السبت 11 مايو 2024

من قيم التأسيس.. رؤية لتنشئة الأجيال (5) احترام الآخر وفقه الحوار


أسامة فخري الجندي

مقالات13-7-2021 | 14:08

أسامة فخري الجندي

من القيم الرصينة التي تقدم للمجتمع أجيالًا يُمَثِّلُون طاقةً رئيسةً نحو الإيجابية والإنسانية وصناعة الحضارة، ومن ثمّ التقدم والبناء والتنمية (قيمة احترام الآخر وفقه الحوار).

إن الإنسان لا يستطيع أن يعيش منفردًا أو وحيدًا، ومن ثمّ فهو يحتاج إلى غَيْرِه؛ لتستقيم الحياة، فهو وحده لا يجمع كل القدرات والمواهب الحياتية، وإنما هي موزّعة على سائر الأفراد، إذن فكل إنسان يحتاج إلى غيره؛ لتستقيم شئونه ويحقق أهدافه وغايته، ويجد من يأنس به في جميع جوانب الحياة .

وحتى تنعكس الرحمة على هذا المجتمع بين سائر أفراده، لا بد من إشاعة قيم التآلف والمحبة والاحترام؛ ليؤدي كل إنسان عمله على أكمل ما يكون، فتتمايز العلاقات، وتتوطد الصلات، وتتوثق القربات، وتحفظ الأعراض .

ولا شك أن مما يؤكد هذه الرحمة بما يترتب عليها (قيمة احترام الآخر وفقه الحوار وقبول الآخر).

إن تربية وتأسيس الأجيال على قيم الإنسانية، والتي منها حبّ الآخر واحترامَه، يجعله حريصًا عليك، يرجو لك الخير، ويحب لك الخير، ويدعوا لك بالخير، الأمر الذي يجعله مشاركًا لك في أفراحك وأتراحك، وكذلك هذا الاحترام يكون دافعًا رئيسًا في دفع أيٍّ من منغصات الحياة، وسببًا فاعلاً في نزع الأحقاد والكراهية من الصدور .

فلا بغض مع محبة، ولا كراهية مع احترام، ولا حسد مع تمني الخير، ولا تكبّر مع تواضع، ولا غيبة ونميمة مع حفظ اللسان، ولا بذاءة مع عفة، ولا اعوجاج مع استقامة الأخلاق واعتدالها .

وحتى يستمر الحبُّ والاحترامُ للآخر، ينبغي أن يتعلمَ الطفلُ منذ النشأة فقه الحوار والتعايش مع الآخر، والبحث عن الأرضية المشتركة، والتي منها تبدأ العلاقات والتصرفات، مع نبذ بذور الفرقة والاختلاف، والتأكيد على الإسلام جاء ليصنع تدافعًا (فقه الاختلاف مع وحدة الغاية) لا ليصنع صراعًا (ثقافة خلف خلاف مع فكرة الأنا وفقط).

واحترام الآخر ينبغي أن يكون سلوكًا عامًا، وليس مجرد شعارات، فاحترام الآخر من خصائص الحضارة الإسلامية التاريخية، يقول الله تعالى في القرآن الكريم: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا } [سورة الحجرات :13] .

إن احترام الآخر يثمر قيمًا رائعة، منها : إعلاء قيم التسامح والحب بين البشر دون أدنى تمييز بسبب الدين والجنس واللون واللسان .

فالاحترام في حدِّ ذاته بابٌ واسعٌ لكثيرٍ من الأخلاق والقيَم، والتي منها التعاون، والانتماء، والتسامح، والرحمة، والصداقة، والحب، وغيرها.. كل هذه الأخلاق مع غيرها مفتاحها وبابها هو احترام الآخر؛ مما ينعكس ذلك على مجتمعنا، فيكون  مجتمعًا مترابطًا مؤسسًا على قيم الحوار والحب والتعايش، وهذا هو الأصل الأصيل في تنشئة أولادنا .

ثقافة الاختلاف وثقافة خلف خلاف :

وأنتهز الفرصة هنا لأقف بالآباء والأمهات وسائر المؤسسات المعنية بصناعة العقل والوعي والفهم لدى الأجيال، وكذلك جميع المربين على اختلاف أحوالهم، أن يؤسسوا الطفل منذ صغره على معرفة الفرق الواسع بين حقيقة الاختلاف المثمر والاختلاف الآخر المفرّق، وأرى أنه لا بد من تفهيم الطفل ذلك؛ ليبحث عن الأرضية المشتركة التي يبدأ منها الحوار بدلًا من بذور الفُرقة والتضاد والضجيج .

لقد جاء الإسلامُ ليؤسس وليؤصل لبناءٍ أخلاقي في المقام الأول، جاء ليحقق إنسانية الإنسان، جاء ليؤكد على أن الإنسان ينبغي أن يعيش مادية الأرض بقيم السماء، جاء الإسلام يدعوا إلى المحبة والمودة، والتعاون والتآلف، والتعاطف والتآخي، ومعلوم أن بناء الأمم يرتبط ارتباطا وثيقا بالبناء الأخلاقي، وأن انهيار الأمم يرتبط أيضا ارتباطا وثيقا بانهيار الأخلاق، فأمة بلا أخلاق ماذا ننتظر منها ؟ 

إن كل من يبذر بذور الفتنة، ويفرق بين أفراد الأمة، ويمشي بالنميمة، والغيبة، والخوض في أعراض الغير، كأنه يمسك بيده معول (فأس) يهدم به البنيان الذي جاء الإسلام ليقيمه، وكأنه ينسف الإنسان قِيما وأخلاقا وروحا.

إذا كانت الحروب والأزمات والكوارث تستهدف الإنسان بأسلحتها الفتاكة، فإنما تستهدف الإنسان كجسد، لكن هناك حربًا أخرى أشد فتكا وهي حرب الشائعات والفتن وضرب التلاحم الإنساني الذي أراده الإسلام... إنها حرب تستهدف الإنسان لا كجسد وإنما كقيم وكروح ونحن نعلم أن الإنسان لا يقاس أبدًا بطول قامته، أو بقوة عضلاته، أو بجمال صورته، وإنما يقاس بقلبه وعقله .

إن الإنسان إذا جحد نِعَم الله عليه، فإنه يعاقب بمنعها عنه، ولكن إن عاد الإنسان عادت النعم مرة أخرى؛ لأن الحق جل وعلا يقول: { وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا } [سورة الإسراء :8].

إذن قيمة الحوار وثقافة الاختلاف (اختلاف التنوع وليس التضاد) تؤسس وترسّخ لقيم أسمى وهي الأمن والسلام والتآلف والتوافق، وتقف حائطًا منيعًا أمام التحزب والتفرق وثقافة الضجيج، كما أن قيمة الحوار وثقافة الاختلاف تقدم المصلحة العامة على الشخصية ، وترفع من معنويات الناس، وتقف أمام الشائعات التي لا أساس لها.

هذه رسالة أرسلها للعقل الجمعي الذي يريد تنشئة الأجيال وفق فهمٍ واع، أقول: لا بد

•       أن نعلمهم ثقافة الاختلاف .....وترك ثقافة خلف خلاف .

•       أن نعلمهم اختلاف التنوع ..... وترك اختلاف التضاد .

•       أن نعلمهم ثقافة الحوار ... وترك ثقافة الضجيج .

•       أن نعلمهم قبول الآخر ... وترك نفيه وعدم الاعتراف به .

•       أن نعلمهم ثقافة التدبير ... وترك ثقافة التبرير.

•       أن نعلمهم ثقافة التدافع ... وترك ثقافة الصراع.

•       أن نعلمهم ثقافة البناء ... وترك ثقافة الهدم.

•       أن نعلمهم كيف يصنعوا السلم والأمن ..... وكيف ينبذوا العنف بأنواعه (العنف النفسي – العنف الفكري – العنف الجسدي).

•       أن نعلمهم تغليب المصلحة العامة على المصالح الشخصية .....

فعلينا أن نعلّم أطفالنا ذلك، نعلّمهم أن الأصل هو احترام الآخر، والأهم فيه أن نحافظ على مساحة مشتركة من الود والحب والتقدير والاحترام للغير، لا أن يكون حوارًا يتمثل في الجمود وتعصب كل فريق لرأيه دون الاستماع للآخر أو إقرار الحق الذي مع الآخر .

إن الحاجة إلى قيم احترام الآخر وفقه الحوار تكون أشد إذا كان الاختلاف في القضايا الحياتية، فلا بد من حوار يقوم على التوافق ما دامت المشكلات هنا تمس الحياة مع ملاحظة اختلاف الأفكار والقيم والمذاهب السياسية والاقتصادية التي تحرك أصحاب هذه الآراء والأهواء، وحتى يصل هذا الأمر للأجيال المراد تأسيسها فلا بد من نماذج عملية من خلالها يتم إيصال هذا المعنى لديهم .

فما أجمل صناعة الوعي والفكر لدى الأبناء بتعبئة معرفية وفكرية بفقه احترام الآخر وكيفية إدارة الحوار؛ لتسموا بها عقولهم، فيكونوا على قدم الإدراك والوعي؛ ليصبحوا أدوات حقيقية لصناعة الجمال في شتى المجالات .

Dr.Radwa
Egypt Air