الثلاثاء 7 مايو 2024

الدكتور ياسر ثابت يكتب: بلاغة بليغ الموسيقية

بلاغة بليغ الموسيقية

ثقافة13-9-2021 | 21:34

يبدو بليغ حمدي كما لو أنه شاعر الموسيقى الذي يكاد يستولي على عقل المستمع وقلبه في ألحانه العذبة.

هاربٌ من نافذة الحياة، ذابت أصابعه في طيات الأوتار الحزينة، حتى وإن بدا على أهبة الفرح، يهرب حتى من جرار العسل، كي يصنع من لحنه طائرة ورقية تُعلِّقُ مشانقها في السماء، وتُلِّوح للريح في كبرياء.

عندما سُئل الموسيقار كمال الطويل عنه، قال: «إننا كموسيقيين كنا كثيرًا ما نتوقف مشدوهين أمام ما يبدعه، نسأل كيف فكر في هذه الجملة اللحنية، كيف جاءه هذا الخاطر المجنون؟ بليغ لديه دائمـًا ومضاته الخاصة جدًا التي تثير دهشتنا».

الشاعر مأمون الشناوي قال في شهادته: «كل من لحّن لأم كلثوم بعد العمالقة القصبجي وزكريا والسنباطي لم يفعلوا أكثر من أنهم أعادوا فقط ترتيب قصر أم كلثوم، أما بليغ فقد قام ببناء قصر جديد لصوتها».

مع الموسيقار محمد عبدالوهاب كان الأمر شديد الالتباس، فقد قال إن بليغ «رخّص الغناء»؛ إذ كان يرى أن بليغ هو أكثر موسيقار يأتيه الإلهام من السماء، ولكنه لا يجتهد كثيرًا في التعايش مع الجملة الموسيقية، فيقدّمها قبل أن تختمر في أعماقه إبداعيًّا، وكان عبدالوهاب يستخدم تعبير «بعبلها» واصفًا الجُمل الموسيقية التي يقدّمها بليغ.

أثرى بليغ حمدي الموسيقى والغناء في العالم العربي، حيث وصل إنتاجه إلى نحو 1300 أغنية، إضافة إلى الأغنيات والموسيقى التصويرية في الأفلام والمسرحيات والمسلسلات الإذاعية. غنت لبليغ أصوات من معظم الدول العربية، في مقدمتهم: عبدالحليم حافظ، وأم كلثوم، ونجاة، وفايزة أحمد، وشادية، وصباح، ومحمد عبدالمطلب، ومحمد رشدي ومحرم فؤاد، ووردة الجزائرية، وعفاف راضي، وميادة الحناوي، وعشرات غيرهم.

وما يميز بليغ أنه لحَّن جميع الألوان الغنائية من رومانسية أو شعبية أو وطنية أو قصائد أو حتى ابتهالات دينية مثل مجموعة ألحانه للشيخ سيد النقشبندي أشهرها «مولاي»، بل حتى أغاني الأطفال مثل أغنية «أنا عندي بغبغان».

التحق بليغ بكلية الحقوق، وفي الوقت نفسه التحق بشكل أكاديمي بمعهد فؤاد الأول للموسيقى (معهد الموسيقى العربية حاليًا) وحباه الله سواء في مرحلة الدراسة الثانوية أو الجامعية برفقة من الفنانين شكلوا بعد ذلك علامات في الموسيقى والغناء من بينهم الموسيقار صلاح عرام والمطربة فايدة كامل والمطرب عبدالحليم حافظ والشاعر الغنائي عبدالوهاب محمد.

أقنع محمد حسن الشجاعي، مستشار الإذاعة المصرية وقتها، بليغ حمدي باحتراف الغناء، وبالفعل سجل بليغ للإذاعة أربع أغنيات واعتمدته لجنة الاستماع في إذاعة القاهرة مطربًا معتمدًا لديها، لكنه سرعان ما انسحب من عالم الغناء بهدوء لأنه -وباعترافه شخصيًّا- لا يملك المقومات الكفيلة لنجاحه وتفوقه في الغناء، في حين كان يمتلك طاقات كامنة في التلحين والتأليف الموسيقي.

ظهر اسم بليغ حمدي للمرة الأولى في وسائل الإعلام سنة 1954، يوم قدَّمته الإذاعة المصرية كمطرب جديد، في منتصف ديسمبر، نشرت مجلة «الفن» صورة لهذا المطرب، وقالت في تعليقها إن الإذاعة بثّت أغنية «قلبي من الشوق يا جميل سهران ينادي عليك» المسجلة على لحن أغنية من الفيلم الإيطالي «آنا» بكلمات مصرية وضعها سعيد المصري، غنّاها «المطرب الجديد بليغ حمدي، وهو شاب اكتشفته الإذاعة حديثًا في برنامج الهواة».

لم تطل مسيرة هذا المطرب الجديد، فبعد فترة وجيزة، اتجه إلى التلحين، كانت أول نقلة حقيقية في حياة بليغ يوم أُعلِنَ ملحنًا بغناء المطربة فايدة كامل لأغنيته «ليه لأ» من نظم أمين عبدالمؤمن، بطلب من الموسيقار محمد الشجاعي، وحققت نجاحًا كبيرًا بعد تسجيلها في الإذاعة، لتطلب منه تلحين أغنيتين - إحداهما«ليه فاتني ليه»- حققتا النجاح نفسه. وغنّت فايزة أحمد «ما تحبنيش بالشكل ده» و«حسّادك علموك».

في عام 1955 سجلت له شركة «كايروفون» 6 أسطوانات، وسافر في ذلك العام مع فايدة كامل لبيروت، فتلقفه المطربون والمطربات وطلبته الإذاعة السورية، ليسجل في أربعة أشهر 22 لحنًا لعددٍ من مطربي سوريا ومطرباتها أهمها لحن «ما تحبنيش بالشكل ده» للمطربة فايزة أحمد التي لم تكن وصلت إلى القاهرة بعد، وعندما جاءت للقاهرة طلبته ليلحّن لها أغنية «حسّادك علموك» ليبدأ اسمه كملحن يتردد بقوة في الوسط الغنائي العربي.

يقع بليغ حمدي ما بين الشعبية الرومانسية والوطنية الحماسية، لكننا يمكننا اعتبار الإسهام الأساسي الذي قدّمه بليغ في الموسيقى توصيل الموسيقى والإيقاعات الشعبية المصرية بطريقة تتناسب مع أصوات المغنين الكبار أمثال أم كلثوم، وعبدالحليم حافظ، وشادية، وغيرهم، كما اشتهر بليغ بسهولة وبساطة ألحانه، الأمر الذي يجعل أيّ متذوق للموسيقى قادرًا على التفرقة بين موسيقاه وأيّ موسيقى أخرى يسمعها.

تتميز ألحان بليغ حمدي بمعادلة غريبة، سهلة وممتنعة في الوقت ذاته، فهي غير مُتَشابهة وليست مُكَرَّرَة بجُمَلِها الموسيقية، ولكنها تحمل بين نغماتها نكهة واحدة سرعان ما يدرك سامِعها الواعي أنها من مدرسة بليغ حمدي؛ إننا أمام ألحان ماكرة تحقق ثورتها الفردية عبر أشياء صغيرة مدهشة، مثل إضافة آلات موسيقية معينة، والاهتمام بالإيقاعات الشعبية، والبساطة المعجزة.

ألحان بليغ واقعية إذا جاز التعبير ومتأثرة بالتراث الشعبي، بل يمكن القول إنها تأتي من النبع نفسه الذي خرجت منه ألحان سيد درويش، وسيتضح ذلك أكثر في مراحل بليغ التالية، حيث توجه للفلكلور الشعبي والأوبريت الغنائي، وهذه مدرسة سيد درويش، الأمر الذي يؤكد أن بليغ ما هو إلا امتداد مباشر لسيد درويش، دون أن ننكر عليه تأثره بمدرسة محمد القصبجي وزكريا أحمد ومحمد عبدالوهاب ورياض السنباطي وغيرهم.

ويُحسَب لبليغ حمدي فضله في التركيز على مزج أو استحداث «ضروب» إيقاعات كانت نتيجتها أن أضاف إلى قائمة الإيقاعات العربية المُستَخدَمة أنواعًا جديدة، فمثلًا: في مقدمة أغنية «حاول تفتكرني» لحليم، استخدم إيقاعًا مغربيًّا لأول مرة في وقت كان يمكنه الاستعاضة عنه بآخر مألوف للجماهير، ثم إنه استحدث إيقاعًا من وزن 1310 (فالس + سماعي ثقيل) وذلك في مقدمة لحنه لأغنية «الحُبّ كله» لأم كلثوم.

ويؤكد المتخصصون في عالم الموسيقى نجاح بليغ حمدي في استخدام معظم الإيقاعات المصرية والعربية المعروفة، حتى أنه كان له السبق في ابتداع العديد من الإيقاعات المركبة التي استخدمها آخرون بعده، كما يشيرون إلى اهتمامه بتطوير أداء الكورس والأصوات البشرية المصاحبة للمطرب؛ إذ أدخل وللمرة الأولى في تاريخ الغناء العربي الأصوات البشرية في سياق الأغنية ذاتها لتعبر عن دراما النص، كما كان له السبق في إقناع كوكب الشرق باستخدام الكورال في أغنية «حكم علينا الهوى».

ومنذ بداية الستينيات بدأ بليغ العمل على موسيقى الفلكلور، عاش وعايش الفلكلور الشعبي قديمه وجديده، وسمع كل جهود زكريا الحجاوي والتسجيلات الخاصة بأغاني المطربين الشعبيين في قرى ونجوع مصر، وفي الوقت نفسه قام بجولة في قرى ومدن مصر استغرقت أربعة أشهر ليسمع مباشرة ما يُغنى بها، ويدرس التركيبات اللحنية والإيقاعية وأساليب الأداء الموجودة في الوجدان الشعبي وتعيش فيه منذ سنين.

استعان بليغ في تلك المرحلة بشعراء دعموا توجهه نحو تأصيل أغنية قومية فيها رائحة مصر وأصالتها وهم عبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب ومحمد حمزة وعبدالرحيم منصور وسيد خميس الذين كانوا شبابًا يمثلون طاقة جديدة في الساحة الغنائية.

وكانت أولى تجاربه في الاستفادة من الجمل الفلكلورية عندما لحَّن لشادية «آه يا اسمراني اللون حبيبي يا اسمراني» ووجدت الأغنية تجاوبًا كبيرًا شجعه على الاستمرار فلحن للمجموعة أغنية «آه يا ليل يا قمر» ثم غناها محمد رشدي.

قابل بليغ حمدي المطرب محمد رشدي، وكان الشاعر عبدالرحمن الأبنودي قد كتب له «تحت الشجر يا وهيبة»، وشعر بليغ أن هناك كلمة جديدة، وأداءً جديدًا، وكنزًا يحتاج من يكتشفه وهو «الشعبيات»، أو الفلكلور، وشعر أن هناك مجتمعًا يريد أن يخرج ويتغير مع قوانين يوليو الاشتراكية، وتيار المجتمع الجديد، فرأى وقتها أن الموسيقى تحتاج إلى هِزَّة، واعتبر الغناء الشعبي أنسب اتجاهٍ لها، خاصة أن عبدالرحمن الأبنودي جاء بالكلمة الجديدة، بحيث أصبح المرء يشعر بالجنوب يغني للمرة الأولى، وبالفلاحين والكادحين.

ومع بليغ حمدي غنَّى محمد رشدي «آه يا ليل يا قمر، وسع للنور...»، وكانت كلمات الأبنودي لا تقل دورًا عن موسيقى بليغ، ثم جاءت أغنية «عدوية»، فكانت فتحًا في عالم الغناء الشعبي. ولحَّن لعبدالحليم حافظ عام 1965 أربع أغنيات بنفس النكهة هي «أنا كل ما أقول التوبة» و«على حسب وداد قلبي»، و«إن لقاكم حبيبي سلموا لي عليه» و«سواح وماشي في البلاد سواح» والأغاني الأربع مأخوذة من أربع جُمل أصيلة من الفلكلور الشعبي؛ وهكذا أصبح اللون التراثي الصعيدي على كل لسان وانتشر بفضل جهود بليغ مع رفاق الكلمة والغناء.

والمُدَقِّق في تفاصيل أعماله يلاحظ قوة ارتباطها بالتراث المصري، فهو يطير بأجنحة اللحن فوق سماء أثينا أو إسبانيا وإيطاليا، ثم ينعطف فجأة إلى أسيوط أو سوهاج يستَمد منها شحنات الأصالة الشرقية، ولا يجد من حرجٍ في إدخال «المزمار الصعيدي» والإيقاعات المشهورة صعيديًّا في أقوى وأطول مقدمات الأغاني التي كان يقدّمها لحليم أو أم كلثوم أو غيرهما.

حاول بليغ تمصير كل الأصوات العربية، ليغنوا باللهجة المصرية، حيث جعل الأمة العربية تتحدَّث بلهجة غنائه، وكانت تطلبه الأصوات العربية مثل وردة الجزائرية، وميادة الحناوي، وكان قد بدأ مع فايزة أحمد أغنية «متحبنيش بالشكل ده»، حيث لحّن لها 14 أغنية، ثم نجاة الصغيرة «مش هاين أودعك،...»، ثم جذبه لبنان فلحّن لوديع الصافي «راحوا فين حبايب الدار، يا عيني على الصبر»، وأعاد تمصير صباح فلحّن لها 22 أغنية، وكانت شادية تلح على منتج أفلامها بأن تكون كل أغنياتها من تلحين بليغ حمدي، وعندما بدأت مسلسلات الإذاعة اختار محمد حسن الشجاعي بليغ حمدي لكل المسلسلات التي تقوم ببطولتها شادية مثل «جفت الدموع، نحن لا نزرع الشوك».

اتجه بليغ إلى المسرح الغنائي وشغف به، حيث كان يرى أن تلحين الأوبريتات التطور الطبيعي لمشروعه الموسيقي.

وأول أوبريت لحنه كان «جميلة» من كلمات كامل الشناوي وهو من خمسة فصول، ثم كان أوبريت «مهر العروسة» تأليف عبدالرحمن الخميسي وتناول تأميم قناة السويس، وأمضى عامًا ونصف العام في تلحينه حتى عُرِض في أوائل عام 1964، وكانت النتيجة مباشرة بعودة المسرح الغنائي إلى سابق عهده من القوة والحضور، وللمؤلف نفسه قدّم أوبريته الثاني «الزفة»، ومن تعريب الخميسي أيضًا قدّم أوبريت «الأرملة الطروب»، وفي عام 1966 لحن موسيقى استعراضات وأغاني مسرحية «حلاق بغداد» وحصل من خلالها على جائزة الدولة التشجيعية.

كما قدّم مع الشاعر عبدالرحيم منصور أوبريت «ياسين ولدي» ثم «تمر حنة» بطولة وردة وعزت العلايلي.

على المستوى الوطني، جاءت هزيمة 1967 فهزت ألحان بليغ حمدي الشعب العربي، فقد كان قابضًا على مفاتيح الوجدان بفضل دراسته للتراث الشعبي، حيث قدّم ألحانًا لأغانٍ مثل «عدى النهار» التي أصبحت فيما بعد رمزًا لمرحلة النكسة و«يا أم الصابرين» و«أحلف بسماها وبترابها»، وحملت تلك الجمل الموسيقية الحزينة التي تتجلى في الكثير من أحزان الشعب.

كما أنّه أكثر من عبَّر عن حرب أكتوبر 1973، حتى أصبحت أغنية «على الربابة بغني» من غناء وردة الجزائرية رمزًا لحرب أكتوبر ومرحلة العبور، وأيضًا لحن «بسم الله» للمجموعة و«البندقية اتكلمت» و«فدائي» و«عاش اللي قال» لعبدالحليم حافظ، و«لو عديت» لمحمد رشدي، و«عبرنا الهزيمة» و«يا حبيبتي يا مصر» لشادية التي تعتبر أشهر أغانيه الوطنية على الإطلاق.

نشر هذا المقال في عدد مجلة الهلال لشهر سبتمبر 2021

Egypt Air