الأحد 16 يونيو 2024

حوائط ضيقة

20-6-2017 | 17:04

محمد عطية محمود - كاتب مصري

تتباعد من حولك حيطان الغرفة..

تتناءى الثلاجة التي تجاور الباب المغلق. تملؤها أصناف كنت تشتهينها كثيرا.

يبدو لعينيك الدولاب الذي يشغل عرض الحائط المواجه لك، عريضا، هائل الارتفاع. تسكن جوفه، وتغيب فيه أثواب متعددة إلى جانب أثوابك القديمة، شنطتك الجديدة إلى جوار الأخرى القديمة والأحذية، فروشات لسريرك المفرد، الذي يتعملق ويتسع عرضه وطوله حول جسمك المتمدد عليه. تغرق فيه أعضاؤك.. تتكوم. تتدلى منه نظراتك لتخترق أرضية نقوش السجادة الجديدة. تحول في عينيك ألوانها وتتداخل.

"هل ينفتح عليك الباب الآن؟!

أم بعد قليل؟ أم مساء؟ غدا؟ أمْ.....؟

هل تطل عليك ـ الآن ـ نظرات متلصصة من خلف الباب؟ أمْ أن الصالة المكتنزة خارج الباب، لا يجتازها إلا من اضطرته الحاجة لولوج الحمام الخارجي، الذي يغنيك عنه الحمام الخاص الملحق بالغرفة من الداخل؟

تتوالى عليك وجوههم الخارجة من بين ثغرات الألوان، بعتمة السجادة؛ فيدهم سمعك صوت أبيك الخاشع بتراتيله، ومسبحته الـ "يُسر" المتدلية من يمناه الطرية، وتمتمة أمك البيضاء حليبية البشرة، تركية الأصل.

لم لمْ تتلون بشرتك الغامقة بلون بشرتها وتتحلى بصفاء عينيها العسليتين المائلتين إلى الصفرة؟!

ترتجفين لصوت أبيك رغم حنانه.. ترن في جوفك كلماته الحزينة:

"هل صرت كما صار الزرع اليابس؟"

يتردد السؤال. يهتز له جوفك. تئنين؛ فيعود يهدهدك هديل صوت أمك. تتوعد آلامك بالويل. تدعو على من جافاك. ثم يخفت صوتها. يتوارى خلف صوت أبيك، ويندثر.

يتمدد طيف أبيك ليحتل كل السجادة. يغطيها. تبتلعه أنحاؤها التي اتسعت، لتتشرب به. يفوح أريجه في أنفك. يتخلل روحك.

ترتجف شفتاك.. تزومين. تولين وجهك نحو الشرفة التي خلف رأسك، والتي تغزوها الشمس بأشعة غاضبة تلسع طرف السرير، وتنعكس على عينيك الصامتتين، ولا تجفلين!!

"هل يرن الهاتف الآن؛ ليصلك بالبهو الرئيسي للنُزل؟

ترى لو رن؛ فمن الذي سيطلبك؟ هل اتصل بك أحدٌ من الخارج؟!

أمْ ربما كانت عاملة النظافة تستأذنك للدخول لتغيير فراش نومك، وأخذ المتسخ منها لغسله، وأنت لا تحتاجين لغسلها إلا كل فترة. عموما ابتسامتها تكفيك للحظة!

أمْ يحين موعد الغداء ـ الذي لا تسمعين سارينته ـ فيذكرونك بالهاتف برنينه الزاعق، ثم يندفع الباب بعد فترة؛ لتدخل صينية غدائك تحملها العاملة البدينة التي تقاربك في السن والطول، وربما الملامح ـ بالرغم من بدانتها ونحافتك ـ وربما حدثتك عن حيرتها في شأن إعداد غداء أبنائها المنتظرين لها في بيتها؟! وربما لوّت فمها في وجهك، وتركت الوجبة أمامك، ومضت صامتة!".

تلسعك برودة الأجسام الباردة التي تتسرب نحوك، كما يتسرب النمل الأسود من شقوقه غير المرئية بالغرفة ويقض مضجعك. تستحل عذابك، لكنك لا ترين منْ بين منْ وقفوا يتفرجون عليك، إلا صاحبة الوجه الشحمي الغارق في صفرة مذمومة والبدن المترهل من خلف ستائرها المحكمة. لكنك تشتهين دوما رؤيتها.

"ترى هل تأتي لتطفئ نار حقدك عليها؟! وتستجلب رحمتك الواهية؟

أمْ تأتي كي تتشفى فيك، بعد أن لفظتك وأشياءك القديمة من حضنها..

ترى أين هي الآن؟

أتتنعم مع الذي احتل مكان من كان لك عائلا بعد الراحلين؟!

أم ترفل في ثوب حكته أنت لها بدموعك وحزنك الغض وإرث من كانوا لك ورحلوا، وحنانك على سلطتها الصارمة عليك، وتلذذك أنت بعذابك؟

ترى هل تربت على كتفك الآن يدها.. كي تستعيدك؟

آستوحشت عذابك؟ أمْ أن الرحمة قد تسربت إلى قلبها المعدوم؟!

يهتز رتاج الباب أمام عينيك. تختفي كل الوجوه. تضيّق الغرفة عليك حيطانها. ربما عادت كما كانت. تتوالى النقرات، وأنت تنتفضين. تفردين جسدك. تقفزين المسافة بين السرير والدولاب بقفزة واحدة. يتقافز معها صدرك لاهثا. تتراءى لك وجوه تخمنين وقوفها خلف الباب، تنتظر رؤيتك. تتهيأ البسمة لتنبثق من شفتيك. يخرج صوتك واهنا ممطوطا:

ـ لحظة واحدة.

يهتز الصوت الماثل أمام الباب. يرن صداه في أجوائك. يتراجع خطوة للوراء. تحتمي نظراته المرتبكة بسقف الصالة حال اصطدامه بملامحك الغريبة عليه:

ـ عفوا.. جئنا لزيارة نزيلة الحجرة المجاورة!