السبت 23 نوفمبر 2024

مقالات

«سيدي أبو الحجاج»

  • 28-11-2021 | 14:30
طباعة

كان والدي أستاذا جامعيا متخصصا في مجال الاقتصاد الزراعي، وكان محبا لبلده حتى الثمالة، وَرِث هذا الحب الخالد أبا عن جد .. وورَّثه لنا، كما ورثنيه معه وأكده في عميق وجداني أستاذي ومؤدبي فضيلة العلم الصوفي الكبير الإمام محمد زكي إبراهيم والذي كانت نبضات قلبه تنبض بحب مصر، وكان مما حدثني به والدي أنه باستقراء التاريخ وجد أن ثمة دورة للحضارات مقدرة، فالحضارات تبلغ أوج مجدها ثم تضعف وترثها حضارة أخرى ويظل الحال كذلك.. حضارة ترث حضارة، تموت تلك فتقوم الأخرى، لكن بحكم دورة الحياة - والتي قد تطول وتستغرق قرونا - تعود الحضارة الأولى لعلوها من جديد، فكنت أقول في نفسي تُرى هل سيتيح لي القدر أن أرى مصر تتربع على قمة الدنيا من جديد وتستعيد ما كانت عليه من حضارة وأبهة وتعود كما نصفها في أغانينا (أم الدنيا) مرة أخرى ؟؟ .. ويبدو أن الله بكرمه نظر برحمته لهذا الصغير وعطف على نية هذا القلب البريء وأجابه ليرى بعيني رأسه بلده عروسا حسناء في عُرس ما أبهاه، عروسا بكرا هزها الطربُ فتبخترت فرحة نشوى .

 

فلقد تتبعتُ بكل فخر - كأي مصري محب لوطنه - احتفالية الأقصر الباهرة المبهرة، وأرضاني أيما رضا هذا المجهود الجلي الواضح، وهذا العرض الفائق الروعة، وهذا الإخراج المتقن الخالي من أي خطأ أو سهو، وفرحت ببلدي، وفرحت بنظرة الفرح في عين رئيسها الوطني الغيور الصادق، لقد رأيت في عينه سعادة الفلاح عند حصاده نتاج ما غرس وتعب وعرق، شعرت به أثناء الاحتفال وهو يستمع لكلمات الإنجاز على لسان هذا الوزير الشاب الجاد الخلوق، شعرت به وكأنه يخاطب مصر ويتخيلها أمَّاً في شموخها، وهذا الابن البار يرتمي في مهدها ويقول لها أتراني وفيت لك بعهدي وأنجزت لك وعدي، وصدقت قسمي معك أمام الله ؟ والله يا أمي لا يزال لك عندي الكثير يا أماه يا محبوبتي، فلا تحرميني دعاءك أمي فبينك وبين ربي عمار يا مذكورته في أعظم كتبه، فسليه أن يوفقني لتأخذي مكانتك وتتمكني من ريادتك، وتستعيدي أمجادك، فربي ما خذلك يوما ولن يخذلك يا طيبة وربي على كل شيء قدير .

 

ثم لفت نظري ذكر سيدي أبي الحجاج الأقصري الحسيني نسبا والمتوفى في ٦٤٢ هجريا، والذي فرض نفسه نجما من نجوم هذه الاحتفالية، ولعلها من كرامات الصوفية فأنا أؤمن ببركاتهم ولو بعد موتهم، فسيدي أبو الحجاج قطب صوفي مُجمع على فضله وولايته عند الصوفية وكان معاصرا لسيدي العارف بالله عبد الرحيم القنائي وسيدي أبي الحسن الشاذلي القطب الصوفي المعروف ذي الصيت المنتشر ساكن الوادي المبارك (حميثرا) في صعيد مصر الأقصى هذا الوادي الذي يعرفه كل صوفي وتأتيه الزوار من كل مكان لما يلتمسونه فيه من حياة روحية وفطرة خصبة لا يجدونها في سواه .

  

  ولقد أطربتني لفتة (سيساوية) حينما لفت الرئيس الفَطِن نظر محدثه أثناء سيره معه وحديثه عن مسجد سيدي أبي الحجاج وكيف أنه داخل المعبد الفرعوني !!، وجدرانه بعضٌ من جدران المعبد بزخارفها الفرعونية فقال له الرئيس (و لم يطمسها أجدادنا وصلوا أمامها لله) إشارة من الرئيس يتدبرها مَن يتدبرها .. مفادها أن الإسلام يستوعب كل الحضارات ويزكيها ويضيف عليها بصمته الخاصة، ويصبغ عليها كريم دعوته وسعة أبعاده، فهو مثال للحضارة الأم التي تضم أبناءها، ونموذج للخلافة الحقة التي خلق الله آدم ليتقلد عرشها، تلك الحضارة التي تحترم ما يتفق مع رسالتها السامية وتوحيدها الخالص لله، وعمارة الأرض، وتستوعب ما يخالفها وتكيفه تاريخاً قدره الله وقع تحت بصره، وقد أمرنا الله أن نسير في الأرض ونشاهد هذا التاريخ المجسد وتلك الأثار الباقية ونحافظ عليها ونقيم أصحابها، ولا نهدم هذا التاريخ فهو لبنة في صرح الحضارة الإنسانية، نأخذ منها العبر والحكم ونستمتع بما وصلوا إليه لنضم الماضي للحاضر نحو مستقبل تتسامى فيه الإنسانية.

 

فالإسلام واسع الأفق عميق الفكرة، يقدر الحضارات السوابق ثم تأتي بصمة تلك الحضارة الأم فتقيم الصلاة في المعبد، غير هيابة أن تدخل النقوش بين المصلي وربه فتشوش عليه صلاته بعد أن اطمأن القلب بالإيمان بل لعله يأخذ منها الدروس والخبرات، ما أعظم ما جاء به الرسل فكلهم من شجرة واحدة تتدلى غصونها وتطيب ثمارها، وما أكرم وأجل وأكمل صاحب الكلمة السماوية الأخيرة خاتمهم سيدنا محمد ﷺ الذي ربى صحابة كراما فتحوا مصر لينقذوا أقباطها المسيحيين من ظلم الرومان لهم، فلما فتحوها وجدوا أهرامات ومعابد، بل وكنائس وأديرة فلم يهدموها، بل بنوا بجوارها أول مسجد عرفته القارة السمراء (إفريقيا) مسجد عمرو بن العاص وعاش المسلمون جنبا إلى جنب مع غيرهم، عاشوا جيرانا وأحبابا مسالمين، يقولون للناس حسنا، يودون ويقسطون ويجاملون، ولما كان ديننا لسعته يسمح بالزواج من الكتابيات صاهروا أهل الكتاب فتناسل منهم أجدادنا المسلمون أصول هذا البلد العظيم ذي المقام الكريم، لقد كان الحب والسلام وحسن المعاملة ديدنهم، فلما وجد الناس منهم طيب المعشر دخلوا طواعية في دين الله أفواجا إذ وجدوه يتفق مع الفطرة التي فطر الله الناس عليهم.

 

كل هذه المعاني بذرها الرئيس في كلمة يسيرة أثناء سيره، أُلقيت في قلبه الواعي المحب من إشارة هذا المسجد المبارك الذي يضم مرقد هذا الصوفي العظيم الذي يمثل فهما صحيحا لسعة هذا الدين الخاتم، ومن عجب أن مسجد شيخ أبي الحجاج وهو سيدي عبد الرزاق المجاور لمسجد النبي دنيال القريب من شارع فؤاد بالإسكندرية هو الآخر في حضن أحد معابدها تأكيدا لهذا المعنى الكريم الذي أشار إليه الرئيس السيسي في عبارته العابرة.

 

وختاما.. تحيا مصر، وحفظ الله رئيسها وشعبها.. ومدد يا أبا الحجاج.

 

المستشار/ أسامة محمد زكي

رئيس محكمة الاستئناف بالإسكندرية

الاكثر قراءة