كنت أعمل فى فيلم "اسعد الأيام" عندما حدثت هذه القصة.
خرجنا ذات يوم مع مجموعة الفنانين العاملين فى الفيلم إلى شارع قصر النيل لنسجل مشهدا طبيعيا للغاية. كان دورى يقتضى أن اتعقب زميلتى زهرة العلا بكير وهى تسير مع شكرى سرحان فى هذا الشارع، وقد أراد المخرج أن نختلط بأناس حقيقيين، وأن نسير بينهم كما نسير فى حياتنا العادية إذا تعقبنا أى مخلوق.
وشرح المخرج اللقطة كما يجب أن تكون، وكان عنصر المفاجأة هو الذى ألهى الناس عن تعقبنا، أو عن التدخل فى خط السير الذى رسمناه لانفسنا، ولم أكن اتصور أن الأمور يمكن أن تجرى بهذه السهولة فى شارع مزدحم مثل هذا الشارع... ولكن حدث فجأة ما أطاح بتفاؤلى، لقد رأنى احد المارة... فتذكر أننى ممثلة السينما، بل حانت منه التفاتة فرأى الكاميرا مصوبة إلى وأنا أسير فى طريقى ونظر الرجل إلى فلم أكترث به، بل واصلت سيرى. وكان يسير فى الاتجاه المضاد فعاد ليسير فى نفس الاتجاه الذى اسير فيه، وكان يمكن أن يكون الامر طبيعيا لو اكتفى بالمشى إلى جوارى، ولكن الذى لم يكن طبيعيا هو أن يتفرس فى وجهى بصفاقة طيلة الوقت...
وكنت أعرف أن الكاميرا التى تسجل هذا الأمر غير الطبيعى، مستحيل أن تسجل منظر وقح ينظر لفتاة تسير فى طريقها بهذه الصورة فتوقفت وقلت للرجل وأنا أجاهد لكى لا أصفعه:
- قل لى عاوز إيه..؟
- عاوز... عاوز اتفرج.
- طيب مش كفاية اللى اتفرجته... اتفضل بأه شوف لك شغله غير دى...
- حاضر ... لا مؤاخذة...
وعدت من أول الشارع لابدأ من جديد، وما كدت اسير بضع خطوات حتى انشقت الارض عن هذا الوغد بعينه، وفى هذه المرة بدأ يحدثنى:
- لا مؤاخذة ياست هانم إن كنت ضايقتك .... أنا أصلى باحب السينما ونفسى أقبل كل هذا والعدسة تدور، واتجهت على الفور إلى السيارة حتى لا أفقد اعصابى فى الطريق ونزل مساعد المخرج من السيارة ليمسك بالرجل ويتفاهم معه بالحسنى وابتدر الرجل مساعد المخرج قائلا:
- يا أخى أنا عاوزك تلاقى لى دور كويس فنظر إليه مساعد المخرج وهو يتظاهر بالاعجاب به، ثم قال له على طريقة كبار المخرجين فى هوليوود: "طيب لف كده حوالين نفسك".
فدار الرجل وهو نشوان، وسأل مساعد المخرج قبل أن يكمل دورته: "قول لى بأه إيه رأيك فى".
- رأىى أنك رجل عظيم، أنت اتخلقت علشان تمثل... أنا لازم أعمل منك عماد حمدى
فابتسم الرجل للدعابة وقال:
- أنا برضه كنت عارف نفسى، وعلشان كده أول ما لقيت الكاميرا فى الشارع قلت ياواد انتهز الفرصة وخد دورك...
- الحكاية مش كده يا أستاذ .. أنت تجيى لنا فى الاستديو، ونكتب معاك عقد، وتمضيه وتسيب شغلك وتبقى ممثل سيما عظيم...
- يعنى حاعمل معاكم عقد.
- طبعا... يا أخى هو احنا حانلاقى زيك فين، وعلى كل حال احنا بينا دلوقت عقد شفهى... طبعا أنت رجل مثقف وتفهم فى القانون وتعرف أن العقود على نوعين، عقود شفهى وعقود تحريرى، دلوقت إحنا عملنا شفهى وتقدر تتفضل وأنت مطمئن خالص لاننا بكره حانعمل العقد التحريرى...
فصافح الرجل مساعد المخرج وهو يثنى على نبوغه الذى استطاع به أن يكتشف هذا المغمور فى طريق عام... وحين عاد مساعد المخرج للسيارة سألنى:
- هيه خلصتوا اللقطة؟
- طبعا خلصنا....
وهكذا شغله مساعد المخرج عنا حتى انتهينا من اللقطة، ورحم أعصابنا من أن تنفجر!
برلنتى عبدالحميد
العدد 228 13 ديسمبر 1955