الثلاثاء 30 ابريل 2024

عن تُهمة عميد الأدب العربي حينذاك!

مقالات16-11-2021 | 12:41

 مَرت علينا ذكرى ميلاد عميد الأدب العربي دكتور طه حسين يوم الخامس عشر من نوفمبر الجاري، وهنا تذكرت موقفًا عانى منه الراحل في أربعينيات القرن الماضي حينما تولى رئاسة التحرير في مجلة (الكاتب المصري)، تلك المجلة التي صدر العدد الأول منها في أكتوبر عام  1945 بعد إعلان تأسيس شركة (الكاتب المصري) شركة مُساهمة مصرية من سبعة أشخاص من (آل هراري)؛ هذه العائلة المصرية اليهودية القديمة والتي كانت لها بصمة كبيرة على الاقتصاد المصري في ذلك الزمان، وقامت المجلة تحت شعار إحياء الأدب والثقافة العربية القديمة وتقديمها للقارئ بصورة مُبسطة .

وهنا قامت الدنيا وانفتحت جهنم بلهيبها في وجه د. طه حسين؛ ما بين إتهام بالعِمالة للصهيونية وبين الانحياز لليهود بتلونه وبعدم الإفصاح عن عدائه لهم وسط  بدايات صراع عربي إسرائيلي فَضَّل العميد عدم إقحام نفسه بصفته كأديب في السياسة؛ مُكتفيًا بمقالٍ واحد في يونيو 1946 يحكي فيه تفصيليًا عن رحلته إلى لبنان على مَتْن باخرة تصادف وجود ما يزيد عن ألف يهودي مُهجْر عليها كرفقاء له في الرحلة مُعظمهم من النساء والأطفال، وصف د. طه حسين الجو العام للرحلة مُبديًا التعاطف الإنساني للطرفين؛ من حالة يُرثى لها يعيشها هؤلاء المُهاجرين وكاشفًا عن مشاعر الحزن على أهل فلسطين الذين لم يُستشاروا ولم يُستأمروا لإيواء هؤلاء الوافدين مع التشديد على نقطة وجود أوطان أخرى كثيرة في العالم قادرة على احتوائهم، تلك الجملة الأخيرة حُذِفَت من كل مقالات النُقاد وغض الطرف عنها كل مُهاجميه عن عَمد في حملة مُمنهجة تزعمها الكاتب إسماعيل مظهر -مدعوماً من الإخوان المسلمين وحزب مصر الفتاة - في مقال نُشر في يناير 1947 مُتهمًا إياه بالعمالة للحركة الصهيونية! وتضامن معه في تمزيق جسد د. طه حسين الكاتب (عبد المنعم شميس) ولم يدافع عنه في تلك المعركة سوى الشاعر العراقي (محمد مهدي الجواهري) في مقالٍ طويل أعيد نشره بإلحاح في جريدة البلاغ المصرية.

لم يجد طه حسين بدًا من إقامة حوار مع جريدة (دار الهلال) وقتها وسألته الصحفية :يقولون أنك تعمل على مساعدة الصهيونية، وبتعقله وحكمته رد عميد الأدب العربي : "ليت الذين يذيعون هذا الهراء يستطيعون أن يُبْلوا في خدمة العروبة مثلما أبليت. ليس أدل على أنني أُساعد الصهيونية من أنني أُحيي الأدب العربي القديم، وأنشر كل ما يتصل بعلوم القرآن الكريم، فأي مساعدة للصهيونية أقوى من ذلك؟!"

وبعث العميد برسالة نشرتها البلاغ الفلسطينية للكاتب (خليل شطارة) قائلاً: "فأما الشائعات فمصدرها المنافسة التجارية من ناحية والضغينة السياسية والحسد البغيض من ناحية أخرى وخلاصة القضية؛ أن سبعة من اليهود المصريين اشتركوا في عمل تجاري صرف قوامه لنقل الأدب العربي القديم إلى أوروبا ونقل الجيد من الآداب الغربية إلى لغة الضاد وطلبوا أن أكون مُشيرهم وبعد البحث والاستقصاء تأكدت كونهم بُعاد كل البعد عن الصهيونية ولعل الأيام تتوالى ويُدرك رامي التهم بالبهتان والزور مدى نفع تلك المجلة لخدمة القضية الفلسطينية".

ليس أدل على كلام د. طه حسين من رأي (حاييم وايزمان) ؛عندما جاء إلى مصر مُداعبًا مواطنيها اليهود وتصريحه الذي أعرب فيه عن إحباطه كونه لم يجد أي دعم أو حماسة من اليهود المصريين حيال وعد بلفور وعلى رأسهم عائلة هراري التي رفضت التعاون وظلت على موقفها في مُحاربة الصهيونية حتى مغادرتها قصراً مصر.

كان يكتب في تلك الجريدة قامات كبيرة منهم : (أحمد نجيب الهلالي، توفيق الحكيم، محمد كامل حسين، سلامة موسى، محمود تيمور) ومن الكُتاب الشُبان حينئذٍ: سهير القلماوي ويحيى حقي ولويس عوض ورشاد رشدي وسيد قطب! ومن مُثقفي العالم: أندريه جيد، وجان بول سارتر.

الخُلاصة سرعة إطلاق الأحكام على الكُتاب والأدباء آفة نعاني منها منذ زمن وحتى يومنا هذا ؛ تكاثرت في العدد القليل من السنوات الماضية ؛ في ظل ظهور بعض الكُتب والروايات التي احتوت أبحاثاً في تاريخ اليهود كمواطنين مصريين منذ عهد محمد علي وحتى خروجهم منها في خمسينيات القرن الماضي ؛استعرضت تلك الكتابات حقائق خاصة بحيواتهم وتعدد مذاهبهم ودعمهم لاقتصاد البلد الذي ينتمون إليه من يهود قُرائيين أو ربانيين، ووجدنا أصواتاً تعلو بحُرمانية المساس بتلك المنطقة الهامة في التاريخ المصري مُتهمين الكُتاب والكاتبات بالعِمالة ودعم التطبيع والسعي لتجميل صورة اليهودي رغم كون ذلك الأخير كان مواطنًا مصريًا يتمتع بكافة الحقوق والواجبات خرج من وطنه لظروف سياسة المنطقة، وغَفِل هؤلاء عن كون مصر دولة مواطنة ليومنا هذا وشعبها حاضن لكل الأديان وكان وسيظل مُعاديا للصهيونية، فكانت تُهم عصرنا كتُهمة عميد الأدب العربي حينذاك ولا نملك سوى الرد على تلك العقول السطحية سوى بإجابة د. طه حسين وهي "اكبحوا جماح المنافسة والضغينة والحسد البغيض".

Dr.Randa
Dr.Radwa