بقلم – محمود الحضرى
«تكفير شرعى» هى خلاصة المعركة الدائرة منذ أيام على خلفية خروج مسئول أزهرى رسمى، حتى وإن كان سابقًا، ليكفر الآخرين، من أبناء الدين المسيحى، ويسانده فى الرأى أستاذ أزهرى آخر وخطيب وإمام فى واحد من أشهر مساجد العاصمة القاهرة.
خطورة التكفير هذه المرة أنه يأتى على لسان ما يمكن اعتبارهما فى موقع المسئولية، فالشيخ الدكتور سالم عبدالجليل كان وكيلا سابقا لوزارة الأوقاف، ومقدما لبرنامج تلفزيونى على فضائية «المحور»، والثانى الدكتور عبدالله رشدى أستاذ فى جامعة الأزهر وإمام وخطيب لمسجد السيدة نفيسة، أى أنهما يمثلان مؤسسات دينية أو منتسبان لمؤسسات دينية، وما يخرج عنهما يعتبره البعض رأيًا رسميًا شرعياَ، وفتاوى نافذة يتلقاها العامة.
من هذا المنطلق، مثلت أراء «عبد الجليل ورشدي» دعوة رسمية للفتنة فى نظر البعض والتقطها العديد من دعاة الفتنة والمتربصين بالوطن، بل بدت هناك تخوفات من أن هناك مخططاً لاستباحة المسيحيين وحقوقهم، وتلقين ثقافات فى أذهان وأفكار الأجيال الصغيرة ضد المسيحية من خلال نشر فكرة تكفير الآخر، وتحديدًا المسيحيين من أبناء الوطن.
ويبدو أنه من الواضح أن عبدالجليل ورشدى مجرد مثالين لِطيف من حملة دعاة تكفير الآخر على أساس العقيدة، الأمر الذى يتطلب معالجة جراحية لهذا الفكر من خلال فهم إسلامى واضح، فإذا كان الاثنان قد جاهرا برأيهما، فان هناك المئات الذين لم تأت الفرصة بعد لهم ليشعلوا مزيدا من الفتن النائمة، والتى حتما سيقابلها فتن من الطرف الآخر، فالتشدد ليس قاصرًا على طرف دون آخر.
ومن جديد هذه الفتنة أو التكفير الشرعي، أنها اتخذت طريقها باستخدام «فساد العقيدة» كمعبر شرعى من وجهة نظرهم، وقد كان الحديث حول فساد العقيدة بين المسلمين اقتصارا على أنها تتمثل فى زيارة بعض الناس لقبور الصالحين، وتقديم الذبائح لهم ودعائهم، وذهاب بعض الناس إلى السحرة والعرافين والمنجمين لاطلاعهم على أمور الغيب وحل مشكلاتهم، وتحديد أسباب انتشارها فى إتباع الهوى، وجهل الناس بأمور دينهم، وتقليد الأعمى، والتعصب لما كان عليه الآباء، ولكن دخلنا مستجدا إلى ما لم يكن النقاش حوله علنيًا بالحديث عن فساد العقيدة عند المسيحيين، لنفتح باب الفتنة.
وفى رأى العديد من علماء الدين أن هناك فرقا كبيرا بين فساد العقيدة والتكفير، لأن التكفير أمر خطير لأنه محاسبة للناس على نياتهم وعلى اعتقادهم وهى أمور لا يعلم صدقها وحقيقتها إلا الله عز وجل والقاعدة العامة التى تحكم ما يكفر من الاعتقادات والأقوال والأفعال هى الإيمان بالله.
وكان على هؤلاء مثيرى قضية «الكفار!» التركيز على مناقشة واقع المسلمين اليوم، فهناك إجماع على أن المجتمعات الإسلامية تعانى من التخلف والعديد من مظاهر الفساد، والتى يراها البعض أنها نتيجة فساد الاعتقاد لدى الكثير من المسلمين، ومظاهر وآثار فساد العقيدة فى هذه المجتمعات واضحة جلية وبحاجة إلى من يصححها ويعيد المسلمين إلى عقيدتهم الصافية الخالية من الانحرافات.
وبدلًا من ذلك توجه النقاش إلى إثارة النعرة الطائفية، وكان الأولى من «جبهة الوسطية» أن تراجع ما قاله الشيخ سالم عبد الجليل، وتؤكد بالفعل لا بالكلام ما قالته فى بيان لها من أن من مبادئ المواطنة أن يكون الجميع حرًا فى عقيدته دون التدخل فعليًا فى عقيدة الآخر أو التأثير عليها بالأفعال أو الترهيب، ولعل القول بأن محاكمة الشيخ سالم بتهمة ازدراء الأديان تفتح الباب أمام مشعلى الفتنة الطائفية لمحاكمة علماء دين مسلمين ومسيحيين فى تفسيرهم للقرآن والكتاب المقدس، لا سيما وأن الكتاب المقدس يتضمن آيات تحمل نفس المعنى الذى شرحه الشيخ فى غير المسيحيين، فهذا الكلام نقاشه يقتصر على الجامعات والمدارس المتخصصة فى الدين الإسلامى والمسيحي، وليس على الملأ.
وفى دراسات سابقة فساد الاعتقاد فى معناه الرئيسى بين المسلمين، أجمعت على الأكثر إلحاحا وما يحتاج لمعالجات عديدة، ليس الحديث عن فساد عقيدة المسيحيين، بل ترى أن ما يحتاج للعلاج ما سببه الانحراف الذى أصاب عقيدة بعض المسلمين وأدى إلى ظهور المتطرفين والمتشددين الذين كفروا المجتمعات الإسلامية واستحلوا دماء المسلمين وأموالهم، كما أن الكثير من مظاهر الفساد فى المجتمع تعود بالأساس إلى الانحرافات.
كما أن دور فساد الاعتقاد هو ما أدى إلى انتشار الظلم على جميع المستويات، بخلاف ما تعانى منه المجتمعات الإسلامية اليوم من إهمال الكثيرين وتقصيرهم فى أداء الأعمال الموكلة إليهم والسبب فى ذلك هو ضعف الرقابة الداخلية، وهو ما أدى أيضا إلى الاعتداء على الآخرين وعلى الفئات الضعيفة فى المجتمع بصفة خاصة.
وما يستحق أن يعالج بدلا من نشر الكراهية ضد المسيحيين البحث فى أسباب كسب المال من الحرام بوسائل غير مشروعة كالربا والرشوة والسرقة والاحتيال والغش والتدليس والخداع، والعمل على وقف حالات الاعتماد على المحسوبيات فى الحياة العامة بالمجتمعات الإسلامية.
ومن أهم الأمور التى بحاجة إلى معالجة أن المشكلة الحقيقية التى تعانى منها المجتمعات الإسلامية والتى أدت إلى تخلفها وتراجعها يتمثل فى الفجوة العميقة والهوة السحيقة بين الاعتقاد والسلوك، فنجد المسلم الذى يصلى ويأكل الربا ويظلم الناس ويعتدى عليهم ويذهب إلى الصلاة ويؤذى المصلين داخل المسجد وخارجه، أليست تلك أولويات بحاجة إلى مناقشة، بدلا من إثارة قضية «كفار رشدى وعبد الجليل»؟!.
أليس من فقه الأولويات أن تكون هناك ضوابط بشأن مناقشة قضايا العقائد، وأن تكون بعيدة عن برامج الإثارة فى الفضائيات وتلك التى تؤجج من الفتن بكل أنواعها، بل أليس من الواجب أن دعاة هذه القضايا لا مكان لهم فى وطن يبحث عن الاستقرار والسلم الاجتماعى وتعزيز مفاهيم البر والمودة والأخوة بين شركاء هذا الوطن، وأليس من المهم التعامل بحزم مع تلك الوسائل الإعلامية التى تتجاوز الخطوط الحمراء فى العلاقات المجتمعية؟!
ومن المهم أن نؤيد هنا الدعوة إلى قصر مناقشة أمور العقيدة على المنافذ العلمية المتخصصة سواء للمسلمين أو المسيحيين، وليس على الملأ فى وسائل إعلام تختلف مشاربها وأهدافها، فما حدث من الشيخين «عبد الجليل ورشدى» يؤكد مدى الحاجة لخطاب دينى متزن، بعيدًا عن التكفير لأحد، حتى نتمكن من وقف نزيف الوحدة الوطنية الذى أصبح فى مرمى النيران، حتى من بعض المحسوبين على جهات ومؤسسات دينية وإعلامية.