الأحد 16 يونيو 2024

نظام عنصري محسّن .. الضفة الغربية وغزة .. الفصل والوصل والضم

22-5-2017 | 13:39

تحسين يقين - كاتب فلسطيني

لم تكن تصريحات المسؤولين الإسرائيليين في السنوات الثلاث الأخيرة شديدة الجرأة على الشعب الفلسطيني وقضيته خارج سياق ما قبل ذلك ببضع سنوات، فمنذ اليوم الأول للدخول في التسوية: تصفية القضية وضم الأرض وتهويدها، ومنح "التجمعات السكانية" شيئا ما من مشتقات الحكم الذاتي. وقد أسهم تردي الأوضاع العربية في زيادة تلك الجرأة بدون أدنى خجل أمام الشرعيات الدولية.

   منذ توقيعها على اتفاقية أوسلو، وإسرائيل تنفذ على الأرض سياسة الأمر الواقع، وهي دولة إسرائيل في كل فلسطين التاريخية، مع مراعاة السكان الفلسطينيين (عرب إسرائيل كما تسميهم)، بحيث يكون لليهود دولتهم بنظام حكم خاص بها، في حين تطبق على الفلسطينيين المحكومين نظاما خاصا بهم، يراعي بعض الخصوصيات الثقافية الرمزية، أي نظام عنصري محسّن يلائم العصر. إنه تكيف صهيوني إبداعي. ولعلّ الحرب الإسرائيلية الثالثة على غزة 2014، وما واكبتها من أحاديث حول الهدنة والمفاوضات، جعلت النقاش مركزا على قطاع غزة، فبدت العملية السياسية متحولة من حق تقرير مصير الشعب الفلسطيني إلى حق تقرير مصير قطاع غزة. حرب على قطاع غزة كي يصير هو الدولة الفلسطينية فقط.

   كانت الحرب على غزة 3 هي تأكيد على تجزئة الحل كما سنرى.

   نشر أوري اليتسور الكاتب اليميني في معاريف في 28 يونيو 2013 مقالا بعنوان "ضم عرب يهودا والسامرة لإسرائيل السبيل الوحيد لتحقيق السلام". كان منطلقه كولينياليا على حساب الشعب الفلسطيني، مستخدما مصطلح الضم، طاعنا بأرقام الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، ثم قال"لا أزال أقدر بأن الضم التدريجي لسكان "يهودا والسامرة" لإسرائيل سيجلب بعد 30 عاما وضعا يكون فيه في الكنيست نحو 20 نائبا عربيا، ليس نهاية العالم وليس نهاية دولة اليهود(..) لا يزال لا مفر أمامنا من التفكير دون خوف ودون فزع عن خيار الدولة الواحدة بين النهر والبحر، تكون دولة الشعب اليهودي وفي الوقت نفسه دولة ديمقراطية ومتساوية فيها أغلبية يهودية متماسكة إلى جانب أقلية عربية كبيرة جدا".

   في تعليقه على عرض تقرير المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية-مدار الإستراتيجي، تحدث د. علي الجرباوي عن الحالة الراهنة، حيث فشل حل الدولتين وفشل حلّ الدولة الواحدة، وفي اليوم التالي نشر الكاتب حسن البطل في "الأيام": "مفكرون إسرائيليون وجدوا حلا ثالثا، لا هو "دولتان لشعبين" ولا هو "دولة واحدة ذات قوميتين". إنه "كنتنة" أرض فلسطين التاريخية، على غرار كانتونات الاتحاد السويسري. الكتل والمستوطنات اليهودية في الضفة تصير كانتونات يهودية ـ إسرائيلية، والكتل الديمغرافية العربية في إسرائيل تصير كانتونات فلسطينية: كانتون في الجليل الأعلى. كانتون في النقب.. وكانتون في المثلث.

   وسنتذكر ما تخوف منه محللون سياسيون عام 1999، عام استحقاق الوصول إلى حل في قضايا الحل الدائم، فقد توقع د. علي الجرباوي حصر الدولة الفلسطينية السيادية فقط في غزة في حين تكون السيادة على الضفة الغربية معومة، تدار من أكثر من دولة، ومتحدثا عن الوضع القانوني الذي سينشأ هناك.

   "ضم قطاع غزة مع سكانه إلى إسرائيل" كان أحد بنود خطة إيجال ألون في يوليو 1967. وجدوى اقتراح ضم غزة من وجهة نظره هي حل مشكلة الاتصال بين الضفة وغزة عن طريق الفصل! وإغلاق إمكانية وجود دولة فلسطينية في غزة، وترك الحرية لإسرائيل لترتيب أمور الضفة كما يحلو لها.

يذكر شلومو غازيت في كتابه "الطعم في المصيدة: السياسة الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة من عام 1967 حتى عام 1997": "كان في نية إسرائيل ضم قطاع غزة إليها، واعتمدت الرغبة الإسرائيلية بضم القطاع على ثلاثة عناصر: أولا الآمال بخروج معظم سكان القطاع العرب بمن فيهم اللاجئون آجلا أو عاجلا. ثانيا الرغبة الشديدة بقطع مصر عن قطاع غزة وعن أي اتصال مع الأراضي الفلسطينية (الضفة الغربية). وثالثا الإدراك بعدم وجود أي احتمال مستقبلي لبقاء القطاع مستقبلا، وإذا قررت إسرائيل عدم ضمه فإنها ستضطر إلى قبول ضمه إلى الضفة مما سيؤدي إلى مشاكل معقدة". أي أن إسرائيل كانت ستضحي بضم عرب فلسطينيين آخرين كثيرين إليها من أجل فرض أمر واقع له علاقة بحدودها مع مصر، والخلاص من وصل غزة بالضفة.

   وبالعودة إلى عام 1937 زمن الانتداب البريطاني، ونتيجة لتطبيق وعد بلفور بمنح اليهود كيانا سياسيا في فلسطين، تأججت ثورات الثلاثينيات ضد سياسة الانتداب والهجرات اليهودية، وبدأ التفكير الجدي برسم خارطة الدولتين العربية واليهودية في فلسطين، من خلال لجنة بيل الملكية، وقد راعى معدو كل الخرائط التي قدمت منذ خارطة لجنة بيل حتى خارطة التقسيم الشهيرة عام 1947 أمرين مهمين: الأول وهو خاص بكثافة وتوزيع السكان الفلسطينيين والمستوطنين اليهود، والثاني وهو متصل بالأول، ويتمثل بضرورة وجود اتصال إقليمي بين مناطق كلا الدولتين.

   بالاطلاع على الخرائط التي ضمنها د. وليد الخالدي في كتابه" خمسون عاما على تقسيم فلسطين" نجد حرص معدي الخرائط على الأمرين السابقين، وما يهمنا في الخرائط السبع المعروفة المرتبطة باجتهادات الوصول إلى خارطة تقسيم عملية بين العرب واليهود من وجهة نظر معديها هو إشكالية الاتصال بين سلسلة جبال الضفة الغربية مع شمال فلسطين (الجليل بعاصمته الناصرة) والسهول الغربية (الساحل الفلسطيني)، في حين كانت الخرائط تتسامح مع الجنوب (النقب) لقلة عدد السكان، حيث لم تكن تثير صحراء النقب الكثير من المشاكل سواء في ضمه للعرب أو اليهود أو تقسيمه بينهما.

   وفي الشمال بالنسبة للدولة العربية كان هناك اجتهاد "يسمح بوجود شريط ضيق يربط الضفة الغربية بالجليل، أما في الساحل فقد كان هناك اجتهاد يضمن اتصاله بالضفة الغربية لنهر الأردن عن طريق ربط جنوب الضفة بمنطقتي غزة ويافا من خلال أراض واسعة تمتد من الجنوب إلى الساحل الغربي (غزة ويافا). فيما مال مشروع التقسيم الذي أوصت به أكثرية أعضاء لجنة التحقيق الدولية UNSCOP في سبتمبر 1947 ومشروع تقسيم فلسطين حسب الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947 إلى توسيع قاعدة الضفة الغربية إلى الجنوب بشكل يجعلها تكاد تقترب (تتصل) من قطاع غزة".

   إن الوجود الفلسطيني كان في كل مكان بشكل طبيعي غير مفتعل، لكن الهجرات اليهودية غيرت من الواقع قليلا بما يضمن وجودا مكثفا لليهود في مناطق أكثر من غيرها. فيما كان لكثافة وجود السكان الفلسطينيين الأصليين في الضفة الغربية والجليل والمثلث وعكا ويافا وغزة دفع راسمي الخرائط إلى أخذ ذلك في الاعتبار، حيث كان الخبراء الدوليون يفكرون بحل دائم لمستقبل الدولتين والذي يقتضي الاتصال بين مناطق كل دولة.

   بعد حرب عام 1948 رسمت إسرائيل الخارطة بقوة سلاحها، حيث احتلت معظم أجزاء فلسطين أكبر كثيرا مما كان معروضا عليها في خرائط التقسيم كلها. ولم تترك سوى شريط غزة الصغير والضفة الغربية المعروفة مع تآكل لأطرافها الشمالية والغربية والجنوبية.

   تدرك إسرائيل خصوصية الضفة الغربية لنهر الأردن وقطاع غزة اللصيق بمصر، وتدرك ضرورة وصلهما خصوصا إذا أرادت أن تنسحب من غزة كما قال شلومو جازيت؛ مما يسبب لها مشكلة لأنها غير راغبة بمنح شريط اتصال بين الضفة وغزة يمر عبرها. لذلك فهي قد فكرت قبل ثلاثة عقود فعلا بضم غزة وسكانها بالرغم من كبر حجم السكان، على أن تنقل اللاجئين إلى العريش وجنوب الضفة الغربية، وقد حصلت محاولات من هذا القبيل عام 1972، وما قضية البدو على مدخل رفح إلا البداية الفعلية للسير بهذا المخطط الذي لم ينجح؛ بسبب صعوبة مواجهة الرأي العام الدولي الذي يطالبها أصلا بالانسحاب، كما سيرى في ذلك جريمة ليس لها مبرر. إضافة إلى توقع مقاومة شعبية لسياسة للطرد قد يستلزم تنفيذه تكرار مذابح لا تحب إسرائيل أن يذكرها به أحد.

   بعد اتفاقية أوسلو، التي تضمنت بنودا واضحة عن الاتصال بين طرفي الوطن، اعتسف الإسرائيليون في تحفظاتهم وتفسيراتهم للممر الآمن أو المرور الآمن، وإجراءات الأمن ، فوضعت عراقيل وصعوبات للمارين عليه الذين لم يطل مرورهم، حيث ما إن انطلقت الانتفاضة الثانية (28 سبتمبر 2000) حتى أغلقت إسرائيل الطريق. أما الرؤساء الأمريكيون الذين كرروا وعودهم منذ الرئيس الأمريكي جورج بوش بمنحنا دولة فلسطينية متصلة جغرافيا فهو يعوزه الكثير من التفصيلات ليتعرف معنى الاتصال الجغرافي للأراضي الفلسطينية المقطعة الأوصال، إلا إذا كان مقصد الرئيس الأمريكي عن الدولة المتصلة في داخل قطاع غزة، وليس بين مناطق الضفة مع بعضها بعضا وبينها وبين غزة.

   ما دام هناك تفكير عنصري باتجاه احتواء الضفة الغربية، فلماذا تم التأكيد على الوحدة السياسية بين الضفة الغربية وقطاع غزة في اتفاقية أوسلو للسلام 1993؟

   هذا هو المثل الشعبي: "مقسوم لا توكلي وصحيح لا تكسري وكلي حتى تشبعي-تتعفري"! وهو الذي أوقع الفلسطينيين في حيرة من أمرهم، حين ظنوا أن الإسرائيليين جادون في الدولتين، خشية الدولة الواحدة، ولم يضعوا في حسبانهم أن الإسرائيليين لا يريدون هذه ولا تلك، بل مجرد استيعاب للفلسطينيين، ولهم أن يطلقوا على كانتوناتهم ما يشاؤون من أسماء كما قال أرئيل شارون حين عرض 42% من مساحة الضفة الغربية على الفلسطينيين!

   ولعل تساؤل ليبرمان يضيء شيئا عن النوايا الإسرائيلية: هل سيؤدي التوقيع على اتفاق مع الفلسطينيين إلى نهاية الضغوط السياسية على إسرائيل، أم سيواصلون مهاجمتنا مستخدمين هذه المرة "تنظيم وترتيب" المضارب البدوية في النقب أو تعزيز الوجود اليهودي في الجليل بدل كلمة المستوطنات والاحتلال؟ الجهات والأشخاص أنفسهم الذين يهاجموننا حاليا على خلفية البناء الاستيطاني في الضفة الغربية، يعدون الأرضية للانتقال للمواضيع التي ذكرتها البدو والاستيطان اليهودي في الجليل، إن هذه الجهات لا تنوي التوقف وأخذ قسط من الراحة.

   إنها عدم الثقة بالفلسطينيين أبدا، لذلك لا نرى إسرائيل إلا باحثة عن "إمكانية تجزئة الحل السياسي للقضية الفلسطينية جغرافيا بين الضفة والقطاع، ولكن مع تمريره من خلال إيجاد اتصال وظيفي، وليس وصلا جغرافيا" حسب علي الجرباوي.

    وأورد هنا اقتباس للدكتور إبراهيم ابراش في مقال عنوانه "صناعة دولة غزة": "في 1 نوفمبر 2004 صدرت وثيقة عن مؤسسة TOLEDANE تتضمن ورشات عمل غير رسمية عقدها فريق مشترك فلسطيني إسرائيلي في مدريد دعا لها شلومو بن عامي وزير خارجية إسرائيل الأسبق والذي كان يعمل نائبا عن مدير مؤسسة TOLEDANE. في ذاك الوقت كان الرئيس أبو عمار محاصرا في مقر المقاطعة في رام الله ، وكان جوهر النقاش يدور حول الكيفية التي سيتم فيها فصل غزة عن الضفة وتشكيل إدارة انتقالية للسلطة في قطاع غزة بعيدا عن السلطة الفلسطينية(...) كانت النقاشات واضحة ومركزة على خلق منطقة إدارية انتقالية فلسطينية في قطاع غزة (PAT) وهذا يعني أن قطاع غزة : يجب أن يكف عن كونه منطقة محتلة كما أعلنت خطة الانسحاب الإسرائيلية ، إذ يجب تغيير وضعه القانوني استجابة لهذا التغيير".

   مهما اختلفت التواريخ، ومهما حاولنا استقصاء وسرد الرؤى الإسرائيلية، فإن القاسم لذلك جميعا مقاومة منهجية لظهور كيان فلسطيني حقيقي.