الثلاثاء 14 مايو 2024

بيلغ حمدي.. ملك الموسيقى الذي علمنا السحر

بليغ حمدي

فن11-9-2021 | 23:57

محمد أبو زيد

شاب نحيل منحوت الوجه، وعينان تحملان الحزن والشجن، ما إن يمسك "العود" حتى يعزف على أوتار قلبك، يكتب النوتة الموسيقية وكأنه مسكون بأرواح ملوك من الجن، فتتدفق الألحان مثل الشلال دون توقف، هو حالة فنية وموسيقاه عبقرية عابرة للزمن وعبقري لن يجود الزمان بمثله، صنع أسطورة الكبار وتغنت على ألحانه كبار مطربي الزمن الجميل، عشق فنه الذي أنساه نفسه وعاش مخلصا له حتى الرمق الأخير، هو "بيتهوفن الشرق" و"أمل مصر في الموسيقى" كما وصفه كامل الشناوي، و"ملك الموسيقى" بليغ حمدي. 


ولد بليغ حمدي في 7 أكتوبر 1931، عاش طفولته في حي شبرا، كان والده "عبد الحميد حمدي مرسي" يعمل أستاذا للفيزياء في علم الطبيعة، ومترجما وعضوا في لجنة التأليف والترجمة، بينما كانت والدته تهوى كتابة الشعر والغناء، بدت موهبة "بليغ" تلوح في الأفق منذ نعومة أظافره، تعلم في مدرسة شيبانة الإبتدائية، وعندما بلغ العاشرة من عمره طلب من والده أن يشتري له "عود" ومغرم بعزف أغنية "ياوابور قولي رايح علي فين" لـ محمد عبد الوهاب، كان والده محبا للفن وتربطه صداقة بأشهر الملحنين الشيخ زكريا أحمد ومحمد القصبجي والشيخ درويش الحريري الذي اتخذ علي عاتقه رعايته فنيا وتعلم علي يده الموشحات العربية، وكان من أصدقائه في مرحلة الطفولة صلاح جاهين. 

التحق "بليغ" بمدرسة شبرا الثانوية وعندما بلغ الـ 12 عا ماً من عمره توفي والده وهو لم يكمل الـ 45 عاماً، وكان شقيقه الدكتور مرسي سعد الدين قد سافر إلي لندن، لتعكف والدته وشقيقته "صفية" علي رعايته، حاول "بليغ" الالتحاق بمعهد فؤاد الأول للموسيقى إلا أن صغر سنه حال دون ذلك، ليدرس أصول الموسيقى في مدرسة عبد الحفيظ إمام للموسيقى الشرقية، والتحق بكلية الحقوق بسبب رغبة شقيقته "صفية" التي كانت تحلم بأن يحصل شقيقها على شهادة جامعية، وفي نفس الوقت التحق بمعهد فؤاد الأول للموسيقى الذي خطفه من "الحقوق" التي ظل يدرس بها 7 سنوات وتركها وهو في السنة الثالثة وعندما وصل للسنة النهائية تبقى له 3 مواد، وكانت "صفية" تقدم التماساً كل عام للجامعة في حال عدم حضوره الامتحانات حتى لا يتم فصله، لكنه في النهاية لم يحصل على الشهادة الجامعية بسبب معشوقته الموسيقى وحبه للفن وكأنه لا يجب أن يمتهن غيره.

جعلوني مطرباً
كانت بدايته الفنية عندما تقدم لاختبارات الإذاعة برئاسة محمد حسن الشجاعي واعتمدته لجنة الاستماع في إذاعة القاهرة مطربا وسجل للإذاعة 4 أغنيات، منها أغنية "قلبي من الشوق يا جميل سهران بينادي عليك" والتي غناها في 1954، وغنى في العيد القومي لدولتي الجزائر والكويت، ولكن التلحين كان يجري في عروقه، لينسحب من عالم الغناء وبدأ في تعلم كتابة النوتة الموسيقية ودراسة مقامات وإيقاعات وآلات موسيقى الدول العربية والأوروبية مثل الهارموني ووضع خبرته علي الموسيقى الشعبية والفولكلور المصري، والعزف على آلة البيانو ليضع كل طاقته في التأليف الموسيقي والتلحين.

بداية المشوار 
داخل حجرة الموسيقى بكلية الحقوق كان ملاذه الأول، وشارك في فريق "ساعة لقلبك"، وكان من بين دفعته زميلته في "الحقوق" فايدة كامل الوحيدة التي احترفت الغناء، وفي إحدى الأيام سمعته يدندن ويلحن على أوتار "عوده" الذي لا يفارق يده أغنية "ليه فاتني ليه" وطلبت تغنيها وحققت الأغنية نجاحاً كبيراً ليتبعه بلحن أغنيه "ليه لأ" وتحقق الأغنية نفس نجاح "ليه فاتني" وكانت الإنطلاقة له وهو لم يتجاوز الـ 20 من عمره، ثم قدم أغنية "متحبنيش بالشكل ده" لفايزة أحمد، ولحن لها 14 أغنية أبرزها "علشان بحبك هنا، كفاية، حبيبي يا متغرب".

بلبل والعندليب
بدأ مشواره مع العندليب في 1957 بأغنية "تخونوه"، والتي غناها في فيلم "الوسادة الخالية"، ومنها وشلال الألحان يتدفق بغزارة دون توقف، واستمر الثنائي في التعاون وقدما معا مجموعة من أروع ما غنى "حليم" منها "زي الهوا" و"خايف مرة أحب" في فيلم "يوم من عمري" و "جانا الهوى والهوى هوايا" في فيلم "أبي فوق الشجرة" و"خسارة" في "فتى أحلامي"وأغاني وطنية "عدى النهار، فدائي، البندقية اتكلمت" وقدم  له "بليغ" 4 أغنيات من الفلكلور الشعبي  "أنا كل ما أقول التوبة، سواح، إن لقاكم حبيبي، على حسب وداد".

بليغ وفوزي
 تعرف "بليغ" في طريقه علي محمد فوزي الذي احتضنه وقدم له أعماله علي أسطوانات شركة "مصرفون" وكان أول من عرفه علي أم كلثوم في 1960 في منزل طبيبها زكي سويدان وكانت بداية التعاون مع "الست" بأغنية "حب إيه" التي حققت نجاحا ساحقا، ومنها غير أسلوب كوكب الشرق في الغناء وهو في سن الـ 23 عاما، كان "بليغ" حريصا علي إيصال الموسيقى والإيقاعات الشعبية بطريقة تتناسب مع أصوات المطربين، وكانت ألحانه تتمتع بالسهولة والبساطة وتفرق بينها وبين أي لحن آخر، وكأنه يملك مفتاح قلوب المصريين.

بليغ والست
كون مع أم كلثوم ثنائيا قدما أعظم الألحان والأغاني ولحن لها 12 أغنية "أنساك، ظلمنا الحب، كل ليلة وكل يوم، سيرة الحب، بعيد عنك، فات الميعاد، إنا فدائيون، ألف ليلة وليلة، الحب كله، حكم علينا الهوى"، كانت تتميز ألحانه بأنها غير متشابهة سهلة ممتعة ومع مطلع الستينيات بدأ يهتم بالفلكلور الشعبي ويجوب قرى ونجوع مصر ليسمع تسجيلات المطربين الشعبيين ويدرس التركيبات الإيقاعية واللحنية، وتعاون مع عباقرة الشعراء أبرزهم الخال "الأبنودي"، وعبد الرحيم منصور ومحمد حمزة وسيد حجاب.

ثنائيات مع الكبار
تعاون مع شادية وقدم لها من ألحانه "آه يا اسمراني، قولوا لعين الشمس، ادخلوها بسلام آمنين، أبو عيون عسلية، خدني معاك"، وقدم لـ محمد رشدي "آه يا ليل يا قمر، وسع للنور، طاير يا هوى، مغرم صبابة، عدوية"، ومع صباح لحن لها "عاشقة وغلبانة، قابلت كتير، عايزة أنساه، قمورتي الحلوة، توب يا قلبي".

قدم ثنائي عظيم مع وردة التي أحبته قبل أن تراه عندما سمعت أول ألحانه "تخونوه" وهي في الجزائز وقدم لها أجمل ألحانه "يا نخلتين في العلالي، اشتروني، لو سألوك، اسمعوني، بحبك فوق ما تتصور،  العيون السود، وخلّيك هنا، وحكايتي مع الزمان"، ولحن لـ نجاة "الطير المسافر، مش هاين أودعك، وحياة اللي فات"، ولحن لـ محرم فؤاد "سلامات، مدي إيديكي، تعب القلوب"، ولحن لـ محمد العزبي "عيون بهية"، و"مستنياك، وحرمت الحب على"   لـ عزيزة جلال، ورائعته مع الشيخ سيد النقشبندي "مولاي". 

عدى النهار
كانت مصر تعني له الهواء الذي يتنفسه، بعد نكسة 67 كان عود بليغ حاضرا يعزف ويطيب الجرح وجاءت "عدى النهار" لتعبر عن مشاعر المصريين وتعيد له الأمل، مع "يا أم الصابرين، أحلف بسماها" ومع نصر أكتوبر 1973 يفرح بالعبور والانتصار مع الشعب ويقدم روائعه "بسم الله، فدائي، عاش اللي قال، عبرنا الهزيمة، يا حبيبتي يا مصر، علي الربابة بغني".

السينما وبليغ 
قدم الموسيقى التصويرية لعدد من الأفلام أبرزها "احنا بتوع الأتوبيس، العمر لحظة، أبناء الصمت"، ومن أجمل ألحانه كانت  مع شادية في فيلمي "شئ من الخوف" وأغنية "يا عيني ع الوله"، وأغنية "والله يا زمن" في "نحن لا نزرع الشوك"، وفي التليفزيون موسيقى "بوابة الحلواني، أوراق الورد".

بليغ والمسرح
اتجه ناحية المسرح الغنائي وبرع في تلحين الأوبريتات وكانت البداية من أوبريت "جميلة" وتوالت ألحانه في "مهر العروسة، الزفة، الأرملة الطروب، ياسين ولدي، تمر حنة" ومسرحية "ريا وسكينة"، ولحن موسيقى استعراضات وأغاني مسرحية "حلاق بغداد" وحصل من خلالها علي جائزة الدولة التشجيعية.

مكتشف المواهب
لم يقتصر دور "بليغ" في العمل مع الكبار ولكنه كان حريصا علي اكتشاف المواهب الشابة فقدم هاني شاكر ولحن له "خايف عليه، لما يغني الحب"، و "علمناه الحب"  لـ سميرة سعيد، ومحمد الحلو، وعلي الحجار الذي بدأ معه من "علي قد ما حبينا"، وأغاني مسلسل "بوابة الحلواني" وميادة الحناوي التي لحن لها "الحب اللي كان، أنا بعشقك، مش عوايدك، فاتت سنة، دعوة للحب"، وعفاف راضي التي لحن لها "ردوا السلام، جرحتني عيونه السود، يمكن علي باله حبيبي". 

حب إيه يا بليغ 
تزوج من أمنية طحمير وبعد شهرين انفصلا ثم عادا حتى وقع الطلاق بعد زيجة استمرت سنة واحدة، أحب سامية جمال وكان يريد الزواج منها، يروى شقيقه الدكتور مرسي سعد الدين في لقاء مع الإعلامي خيري رمضان قصة حبه لسامية وقال أنه طلب منه مرة أن يذهب معه لخطبتها، ويقول أن هناك حكاية سمعتها وهي عندما ذهب بليغ لـسامية واعترف لها بحبه قالت له "حب إيه يا بليغ" فأخذ كلمة "حب إيه" وأسند لـ عبد الوهاب محمد كتابة باقي كلماتها وكانت أولى ألحانه مع أم كلثوم. 

ربطته قصة حب مع وردة وباتت واحدة من أشهر قصص الحب والرومانسية الشهيرة، عندما أحبته قبل أن تراه وهي في سن الـ 16عاما، عندما دخلت إحدى صالات السينما في فرنسا لحضور فيلم "الوسادة الخالية" وعشقت صاحب لحن "تخونوه" وعندما جاءت إلي مصر كان اللقاء الأول لها مع بليغ عندما ذهب لتحفيظها لحن "يا نخلتين في العلالي" وأحبها من أول نظرة، كلل الحب بالزواج وعُقد القران في منزل نجوى فؤاد، وغنّى العندليب أغنية "مبروك عليك يا معجبانى"، واستمر زواج وردة وبليغ 6 سنوات وبرغم وقوع الطلاق لم ينتهى الحب وظلا يحبها حتى النفس الأخير.

ليلة مقتل سميرة
كانت أشد اللحظات قسوة في حياة "بليغ" في تلك الليلة السوداء التي انتحرت فيها سميرة مليان من شرفة منزله، كان معروف عنه أن يفتح بيته للجميع ويعاملهم كأنهم أهل بيت، وفي ليلة 17 ديسمبر 1984 كانت من بين ضيوفه المغربية سميرة مليان وثري عربي، "مليان" الباحثة عن الشهرة والتي كانت تأمل أن يكتشفها ويقدمها "بليغ" على غرار سميرة سعيد وميادة الحناوي، شعر بالارهاق وأخبر ضيوفه برغبته في النوم، ولم تمر سوى ساعة واحدة حتى استيقظ على صوت صراخ، وعُثر على جثة سميرة مليان عارية بعدما سقطت من الطابق الثالث.

 وجد "بليغ" نفسه متهما في قضية تسهيل دعارة وقبل إصدار الحكم عليه بالحبس سنة كان قد غادر مصر التي كان لا يطيق البعد عنها ثلاثة أيام، ليجد نفسها غريبا يتنقل ما بين باريس ولندن، ويعيش بعيدا عن بلده التي لا يعرف يتنفس إلا هواها نحو 5 سنوات حتى جاءت براءته ليعود إلي وطنه في 1990 ولكنه لم يكن هو بليغ الذي خرج مكسوراً ومظلوماً.

خلاص مسافر
كان بليغ بعد عودته قد انكسر وتحطم وذاق قسوة ومرارة أيام الغربة التي لم تثنيه عن العمل منها "بودعك" التي قالها لوردة في التليفون وهو في فرنسا، وبعد 3 سنوات يسافر مرة آخرى ولكن للعلاج بعد أن هاجمه سرطان الكبد ليرحل بعيدا عن وطنه في 12 سبتمبر 1993، عن عمر يناهز 62 عاما، قضى منها نحو 40 عاما لا يعرف سوف فنه وألحانه رحل أسطورة الموسيقى، وبقيت ألحانه تدق في قلوب المصريين ويبقى داخل الوجدان أبد الدهر لا يغيب.

Dr.Radwa
Egypt Air