الثلاثاء 24 سبتمبر 2024

كيف فهم القوميون العرب قضية فلسطين؟

22-5-2017 | 13:43

أشرف راضي - باحث ومترجم مصري

 في أغسطس 1948، كتب قسطنطين زريق، شيخ القوميين العرب، كتابا بعنوان "معنى النكبة" حاول من خلاله الوقوف على ما حدث على أرض فلسطين في مايو من ذلك العام، من حرب وتهجير للفلسطينيين، وقيام إسرائيل كدولة على حدود أكبر من الحدود التي خصصها قرار التقسيم لعام 1947. وبعد 19 عاما، وتحديدا في أغسطس 1967، أصدر كتابا ثانيا بعنوان "معنى النكبة مجددا"، ليعلق على هزيمة يونيو 1967.

   وفي الكتابين الصادرين عن دار العلم للملايين في بيروت، حيث كان يعمل ويعيش المفكر المولود في دمشق لأسرة أرثوذكسية في 18 أبريل عام 1909، يتصدى زريق لما سماه "محنة العرب" في مواجهة إسرائيل، المرة الأولى على أرض فلسطين والتي أدت إلى الهدنة وقبول إسرائيل في الأمم المتحدة، ثم على جبهات أوسع في عام 1967، انتهت باحتلال إسرائيل لمزيد من الأراضي العربية ليس في فلسطين فقط وإنما في مصر وفي سوريا بعدما ألحقت هزيمة بثلاثة جيوش عربية.

   ولم يقصد زريق، باستخدامه كلمة "النكبة" في الكتابين، اللذين يزيد عدد صفحاتهما معا على المائتين قليلا، التخفيف من وطأة الهزيمة على غرار ما فعل الخطاب الرسمي العربي لاحقا، وإنما قصد من استخدام هذه المفردة بصفتها أكثر المفردات بلاغة وقدرة على اختزال معنى ما أصاب الفلسطينيين والعرب خلال عام 1948، وهو انهيار مادي ومعنوي وهو الأخطر حسبما يرى زريق، يستوجب بعد فهم هوله وأثره في صفوفهم، استنتاج العبر بشأنه، والبحث في سبل التعامل مع مخاطره آنيا، ثم على المدى الطويل للوصول إلى حل شامل لها. فهو يتعامل مع "معنى النكبة" بصفتها المحك لمدى قدرة العرب على النهوض، لاسيما الفئات التقدمية في أوساطهم للانطلاق نحو نهضة جديدة.

فكتب في مقدمة الكتاب الأول يقول: "ليست هزيمة العرب في فلسطين بالنكسة البسيطة، أو بالشر الهين العابر، وإنما هي نكبة بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ومحنة من أشد ما ابتلي به العرب في تاريخهم الطويل؟، على ما فيه من محن ومآسٍ." ويقر في مقدمة كتابه الثاني أن ما حدث كان "نكبة لا نكسة، ومثلها، بل شر منها، ما أصابنا الآن" في إشارة إلى هزيمة 1967. ويرى زريق في الكتابين "رسالة" موجهة إلى كل قومي متحرر من أبناء الوطن. والكتابان محاولة لتصفية التفكير في أزمة خانقة، بما يقتضيه ذلك من صحة الفكر واستواء الخطة، بدافع من إحساس الكاتب بمسؤولية وواجب يقعان على عاتق كل فرد من أفراد الأمة، وسعيا لإزالة بعض البلبلة السائدة.

    على الرغم من أن زريق وضع في الكتاب الأول ما يشبه برنامج عمل على المدى القصير، أطلق عليها "المقاربة الآنية"، أو "المعالجة القريبة"، تقوم على خمسة أركان، انتظارا لتوفر الظروف لحل شامل، إلا أن الهزيمة اللاحقة بعد 19 عاما دفعته إلى البحث في "معنى النكبة مجددا"، وطرح أيضا مقاربة آنية لا تختلف كثيرا عما طرح في الكتاب الأول، ولم يتحقق أي ركن من هذه الأركان الخمسة، بل إن التطورات والأحداث سارت في الاتجاه المعاكس، على نحو يدفعنا إلى وضع هذه الأفكار موضع المساءلة والبحث عن موضع الخلل، هل هو في الأفكار المطروحة أم لأنها مفارقة للواقع؟ وهل في هذا الواقع ما قد يساعد على تجاوز النكبة، أم أن تغييره شرط لهذا التجاوز؟

   والأرجح أن زريق لا يرى أفقا لحل شامل يتجاوز "النكبة" في ظل الأوضاع الراهنة. فالحل الشامل، في نظره، يقوم في بناء كيان عربي "قومي متحد تقدمي" يعزز المعرفة ويدرب العقل العربي على العلوم الوضعية، ويفصل الدين عن الدولة، ويمضي في طريق التطور الآلي والتكنولوجي وينفتح على الحضارات الإنسانية. ويرى أن الطريق للوصول إلى هذا الهدف يمر عبر "انقلاب" على الأمور السائدة، وتغيير في ثقافة وسلوك النخب القيادية سياسيا وثقافيا. ولا تشير حركة التاريخ ولا الأوضاع الراهنة في البلدان العربية، إلى أن المنطقة تمضي في هذا الطريق. وحتى الآمال التي حركتها الانتفاضات العربية في مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين سرعان ما انحسرت، لتدفع المجتمعات إلى أوضاع أكثر ترديا. وهذه الأوضاع تجعل مناقشة شروط الحل الشامل أشبه بتمرين عقلي مجرد ليس له مردود أو انعكاس على أرض الواقع.

   لكن ماذا عن "المقاربة الآنية" أو "القريبة" التي طرحها زريق عام 1948، وأعاد طرحها مجددا عام 1967؟ وما فرص تحقق أي من الأركان الخمسة التي تحدث عنها، وما فائدتها في الواقع العملي؟

   يقول زريق إن مقاربته الآنية تقوم على خمسة أركان، هي:

1ـ تقوية الإحساس بالخطر وشحذ إرادة الكفاح، أكان ذلك لدى المثقفين، أم المسؤولين، أم المواطنين العاديين الذين لم يتنبه كثيرون منهم بعد إلى ما يتهددهم ويتهدد مستقبلهم جراء النكبة.

2 ـ تعبئة الطاقات لخوض الحرب عسكريا واقتصاديا وسياسيا، الأمر الذي يتطلب تنسيق الجهود جميعها وتعبئة المجتمعات ودفع الجيوش نحو ميادين القتال، لإشعار العدو بحالة الحرب الشاملة التي يواجهها في المنطقة، والتي كان

بنفسه سباقا إلى اعتمادها.

3 ـ تحقيق أكبر قسط من التوحيد بين الدول العربية في الاقتصاد والسياسة والدعاية والمجهود الحربي والضغط، لا بل الثورة، على كل من يعرقل ذلك، أو يرفضه.

4 ـ إشراك القوى الشعبية في النضال من خلال تسليحها وتدريبها ـ تماما كما فعلت قيادة إسرائيل مع شعبها ـ كي يكون الجهاد شاملا يحمي الأوطان ويعيد الاعتبار إلى الناس الذين هزموا في فلسطين خلال المعركة، وأحيانا قبلها،

جراء قلة التنظيم وغياب القيادة الواعية والخوف.

5 ـ القدرة على المساومة مع الدول الكبرى والتضحية ببعض المصالح في سبيل القضية الأهم: مواجهة الخطر الصهيوني، الأمر الذي يتطلب توازنات ووضوح رؤى كي لا تتحول المساومات إلى تنازلات وخسائر من دون مقابل.

   ولم يدخل زريق تغييرات جوهرية على هذه الأركان الخمسة التي طرحها في مواجهة نكبة 1948، في أعقاب هزيمة أو نكبة 1967، إلا من حيث التركيز أكثر على البعد المتعلق بالحداثة. فكتب في مقدمة "معنى النكبة مجددا" يقول: "وأهم مقومات هذا الكيان العربي المنشود: الاتحاد، والتقدم الصحيح. وهذا التقدم معناه أن نصبح بالفعل وبالروح، لا بالاسم والجسم فقط، قسما من العالم الذي نعيش فيه، نجاريه في نظم العيش والفكر، ونتكلم لغته، ونتصل بأصوله، ونضم مقدراتنا إلى مقدراته. ولبلوغ هذه الغاية يجب أن تُتَخذ خطى عديدة تقلب حياتنا من أوضاع العصور الوسطى والقديمة إلى وضع العصر الحديث".

   ولا يختلف هذا الرأي عما طرحه كبار الكتاب والمثقفين المستنيرين في العالم العربي، وفي مقدمتهم أحمد بهاء الدين في سلسلة مقالاته عن الدولة العصرية، لكن لم تكن هذه الاستجابة هي الاستجابة الوحيدة في العالم العربي لواقع الهزيمة المرير. بل يمكن القول في ضوء التطورات اللاحقة وصعود التيارات الأصولية، لاسيما التيارات الإسلامية، إن الرأي الذي ساد هو الرأي الذي أرجع الهزيمة إلى الابتعاد عن الدين والسعي وراء القيم الغربية، وهي قيم الدول والمجتمعات التي تناصبنا العداء والتي تساند إسرائيل في مواجهة العرب والمسلمين. فبدلا من أن تشحذ النكبة الثانية الهمم من أجل التقدم، دفعت بقطاعات كبيرة من النخب المتعلمة والجماهير إلى الانتكاس إلى الماضي بحثا عن عصر ذهبي تسعى إلى إعادته من حيث الشكل لا من حيث الجوهر.

   وعلى الرغم من أن زريق حرص في أعماله اللاحقة على التفصيل في شروط النهضة التي تخرج العرب من كبوتهم وتغير من صيرورة النكبة، إلا أن هذه الأعمال لم تلق أي اهتمام يذكر على ما يبدو، وقلصت التطورات اللاحقة من حجم القوى التي يتطلع إلى أن تحمل لواء المعارك في الحرب الطويلة، إلى الحد الذي دفع الكاتبة والصحفية اللبنانية سوسن الأبطح، إلى أن تتساءل في عام 2003، وبمناسبة صدور كتاب "قسطنطين زريق عربي للقرن العشرين" للكاتب عزيز العظمة، "لماذا رميت مشاريعه في المزبلة؟" وتقول في عنوان فرعي لمقالتها المنشورة في جريدة الشرق الأوسط اللندنية (24 أغسطس 2003)، وحاولت أن تنتصر لما كان يمثله زريق في ذروة لحظة انكسار المشاريع الوحدوية. وقالت السؤال الذي لا يطرحه كتاب عزيز العظمة صراحة هو: "لماذا هُزم العروبيون ذوو الرؤية المستقبلية الخصبة والعلمية الأكاديمية، ودفنت خططهم العملية على يد الأنظمة العربية والمؤسسات الخاصة منها والرسمية، بينما صفقت الشعوب بحماسة، على مدار أكثر من نصف قرن لعروبيين همجيين بلا أفق،أو هم في أحسن الأحوال، حراس شعارات فارغة، لا فرص حقيقية لنجاحها على أرض الواقع، لأنها تدار بمزاجية وعفوية مخلصة لفوضاها".

   إن طرح هذا السؤال ليس سوى بداية على طريق درء النكبة، والإجابة عن هذا السؤال هي المفتاح للتواصل من جديد مع جانب من أطروحة أدركت مبكرا المعنى العميق لفكرة الصراع الحضاري، والتي لم تخلط في رؤيتها بين الحضارة والثقافة. وهذا هو ما قصده زريق بصحة الفكر واستواء الخطة.