الجمعة 28 يونيو 2024

جيش تخطى الهزيمة

7-6-2017 | 14:27

بقلم –  محمد الشافعى

عندما يتعانق الخامس من يونيه مع العاشر من رمضان.. لأول مرة منذ نصف قرن.. يحتار الناس هل يتوقفون عند الهزيمة والدروس المستفادة منها.. أم يتوقفون عند الانتصار ودلالاته وأسبابه.. والحقيقة أننا يجب أن نتوقف أمامهما معاً.. لأن الجيش العظيم الذى صنع انتصار العاشر من رمضان.. هو ذات الجيش الذى لم يكن يستحق هزيمة الخامس من يونيه.. وذلك ببساطة لأنه لم يأخذ فرصته فى مواجهة العدو.. وإذا كان كل خبراء العسكرية فى العالم يجمعون على أن انتصار العاشر من رمضان كان نتيجة حتمية لحرب الاستنزاف العظيمة فإننا لن نغالى إذا قلنا إن العاشر من رمضان قد بدأ من يونيه ١٩٦٧.. وسوف نحاول أن نتوقف عند بعض بطولات (يونيه ١٩٦٧ نعم بطولات يونيه).. وبطولات الاستنزاف.. والتى أدت إلى الانتصار العظيم فى العاشر من رمضان.. ليؤكد الجندى المصرى مقدرته على مواجهة العدو وهزيمته مهما كانت العقبات.

 

 

أولاً: من المؤكد أن القيادة العسكرية المصرية ممثلة فى المشير عبدالحكيم عامر تتحمل الجزء الأكبر من مسئولية هزيمة يونيه ١٩٦٧.. وهذا لا يعفى القيادة السياسية ممثلة فى الزعيم جمال عبدالناصر من المسئولية.. ورغم هذا يجب ألا نستبعد تلك المؤامرة - التى تكشفت تفاصيلها كاملة - التى دبرها الحلف الصهيو أمريكى .. وشارك فيها الكثير من الأصدقاء والأشقاء.

ثانياً: قرار الانسحاب (السداح مداح) الذى اتخذه المشير عامر من دون أى دراسة أو تخطيط أدى إلى تضاعف الخسائر والآثار المترتبة على عدوان يونيه ١٩٦٧ .. والأهم أنه حرم الجندى المصرى من مواجهة عدوه.. ذلك الجندى الذى كان قادراً على المواجهة والصمود حتى بعد تدمير أغلب الطائرات المصرية.

ثالثاً: شهدت عمليات يونيه ١٩٦٧ العديد من البطولات.. التى لا يتوقف عندها أحد.. وذلك لأن المحصلة النهائية كانت (هزيمة) .. ولكن من الإنصاف والعدل أن نتوقف عند بعض هذه البطولات.. حتى يتأكد الجميع أن الهزيمة جاءت لتقصير القيادة التى ساعدت على إنجاح المؤامرة الدولية.. بينما الجندى المصرى أثبت جدارة فى كل المواجهات.. ومن هذه المواجهات ما يلى:

١ - استطاع المقدم مجدى محمد عبدالمجيد عزب إفشال مخطط العدو الصهيونى بتدمير القطع البحرية المصرية الموجودة فى قاعدة الإسكندرية، وذلك عندما اكتشف الغواصة الصهيونية (تانين) .. وهو على ظهر البارجة طارق.. واستطاع ضرب هذه الغواصة التى تعرضت لأعطال جسيمة جعلها تعود إلى حيفا فى شهر كامل.. رغم أن المسافة لا تأخذ أكثر من يوم.. وتركت الغواصة الصهيونية خلفها ستة من الضفادع البشرية الصهيونية .. حيث تم أسرهم .. وكان لهم دور كبير فى عملية تبادل الأسرى.

٢ - أرسلت مصر إلى الأردن٨٠٠ بطل من رجال الصاعقة بقيادة المقدم جلال هريدى والمقدم أحمد حلمى.. كرأس حربة للدخول إلى العمق الصهيونى .. ورغم إعلان الملك حسين عن وجود هذه القوات .. إلا أن بعض مجموعاتها ومنها مجموعة الرائد أحمد رجائى عطية قد دخلت بالفعل إلى العمق الصهيونى.. ولكن قرار الانسحاب العجيب أوقف هذه العملية شديدة الأهمية.

٣ - عادت الكتيبة ٤٣ صاعقة سالمة تماماً إلى الشاطئ الغربى لقناة السويس ووقف النقيب محيى نوح يبكى لأنه لم يواجه العدو.. ورآه الفريق عبدالمحسن كامل مرتجى قائد الجبهة .. وسأله عن سبب بكائه .. وعلى الفور طلب من هذه الكتيبة العبور مرة أخرى لمحاولة تعطيل لواء مدرع صهيونى عند منطقة جلبانه .. وعبرت الكتيبة .. وحفر الأبطال خنادقهم ولم يكن معهم إلا سلاحهم الشخصى.. وبعض قذائف الأربجية .. وانضمت إليهم أربع عربات صواريخ مضادة للدبابات.. وقد استطاع هؤلاء الأبطال تدمير أكثر من ٦٠ دبابة للعدو.. وأفشلوا هجوم هذا اللواء المدرع مرتين.. مما اضطر العدو إلى استخدام الطائرات والمدافع وكل أسلحته.

نكتفى بهذه النماذج المهمة لبطولات الجندى المصرى فى يونية ١٩٦٧.. لنؤكد على أن المشكلة كانت تكمن فى القيادة .. ولو أن القيادة كانت فى يد الفريق عبدالمنعم رياض ما حدثت الهزيمة أبداً.

رابعاً: استطاع الجيش المصرى أن يفعل ما لم ولن يفعله أى جيش آخر.. حيث قام من الهزيمة إلى المقاومة والمواجهة .. فى أقل من خمسة وعشرين يوماً.. من خلال معركة رأس العش التى بدأت فى الأول من يوليو ١٩٦٧.

خامسا : كان الزعيم جمال عبدالناصر قد اعتمد تغييرات واسعة جدا.. فى قيادات الجيش.. وذلك يوم ١١ يونيه ١٩٦٧ .. بعد أن رفض الشعب المصرى التنحى.. وخرج فى مظاهرات مليونية لإعادة الثقة إلى القائد وإلزامه بإصلاح ما انكسر .. وجاء عبدالناصر بالفريق محمد فوزى كقائد عام للقوات المسلحة .. والفريق عبدالمنعم رياض كرئيس للأركان .. وبدأت معهما الرحلة المستحيلة .. لإعادة بناء القوات المسلحة على أسس ومفاهيم جديدة.. استعدادا لاسترداد الكرامة واستعادة الأرض السليبة.

سادساً: راح العدو الصهيونى يفاخر بانتصاره فى الخامس من يونيه .. ولكن رأس العش قللت من غروره.. وجاءت عملية إغراق المدمرة إيلات فى ٢١ أكتوبر ١٩٦٧ لتقضى تماما على هذا الغرور .. حيث استطاعت لنشات الصواريخ المصرية - وهى قطع بحرية صغيرة لا تحمل أكثر من عشرين فرداً - أن تدمير المدمرة العملاقة إيلات.. أكبر قطع البحرية الصهيونية ويحسب لأبطال مصر أنهم استخدموا سلاح لنشات الصواريخ لأول مرة فى العالم.. حيث لم يسبق تجربة هذا السلاح حتى فى الدولة التى صنعته وهى الاتحاد السوفيتى.. ويقف وراء هذه العملية اللواء محمود عبدالرحمن فهمى رئيس عمليات البحرية فى ذلك الوقت.. ورئيسها بعد ذلك .. .. واستطاعت هذه العملية أن تغير من استراتيجية عمل القوات البحرية فى كل العالم.

سابعاً: نستطيع أن نؤكد بأن حرب الاستنزاف قد بدأت ضد قوات العدو فى الأول من يوليه ١٩٦٧ بعملية رأس العش .. ثم توالت العمليات والتى شاركت فيها كل أسلحة الجيش المصرى .. وكان من أهم العمليات الأولى عملية تدمير تشوينات السلاح التى جمعها العدو بعد انسحاب جنودنا .. فى محاولة للتباهى بهذا السلاح.. ونفذ هذه العملية البطل إبراهيم الرفاعى ومعه عدد قليل من الجنود.. وذلك فى الرابع من يوليو ١٩٦٧ .. ورغم تدمير معظم الطائرات المصرية - إلا أن القوات الجوية المصرية التى تولى قيادتها الفريق مدكور أبو العز قامت بغارتين كبيرتين وموجعتين ضد قوات العدو الصهيونى شرق القناة.. فى يومى الرابع عشر والخامس عشر من يوليو ١٩٦٧ .. وأمام خسائره الكبيرة والموجعة لم يجد هذا العدو الخسيس إلا ضرب المدنيين فى الإسماعيلية ليستشهد أكثر من ٣٩٠ مواطناً مدنياً.

ثامناً : استمرت حرب الاستنزاف لأكثر من ألف يوم بداية من الأول من يوليو ١٩٦٧ وحتى الثامن من أغسطس ١٩٧٠ عندما قبل الرئيس عبدالناصر مبادرة وزير الخارجية الأمريكى روجرز لوقف إطلاق النار .. ولم تتوقف العمليات يوما واحداً خلال هذه المدة .. مما اضطر الأمريكان إلى السعى لدى مصر من خلال تقديم مبادرتين الأولى فى نوفمبر ١٩٦٨ .. والثانية فى مارس ١٩٦٩ .. وتنص المبادرتان على انسحاب الصهاينة من سيناء كاملة .. مقابل مرو سفنهم فى قناة السويس.. وترك مصر بقية القضية العربية .. وقد رفض عبدالناصر المبادرتين .. وواصل حرب الاستنزاف بضراوة، حيث نجح فى إعادة بناء القوات المسلحة.. وتطوير الكثير من الأسلحة الروسية القديمة .. وإضافة أسلحة روسية حديثة .. وأدت ضراوة وقسوة الضربات المصرية فى حرب الاستنزاف إلى تأكيد كل الخبراء العسكريين والمؤرخين الصهاينة .. على أنها الهزيمة الأكبر فى تاريخهم .

تاسعا: شاركت كل الأسلحة المصرية بقوة فى حرب الاستنزاف وحققت نجاحات كبيرة.. ومازالت بعض عملياتها تدرس حتى الآن فى الأكاديميات العسكرية الدولية.. على أنها العمليات النموذج .. ويصعب بل يستحيل حصر كل عمليات الجيش المصرى فى حرب الاستنزاف فى مقال أو حتى فى كتاب .. ولكننا سنقدم فقط بعض النماذج ومنها :

١- تحولت القوات البحرية المصرية إلى الذراع الطولى التى ألهبت ظهر العدو الصهيونى بالعديد من العمليات العملاقة.. والتى بدأت بتدمير المدمرة إيلات فى أكتوبر ١٩٦٧ .. ثم الإغارة على رمانة وبالوظة بالمدمرتين الناصر ودمياط فى نوفمبر ٦٩ .. ثم دخول ميناء إيلات خمس مرات فى معجزة عسكرية حقيقية نفذتها الضفادع البشرية المصرية.

وتم تنفيذ ثلاث عمليات فى ميناء إيلات.. أسفرت الأول عن تدمير المركبين المدنيتين دهاليا وهيدريما.. والثانية عن تدمير المدمرتين بيت يام وبات شيفع .. والثالثة عن تدمير الرصيف البحرى وقتل ١٤ ضفدعاً بشريا.. ثم عملية تدمير الحفار كنتج فى ميناء أبيدجان بساحل العاج أوائل عام ١٩٧٠ .

٢ - تحولت قوات الصاعقة المصرية إلى أخطبوط يحاصر الصهاينة فى كل مكان ويضربهم بعنف.. وفى مقدمة قوات الصاعقة كانت المجموعة ٣٩ قتال بقيادة الشهيد إبراهيم الرفاعى .. والتى قامت بأكثر من ٩٠ عملية أشهرها عملية الإغارة على النقطة الحصينة فى لسان التمساح .. وعملية الإغارة على مطار الطور أكثر من مرة.. ٣ - تعافت القوات الجوية بعد الضربة القاسية التى تلقتها فى يونيه ١٩٦٧ .. وأثبت الطيار المصرى قدرات فائقة.. حيث استطاع من خلال الطائرة ميج ١٧ .. وهى طائرة قديمة من الحرب العالمية الثانية أن يدك قواعد صواريخ الهوك مرات عديدة.. وبالطبع شاركت صائرات الميج ٢١ بفاعلية كبيرة فى العمليات ضد العدو.

٤ - قدمت المدفعية المصرية دروساً شديدة القسوة لقوات العدو على طول خط الجبهة .. ويكفى ما قدمته مع بداية المرحلة الأخيرة من حرب الاستنزاف .. وتحديدا يوم ٨ مارس ٦٩ حيث دكت المدفعية المصرية على طول خط الجبهة .. كل مواقع العدو شرق القناة لساعات طويلة.. وكأنها تقوم بالبروفة النهائية لما ستفعله بعد ذلك مع بداية حرب العاشر من رمضان.

عاشراً : كل القواعد الرئيسية التى قامت عليها حرب العاشر من رمضان .. وأدت إلى هذا الانتصار العظيم.. تم إنجازها بالكامل خلال حرب الاستنزاف وسوف نكتفى بالتوقف أمام بعض هذه القواعد مثل :

١- مدفع المياه .. تلك الفكرة العبقرية التى استطاعت فتح أكثر من سبعين ثغرة فى خط بارليف العملاق .. فى أقل من ثمانى ساعات .. تلك الفكرة تم إنجازها فى مايو ١٩٦٩ .. وبعد أن قدمها المقدم (اللواء بعد ذلك) باقى زكى يوسف.. وتمثل هذه الفكرة أكثر من ٣٠ ٪ من حجم انتصار أكتوبر .. لأنها جعلت لمصر أكثر من ٨٠ ألف ضابط وجندى فى صباح يوم السابع من أكتوبر .

٢- حائط الصواريخ المصرى والذى قطع الذراع الطولى للصهاينة متمثلاً فى الطيران .. تم إنجاز هذا الحائط كاملا يوم ٣٠ يونيه ١٩٧٠ .. واستطاع هذا الحائط أن يبعد الطيران الصهيونى عن شط القناة لمسافة ١٥ كيلومتراً .. وهى المسافة التى توقف عندها الجيش المصرى قبل صدور قرار وقف إطلاق النار.

٣- الخلطة السحرية التى أغلقت أنابيب النابلم .. تلك الأنابيب التى كان الصهاينة يؤكدون أنها ستحيل مياه القناة إلى بحر من لهب يشوى كل شىء وأى شىء - استطاعت هذه الخلطة السحرية التى تم ابتكارها فى ١٩٦٩ .. وأحالت هذه الأنابيب ليلة العبور العظيم إلى جثة هامدة.

٤- خطة حرب أكتوبر تم تنفيذ البروفة (الجنرال) منها يوم ١٠ يوليو ١٩٦٩ أثناء الهجوم على النقطة الحصينة فى لسان بورتوفيق، حيث كانت النقطة فوق رصيف مرتفع .. والطريق إليها مليئاً بمخلفات يصعب السير فيها خاصة فى ظل حقول الألغام المنتشرة حولها .. ولذلك طلب الرائد أحمد شوقى الحفنى أن يقوم بالعملية نهاراً وأن يتم حساب المد والجزر فى القناة .. ليعبر عند أقصى مد حتى يسهل على الأبطال الانتقال من القوارب إلى الرصيف .. وأن يعبر بقوارب ذات مواتير.. وأن يسبق العبور تمهيد مدفعى كثيف .. وتم التدريب على هذه العملية لأيام طويلة لاحظ خلالها الحفنى أن قوات العدو تختبئ فى الخنادق عند ضرب المدفعية .. ولذلك نفذ خطته كاملة.. وهى نفس خطة حرب أكتوبر التى تمت بعد ذلك بأكثر من أربع سنوات ولم يتغير فى هذه الخطة إلا إضافة الطيران .. فى الضربة الجوية المركزة التى افتتحت حرب أكتوبر.

وقد حاول العدو الصهيونى أن يثأر لإهانته فى لسان بورتوفيق بالإغارة على الجزيرة الخضرا بالقرب من السويس.. ولكنه تلقى درساً شديد القسوة والعنف.. فرغم قلة عدد القوات على الجزيرة وصعوبة تقديم المدد لها .. إلا أن الأبطال الذين كانوا عليها قتلوا وأصابوا العشرات من قوات العدو .. وأسقطوا له طائرتين .. ودمروا له عدة زوارق .. وللمرة الثانية حاول العدو الصهيونى أن يرد على الضربات العنيفة التى يتلقاها كل يوم فأغار على جزيرة شدوان بالبحر الأحمر ليحاول احتلالها وتلقى نفس ما حدث له فى الجزيرة الخضرا .. حيث تعرض لهزيمة كبيرة .. رغم دفعه بأعداد كبيرة من أفضل قواته .. وأمام كل هذه العمليات الكبيرة التى قام بها الجيش المصرى طوال حرب الاستنزاف.. لم يجد العدو الصهيونى إلا الإلحاح على الأمريكان لمحاولة إقناع مصر بوقف إطلاق النار لبعض الوقت .. فتقدم وزير الخارجية الأمريكى وليم روجرز بمبادرته الشهيرة.. وعندما تأكد عبدالناصر من أن الجيش قد أصبح جاهزا تماما لخوض معركة العبور والكرامة .. قبل مبادرة روجرز لمدة ثلاثة أشهر .. لتعديل وضع مواقع حائط الصواريخ استعداداً للمعركة الكبرى.. حيث كان عبدالناصر قد أعلن بعد يونيه ٦٧ مباشرة (أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة) .. ولكن القدر لم يمهل عبدالناصر حيث رحل فى ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠ قبل انتهاء مهلة هدنة مبادرة روجرز..

ولكن ما حدث من بطولات أثناء يونيه ١٩٦٧ .. وطوال حرب الاستنزاف .. جعل الطريق ممهداً ومفتوحاً إلى انتصار العاشر من رمضان لتتعانق الإرادة المصرية الجبارة مع هذا الانتصار العظيم.