لدى الجميع وعي بأن العقود التي يوقعون عليها هي واجبة النفاذ، مما يقلص آثار التلاعب والمنازعات وتحميل العدالة القضائية بالمحاكم المختلفة منازعات تعدت نسبتها نصف ما هو متداول من قضايا بها .
وبالرغم أن مصر عرفت العدالة الوقائية منذ آلاف السنين ولازمت العدالة الوقائية سن قوانينها العدالة القضائية قبل جميع الدول التي سبقتنا بمراحل، إلا أننا ما زلنا نبحث عن مسالك أخرى، وفي نهاية المطاف لا سبيل سوى اللجوء للعدالة الوقائية، مثل ما حدث في منظومة العمران والقضاء على العشوائيات من خلال اشتراطات تراخيص البناء.
وهذا يؤكد أن الوقاية من الأخطار عامة و القانونية خاصة قبل حدوثها هو الطريق الأفضل، ومن أمثلة ذلك ببساطة صياغة العقود ومراجعتها بدقة قبل توقيعها، وكذلك طلب البحث وتسلسل الملكية، والفصل بصحة المستندات المقدمة ومدى صحتها قبل حدوث المشاكل والنزاعات للحذر منها والتقليل من الخسائر، وحتى معرفة الوجهة الصحيحة للعمل الاستثماري الأقل مخاطرة والأجدى في تعظيم الإيرادات وحماية الملكيات وتنظيمها وتجنب المشاكل والأزمات واقتلاعها من جذورها وهذا لا يأتي إلا بالوقاية، فهي خير من العلاج.