الإثنين 29 ابريل 2024

ابدأ بنفسك

مقالات14-5-2021 | 14:43

يحثنا سفر الأمثال على تطهير وصون القلب من كل شر قائلاً: "صُن قلبك أكثر من كُلِّ ما تحفظ، فإن منه تنبثق الحياة" (أمثال 23:4).

نستطيع أن نفحص ونعرف معدن قلب الإنسان من الكلمات التي تخرج من فمه، لأن ما بداخل القلب يظهر في أعمال الإنسان وسلوكه، ويطفو على السطح عن طريق الشفتين. وكما يُعلّمنا السيد المسيح قائلاً: "من فَضْلَة القلب يتكلّم اللسان" (متى 34:12)، هنا نكتشف قلب الإنسان عن طريق اختبار الكلمات التي ينطق بها.

كم من مرةٍ كان قلبنا فيها كالحجارة في علاقتنا بالآخرين؟ هذا القلب من الممكن أن يحمل الحُب والحنان والدفء تجاه الغير؛ أو الحقد والقسوة والتبلّد. يحكي أحد المعلّمين المتصوفين خبرته قائلاً: "عندما كنتُ شاباً متهوراً وناقماً صليتُ لله هكذا: "يارب، امنحني القوة لأغيّر العالم، وعندما بلغتُ منتصف العمر اكتشفت أنني لم أستطع تغيير شخصاً واحداً، لذلك صليتُ بطريقةٍ أخرى قائلاً: "يا رب أعطني النعمة لأغيّر عائلتي وأصدقائي فقط"، الآن، صرتُ شيخاً، لذا أصلي هكذا: "يا رب، امنحني القدّرة لأغيّر ذاتي فقط. ويا ليتني كنتُ صليت هذه الصلاة من البداية".

هذا حال الجميع، كلُّنا نريد أن نغيّر العالم كله، ولكن قليلون الذين يغيّرون أنفسهم، لذلك يجب أن نبدأ أولاً بتغيير قلوبنا ونفوسنا وحياتنا، هذه العملية ليست بالسهولة كما نتخيّلها، لأن تصحيح فكرنا والسيطرة على كبريائنا وأنانيتنا، أمرٌ يكوي ويدمي الإنسان ولكنه يساعده على تغيير ذاته وتنقية قلبه الذي يستطيع به أن يؤثّر على الآخرين بكل تواضع ومحبة. وعلينا أن نترك مهمة تغيير الغير، لله القادر على كل شيء، ليعمل في قلوب الجميع، ويبدّل حياة الناس إلى الأفضل. إن قلب الإنسان يتشوّق إلى أشياءٍ كثيرة، منها ما هو نافع وما هو ضار، لذلك عليه أن يميّز بين هذا وذاك. كما نجد أشخاصاً متعطّشين لله ولسماع كلمته والعمل بوصاياه، ومن هم يحترقون من رغباتٍ أخرى، وتعذّبهم لأنهم يتعلّقون بها، كالغنى وحُب التملّك والأمور الدنيوية ويصيرون عبيداً لها. لكن يجب عليهم أن يشتاقوا إلى الله الذي يروي قلوبهم، وكما يردد داود النبي في المزمور: "اللهم أنت إلهي، إياك ألتمسُ سَحَرَاً، إليك ظَمِئَت نفسي وإليك اشتاق جسدي، في أرض جدباء يابسة بلا ماء" (مزمور 2:62-3).

هذا هو ظمأ القلب، فالنور الإلهي هو الذي يرويه، كما أن المياه تروي العطشان. وبهذه الطريقة يستطيع الإنسان أن يحيا في نعيمٍ طوال حياته مهما كانت الصعوبات والضيقات التي تواجهه، وكان الكاتب الروسي العظيم Dostoevskij يصلّي هكذا: "يارب، اجعلني أفهم ذلك، بأن الفردوس متخفّي داخل قلب كل واحد منّا، فهو موجود الآن وهنا بداخلي، وإن أردتُ، سيبدأ حقاً وسيظل معي طوال حياتي". إن قطرة واحدة من الحُب، كفيلة بأن تخصب بحراً من البراكين والرماد والصحراء، وتساعد الإنسان على تحمّل أعواماً من المرارة، ويستطيع أن يستكمل مسيرة حياته في الآلام. وهنا يستطرد الإنسان في تمجيد الله وتسبيحه، وكما يقول الكاتب الألماني Peretz: "إن لحنَ القلب الحقيقي يُنشَد في صمت، لأنه يعزف داخل الإنسان في قلبه وفي جميع أعضائه، وكما يردد داود النبي في المزمور الخامس والثلاثين: "وتقول عِظامي كلّها مَنْ مثلُك، ياربي". إذاً... يُنشد الإنسان لله بكل حواسه ووجوده، بالروح والجسد، بالقلب والعقل. والقلب النقي يحمل الدفْ والحُب والعطاء والرجاء، ويمنح البشرية المحبة التي فُقِدَت. ونقرأ في سفر يشوع بن سيراخ: "سرور القلب حياة الإنسان، وابتهاج الرجل يُطيل أيامه" (22:30).

فالسلام الداخلي يساعد الإنسان على تخطّي تجارب عديدة ومريرة كانت تمزّق القلب، لأن الغمّ الذي يسيطر على العديد من البشر في زماننا الحاضر، لا يحمل ثماراً مفيدة، لأنه مبني على التوتر وعدم الرضا، ويصل الحال بالكثيرين إلى اليأس وتتحوّل حياتهم إلى جحيم. لذلك يجب علينا أن نتحلّى بالقلب الصافي والنقي، أي الضمير الهادئ والسلام الداخلي، لأن أوجاع القلب ومتاعب الحياة وهمومها وآلامها تحمل الكثيرين منّا، إلى الاكتئاب النفسي والذي يترتب عليه عواقب وخيمة. لذا يجب علينا أن نتحلّى بقلبٍ يُحِب الناس، ولا يحقد على أحد، ولا ينغلق على ذاته حتى لا تعشش العناكب بداخله. ونطلب من الله أن يمنحنا قلباً نقياً لنعاينه، وقلباً متواضعاً لنسمعه، وقلباً مُحبّاً لنخدمه، وقلباً مؤمناً لنحيا له. ونختم بكلمات الفيلسوف كانط: "شيئان يُهديانني إلى الله: السماء المرصّعة بالنجوم والشريعة الأخلاقية في قلبي".

Dr.Randa
Dr.Radwa