د. كمال عيد - أستاذ مناهج الإخراج بأكاديمية الفنون بالقاهرة
ليلة علمية رائدة ورائعة تلك التي حضرت فيها انطلاق إنجاز علمي رصين تحقق بعد جهد مستمر أكثر من ربع قرن، وذلك في زمن تجري فيه للأسف الأيام والشهور والسنوات في تفاهات الزمن المعاصر فتضيع أغلب الجهود هباء منثورا، ولكنني في تلك الليلة عايشت وبكل السعادة والاعتزاز مع عدد من الأجلاء كتاب المسرح المصري ونقاده وممثليه وممثلاته ميلاد "موسوعة المسرح المصري المصورة" للدكتور عمرو دوارة.
سارع الجميع بالحضور إلى "مركز أوزوريس" تلبية لدعوة كريمة وهم في شوق كبير للتعرف على تفاصيل هذا المنجز الضخم، وفي الحقيقة لم يكن بيننا جميعا من يتصور ضخامة ولا قدر ولا أهمية هذه الموسوعة أو يتخيلها بتلك الصورة الرائعة والمذهلة التي أطلعنا عليها، خاصة حينما تأكدنا من دقة تفاصيلها ومدى قدرتها على الاستجابة الفورية لتحقيق جميع الرغبات وطلبات الاسترجاع. حقا إنه لقاء ما أجمله في مضمونه التاريخي وقيمته التاريخية، إذ يفوح بعطر صفحات تاريخية تحمل حقائق كثيرة، ولكنها للأسف قد غابت طويلا عن ماضي الحياة وحاضرها، صفحات عن المسرح المصري منذ عرفت مصر طريق المسرح في حياتنا القصيرة نسبيا (منذ عام 1870). إن الأهمية فيما استخلصناه في تلك الليلة المباركة هي قيم تراث فني يتسلح بالحضارة التي لا تغيب عنها الشمس أبدا، حضارة نعود إلى التعرف عليها وعلى أدق تفاصيلها اليوم في القرن الحادي والعشرين وفي بداياته والحمد لله، والمدهش أننا نتعرف عليه بالمعلومات الموثقة وأيضا بالصور الفوتوغرافية النادرة سواء للعروض المسرحية أو للرواد المسرحيين في مختلف المفردات الفنية (التأليف والإخراج والتمثيل والديكور إلخ).
ومن البداية لا بد من الإشارة إلى أن فكرة الأرشفة والتأريخ اللتين استندت عليهما مراحل إعداد الموسوعة بأجزائها الخمسة عشر وصفحاتها التي تزيد على خمسة عشر ألف صفحة، قد تطلبت عملا شاقا بدءا من مرحلة تجميع البيانات والصور من مصادر مختلفة أغلبها مصادر تاريخية نادرة ومجهولة يصعب التوصل إليها، ثم توثيق كل منها والتأكد من صحتها ودقتها، لتبدأ بعد ذلك مرحلة الفهرسة لكل بيان أو معلومة أو صورة بعدة أساليب علمية (بتوظيف كافة المعلومات المتاحة عنها)، وتليها مرحلة ترميم بعض الصور النادرة وأيضا المستندات التاريخية (مثل أغلفة المسرحيات وبرامج العروض وإعلانات بعض الفرق)، لتكون المرحلة الأخيرة هي أرشفتها بالطرق والأساليب العلمية (بتوظيف بعض البرامج المتخصصة للحاسبات الإلكترونية) ليسهل استرجاعها بالسرعة المطلوبة والشكل الأنسب. والبديع أن معد هذه الموسوعة المسرحي الأصيل والباحث الدؤوب لم يكتف بمراحل التوثيق والفهرسة والأرشفة بل امتد عمله وجهوده أيضا إلى التحليل العلمي لاستخلاص النتائج وتسجيلها، وليحقق بذلك فكره وهدفه ووجهة نظره كاملة في ضرورة إعادة كتابة تاريخنا المسرحي اعتمادا على الأسس العلمية، لذلك نجح د. عمرو دوارة بهذه الموسوعة في أن يحفر لنفسه مكانة بارزة بين كبار المؤرخين والمؤرشفين العرب.
وقبل التطرق إلى بعض التفاصيل المهمة يطيب لي أن أوضح بعض المفاهيم الأساسية حول مصطلحي الأرشفة والتأريخ، حيث تعني "الأرشفة" بتقديم أرشيف مسجل بالوقائع العامة في حياة ما، وهي هنا في هذه الموسوعة فكرة فنية جديدة تماما (لم يلمسها أو يمسها أحد من قبل)، وهي فكرة الأساس الأرشيفي التي اعتمد عليها توثيق مسيرة المسرح المصري كاملة بجميع عروضها الاحترافية التي قدمت من خلال جميع الفرق (سواء الفرق الخاصة أو فرق الدولة بأشكالها المختلفة)، أما "التأريخ" (والكلمة مستمدة من لفظة "التاريخ") فهو من العلوم الحديثة التي تسجل الوقائع الحياتية تماما ودون تزييف أو تحوير، لتكون منارة ودليلا على عصر معين، وبكل دقة الوقائع وحقائقها الإيجابية والسلبية، أي الكشف عن الظروف وتسجيلها تسجيلا دقيقا بميزان صادق وحساس لا يخشى في الحق لومة لائم.
تسجل هذه الموسوعة النادرة حقا تاريخ فن التمثيل منذ بدايات المسرح المصري، وتحدد عام 1870 تاريخا لبدء الحياة المسرحية في مصر.. لكن الأهم من هذا التاريخ هو ذلك المذاق الدرامي والذي دخل على خشبة المسرح بالفكر المستنير، حيث تسجل الموسوعة علم تاريخ المسرح وموقفه من الثقافة المسرحية العامة، وميلاد مسارح كانت غائبة عن حياتنا حتى عام 1962 كمسرح "العرائس" ومن بعده "مسرح الطفل" ثم "مسرح الشباب"، كما تشير إلى الممثلين والممثلات والمخرجين وصانعي الديكور والمناظر المسرحية، وذلك بخلاف تسجيلها الدقيق لجميع المبدعين لمختلف أنواع وأشكال العروض المسرحية تأليفا وترجمة وتعريبا واقتباسا وبباقي المفردات المسرحية الأخرى.
وقد تضمنت الموسوعة مقدمة توضيحية يشرح فيها الكتاب بأسلوب منهجي وواضح المتتاليات المختلفة مع مراعاة المكان والزمان، ومسجلا للتواريخ مرة بعد مرة مع الإشارة بدقة للظروف السياسية والاجتماعية والثقافية والمسرحية بطبيعة الحال، ليرتب بذلك الأرشفة ترتيبا متسقا متسلسلا في الوقت ذاته، كما يوضح من خلالها كيفية استرجاع المعلومات والبيانات المختلفة بأسرع ما يمكن من خلال الاستعانة بالجزء الخامس عشر (الأخير) والذي يتضمن مجموعة الفهارس (المداخل) الخمسة (باسم المسرحية/ الفرقة/ المؤلف/ المخرج/ عام الإنتاج). وأكثر ما أسعدني في هذا اللقاء هو تقديم التجربة العملية لكيفية الاسترجاع من خلال الاستجابة لعشرات الطلبات والرغبات العشوائية لمجموعة من الفنانين الحاضرين (منهم: سهير المرشدي، مديحة حمدي، سميرة عبد العزيز، آمال رمزي، عبد الغني زكي، رضا الجمال، حلمي فودة ومجموعة أبناء الفنانين..)، حيث طلب كل منهم استرجاع بيانات وصور عروضه، فكانت الدهشة من سرعة الاستجابة ودقة البيانات وأيضا جودة الصور المنتقاة بكل عناية.
إن أعظم ما تقدمه هذه الموسوعة المسرحية العصرية هو ريادتها المصرية والعربية، والحقيقة أننا قد تأخرنا كثيرا في رصد مثل هذه الموضوعات العلمية - الجماهيرية، فتاريخ المسرح الذي يبحث في نشأة الظاهرة المسرحية وموقف الثقافة وعلاقتها بالحياة في فترات وعقود أو قرون سابقة هو الكاشف بحق عن الدرامات والأنواع الدرامية التي تتكشف على خشبة المسرح من أوبرات وأوبريتات ونماذج تشترك فيها الموسيقى بالقدر الوفير. لقد كشفت لنا الموسوعة - على سبيل المثال - الثورية الغنائية على خشبات المسرح المصري، فرصدت وسجلت المشهد المسرحي الغنائي خلال مراحل من أهم مراحله حينما انحاز الملحنون الثوريون إلى تقديم المسرحيات الغنائية كنتيجة للأحداث السياسية آنذاك، وكان خالد الذكر سيد درويش أحد عوامل التحرر والتقدم في عصره، حتى أطلقوا على أغانيه "أغاني الشعب المصري"، بعد أن كان الغناء قبله غزلا صريحا أو صراخا ونواحا موجها لتحقيق المتعة للملوك والبشوات لا لجموع الشعب. كان غناء سيد درويش كله مأخوذا ومستلهما من روح الشعب وموجها إلى روح جميع طبقات نفس الشعب، أتاحت ثورة 1919 المصرية المناخ الثوري للمستمعين المصريين، ونفس الإحساس الوطنى كان قد سبق وأن تجلى بصورة أو أخرى في أعمال المبدعين: سلامة حجازي ومنيرة المهدية، فتحققت حركة فنية شعبية وأعلنت عن نفسها على خشبات المسرح الغنائي المصري. وجدير بالذكر أن الإرهاصات الثورية كانت متلازمة مع الثورة العرابية وفي وسط نيرانها، والنتيجة لم يكن في وسع شعب مصر احتمال الماضي الفني العثماني، فانتقل كل الشعب وبكل أحاسيسه ووجدانياته إلى طريق القومية العربية غناء تعبيرا عن الغناء في المسرح الموسيقي والغنائي المصري.
نعم انتقل المسرح إلينا بصورته الحديثة من لبنان، ولكن ذلك لا يهم، لأن الواقع يؤكد انطلاق فكرة المسرح من مصر، خاصة وأن من حسن حظ مصر إنشاء أستاذنا زكي طليمات للمعهد العالي للتمثيل عام 1944 (المعهد العالي للفنون المسرحية حاليا) ليصبح تاريخ المسرح المصري والعالمي مادة أساسية تدرس للطلاب وتحمل الاسم نفسه "تاريخ المسرح".
ويحسب لهذه الموسوعة نجاحها في تسجيل بعض الأحداث التاريخية المهمة التي وقعت خلال مسيرة المسرح المصري بكل بدقة، بدءا من ثورات أحمد عرابي (1882)، وسعد زغلول (1919)، وثورة يوليو 1952 وأخيرا ثورتي يناير 2011 ويوليو 2013، بخلاف تسجيلها لجميع الأحداث المسرحية المصاحبة لبعض التغيرات السياسية والاقتصادية المهمة ومن بينها على سبيل المثال: نكبة فلسطين عام 1948، والعدوان الثلاثي عام 1956، ونكسة يونيو 1967، وأخيرا انتصار أكتوبر 1973، وبالتالي سجلت أيضا انعكاس سياسات الانفتاح على عروض المسرح المصري، وأيضا تأثير مبادرة السلام على عروضه سواء سلبا بقبول الاتفاقيات وإيجابا بالدعوة لمقاومة العدو الصهيوني.
الموسوعة بأجزائها الخمسة عشر شائقة بالفعل، وفكرتها مبتكرة ولا تحاكي الموسوعات الشبيهة التي تبحث في تاريخ المسرح ببعض دول أوروبا وأمريكا بل تتفوق عليها، ومما لا شك فيه أن البيانات والإحصاءات في الموسوعة هي إضافة مهمة للمسرح العربي عامة وللمسرح المصري بصفة خاصة، وبالتالي فإن جميع الإعلاميين والصحفيين ومقدمي البرامج الفنية في حاجة ماسة إليها، وكذلك طلبة الدراسات العليا وجميع طلاب المعاهد الفنية المتخصصة، هؤلاء الذين يجب عليهم دراسة هذه التجربة الناجزة حتى يستطيعوا أن يتعلموا منها لمستقبلهم الواعد.
إن أهم ما أسعدني هو بدء اشتغالنا بالتوثيق العلمي الدقيق الذي كشف عنه أخيرا الباحث والمؤرخ الجليل د. عمرو دوارة في تعامله مع الموسوعة، فهي بصدق إنجاز بديع ورائع أدخلنا من خلاله الباحث الجاد الدؤوب وسط دوائر المعارف العالمية المهمة، والتي من بينها ثلاث دوائر معارف عالمية تخصصت في المسرح والأعمال المسرحية وهي:
1- المرجع المسرحي الإيطالي (عشرة مجلدات)
Enciclopedia Dello Spettacolo.
2- المرجع السوفيتي (خمسة مجلدات)
Tyeatalanja Enciklopegyija.
3- المرجع النمساوي (باللغة الألمانية - ثمانية مجلدات حتى الآن)
Theatere & scmichte Europas.
من وضع "كندرمان (Kindermann).
ومع ذلك فإن "موسوعة المسرح المصري المصورة" تتميز عن هذه الموسوعات جميعا بتناولها لتفاصيل جميع الإنتاج المسرحي خلال فترة زمنية ممتدة من بدايات المسرح المصري حتى الآن، وأيضا بتوثيق كل العروض بالصور الفوتوغرافية النادرة للعروض وللرواد المسرحيين.
حقا إنه جهد مسرحي وفني خرافي، يضعنا أمام كل تفاصيل منجزنا المسرحي خلال مائة وخمسة وأربعين عاما، بسيطرته على جميع التفاصيل التي قد لا تستقر في الذهن طويلا. ونحن مع ضرورة إصدار هذه الموسوعة الفريدة من نوعها فورا. كما نرجو ونطالب بضرورة انطلاق هبة علمية حقيقية تتفوق على كل روتينيات "المركز القومي للمسرح والموسيقى"، حتى نجاري الدول الأوروبية المتقدمة مسرحيا، حرصا على أرشفة وتأريخ دقيقين يتجاوزان السطحيات والتسجيلات، وبحيث ترتكز كل مرحلة منهما إلى الإحصاء والتعامل العلمي.
والخلاصة أن هذه الموسوعة البديعة لا تسجل فقط ريادة صاحبها ولكنها تجبرنا أيضا على تسجيل وثيقة اعتراف وعرفان بالجميل له على جهده العلمي الرصين، وعلى تحمله كل تلك المشقة كل هذه السنوات كما كلفته الكثير من الأموال لتجميع المادة والصور، وإعدادها بهذه الصورة المثالية معتمدا على الإمكانيات التكنولوجية الحديثة للبرامج والأجهزة الإلكترونية، ولذا فهي جديرة بكل الثناء والتقدير، فكل التهنئة للصديق العزيز د. عمرو دوارة وإلى مجموعة زملائه الذين عاونوه بكل هذا النفس الطويل على إنجاز هذا الإصدار المهم والموفق، لخدمة حياتنا المسرحية والفنية وتقديم كافة البيانات والمعلومات الموثقة لجميع الأعمال والأحداث المسرحية، مع تمنياتي له بمزيد من المساهمات الثرية بحياتنا المسرحية بكل التوفيق والنجاح والتألق.