الثلاثاء 16 ابريل 2024

عصر ما بعد الفوضى.. حتمية النقد

مقالات2-9-2021 | 16:26

في المقالة السابقة عن عصر ما بعد الفوضى أشرت إلى أنها فوضى شاملة وليست مجرد خلخلة سياسية أو شكل من أشكال الاضطراب السياسي أو الاضطراب في هوية الدولة الوطنية، بل الأمر أقرب إلى عبث شامل وتمرد على كل شيء، وأن من الأشياء التي تتمرد عليها الحالة الثورية الفوضوية أو غير البصيرة أو الثورة العمياء النقد الأدبي والفكري، فلا تريد هذه المجموعات والقوى الثورية المدفوعة أي شكل من أشكال النقد وتحاول أن تتمرد على فكرة التصنيف والترتيب التي هي جزء من طبيعة الوجود، فالوجود نفسه مؤسس على التراتب والتنوع والتفاوت، فلا يمكن مثلا أن نجد شجرة البرتقال منتجة لثمار متطابقة في الوزن أو اللون والطعم أو الحالة الصحية للثمرة، والأمر نفسه ينسحب على كل شيء في الوجود.

فلا يمكن أن تكون كافة النصوص على الدرجة نفسها من الجودة، ولا يمكن أن يكون كل ما ينتجه الشخص الواحد بالقيمة نفسها، وهكذا فإن فكرة الترتيب والتصنيف وفق معايير هي جزء من طبيعة الحياة، ونوع من الاستبصار الضروري لمن ينتجون أو يتعاطون مع النصوص أو الآداب أو كافة المنتجات الفكرية، وهنا يكون دور الناقد الذي يشبه إلى حد كبير الميزان في موضوعيته وتجرده وصدقه وأن يمثل وحدة صماء تبتعد عن الأهواء يتعارف عليها الناس وهي دائما التي تقول إن النص الأدبي الفلاني أو المنتج الأدبي الفلاني قد حقق عددا من الإنجازات أو القيم الجمالية والدلالية ويزن العمل وفق سيرورة قياسية أقرب إلى الآلة من حيث العدالة العمياء أي التي لا تتأثر بأي مؤثرات خارجية، ولكنها في الوقت نفسه تراعي كافة الجوانب والأبعاد المادية والمعنوية على السواء، ففي التصورات النظرية النقدية الراهنة أن ما ينتج النص من بؤر للتأثير العاطفي يمكن رصدها وتتبعها بشكل علمي دقيق، وهكذا يكون النقد الأدبي محكوما بالطابع العلمي من البداية إلى النهاية، حتى لو جامل قليلا فإنه يعلن هذا ويبين أسباب المجاملة لديه ودوافعها، وهنا لا يكون هناك التضليل أو الانهيار التام لقيم النقد بوصفه الميزان الذي تقوم عليه الحياة الأدبية والفكرية.

هناك كثيرون يريدون أن يقولوا بالمساواة التامة بدافع من هذا الانفعال الثوري الغريب، وغير المنطقي، فبعض الأصوات مثلا تريد أن تتمرد على نجيب محفوظ أو على المكانة التي بلغها لدى الناس عبر منجزه الاستثنائي الراسخ والفاعل بامتداد في الوجدان العربي، يريدون أن يقولوا كلنا أدباء وكفى، أي كلها نصوص، وكلها روايات وقصص وأن نسبية الذوق قد تجعل نصا لأي كاتب آخر أو أي صوت روائي يبدو متفوقا على محفوظ، والحقيقة أنها كلها مغالطات ولا أساس لها. بل الميزان الأساسي الذي يقاس عليه أي مشروع أدبي في العالم هو مقياس الفاعلية التأثير ونفوذ خطابه إلى دوائر أوسع وأن يكون متغلغلا في نفوس المتلقين ويشكل وعيهم.

الثورة لدينا وفق هذا المنطق تبدو كأنها التحرر من كل شيء، الانفلات من كافة المعايير ومنح الصلاحية لكل شيء، ولدى بعض أنصاف المثقفين مثلا وهم بأن ما بعد الحداثة ساوت بين القبح والجمال، والحقيقة أن هذا غباء محض، وما كان في فكر ما بعد الحداثة هو ليست المساواة بين القبح والجمال أو المتن والهامش أو المركز والأطراف، بل حاولت أن ترى ما قد يكون كامنا في القبح من الجمال، وهو أمر مختلف تماما عن فكرة المساواة بين الجمال والقبح، فأن نكتشف وضعيات معينة وكيفيات بعينها تجعل من القبح محتويا على الجمال لا يعني انعدام التصنيف أو إلغاء طبيعة كليهما، وأن يصير القبح جمالا أو الجمال قبحا، ولو كان الأمر كذلك لكان من الأولى أن نشير إلى جنون اللغة وانعدام منطقها منذ وجودها، فلو كان هذا الزعم بأن القبح مساو للجمال صحيحا لكانت اللغة متزيدة وغير دقيقة حين فصلت بينهما وجعلت لكل منهما تسمية.

الوجود كله مؤسس على التفاوت والتصنيف وفي مقابلهما لابد من التمييز، أي لابد من النقد والاستبصار. لابد من وضع الحدود الفاصلة، فلا يمكن على سبيل التمثيل أن نسمي الهزيمة انتصارا إلا إذا كنا في حال نفسية مرضية أو ننطوي على خلل ما شامل، ولا يمكن أن نصف الرجعية والردة الحضارية والانحصار في الماضي صحوة ويقظة ونهضة إلا إذا كنا على النحو المرضي ذاته أو نعيش جنونا ممتدا. النقد ابن الفلسفة لأنه بالأساس رؤية واستبصار وترسيم للحدود بين المعاني والقيم، وترتيب لأفكار المجتمع التي تبدو مثل "شعر منكوش"، والأمم التي تتردى حضاريا هي حتما أمم تعيش شكلا من أشكال الفوضى والتخبط الفكري والوهم، وفي تقديري الشخصي أن الجماعات الدينية الرجعية التي تصر على مخطط الفوضى والتخريب قد تم تنبيهها من القوى العالمية التي تحركها إلى حتمية بث هذه الفوضى الفكرية الشاملة وحتمية التمرد على كافة أشكال العقل والمنطق والطابع العلمي، وتم تنبيههم إلى ضرورة الوقوف بقوة وراء إفساد أي محاولة لإصلاح التعليم وجعله يتبع الطابع العقلاني والعلمي وينمي في التلاميذ والطلاب الفكر النقدي وإعمال العقل، أقنعوهم من يحركونهم إلى ضرورة أن يبدأوا من الصفر وأن يرفضوا كافة أشكال التحضر الغربي ويعتبروها عدوة وضد النهضة الدينية المرجوة وهكذا قاموا كافة أشكال التحديث الفكري والفلسفي ورفضوا منجز الغرب في كل شيء، ويمكن تتبع هذا في حركات الترجمة والنشر، فهم لا يترجمون إلا كتب التنمية البشرية التافهة أو روايات من بلاد مغمورة وليس فيها غير حكايات تقليدية وليس فيها فكر أو فلسفة، كما أنهم لا ينشرون إلا فكرا فلسفيا ينتمي للعصور الوسطى المسيحية إذا أرادوا الترجمة لبعض كتب الفلسفة، وهم يدركون أن ذائقة القارئ المسلم لن تتماشى من ما يعتبره عدوا، أو لم يصبح مؤهلا له بعد، في حين أنهم يبتعدون تماما عن الفلسفة القديمة أو الحديثة أو نظريات النقد والتأويل، ولا يأخذون منها إلا القشور وعبر تحريفات، فلن تجد مثلا اعتناء بفكر التفكيك أو الهرمنيوطيقا أو الحجاج بتناول شامل تاريخا ونصا وتطبيقا، وكل ما يأخذون منها مجرد قشور للتزيين أو التباهي.

النقد لا ينطلق من مسلمات، ولا هدف له إلا أن يحقق أفضل زاوية للرؤية والاستبصار كمعادل لمفهوم الحقيقة الذي تراجع أمام الإيمان بأنه لا يوجد يقين مطلق ولا حقيقة مطلقة وأنه دائما ما تتعد زوايا الرؤية. ولهذا فإن النقد ميزان الحياة لابد أن يكون حاضرا بكل قوة وأن يكتسب قوته من ممارسته النزيهة والعلمية والدقيقة وأن يكرس لهذه القوة عبر امتداد الفاعلية والتأثير. وتخلينا عن النقد أو تساهلنا أمام انهياره هو أمر أشبه بأن نعيش ونحن نبيع ونشتري في أسواقنا دون استخدام للموازين، وأن نعود إلى المقايضة أو حتى المواءمة والتقدير العشوائي، أو أن نستخدم عددا مختلفا من الموازين غير الموحدة والمتفاوتة أو المتناقضة، وكلها أشكال من الفوضى تسرع في وتيرة الهدم والانهيار.