الأحد 16 يونيو 2024

رواية "الرق".. الإيهام وكسر الحاجز بين الواقع والمتخيل

21-6-2017 | 10:57

انتصار عبدالمنعم - كاتبة مصرية

 أفلح الروائي محمد نصر في روايته "الرق" في كسر الحاجز بين الواقع والمتخيل، وأضاف الغيب المتوهم إلى الواقع، ثم تحرك بينهما برشاقة ليكتب رواية تحمل سمتها السيري من جهة، ومن جهة أخرى تحمل سمتها الروائي القائم على الإيهام في الأساس. فالأخوة بأسمائهم "محمد، وممدوح، وماهر" موجودون، ومجتمع القرية الذي يصفه. وكل هذا ولد لدى القارئ دهشة قد تدفعه، بلا وعي، ليطلب من الروائي الكشف عن يده اليمنى ليرى هذا الوشم للمسجد متعدد الأبواب، واليد اليسرى ليرى وشم الحسناء العارية. ذكر هذبن الوشمبن على ذراعي شخص من شخوص روايته. ولكن هل يكفي هذا الجزء السيري الواقعي الذي نصدقه عن معرفة بالواقع كي نصدق الجزء الباقي؟ أم هي محاولة من الكاتب لإيهام القارئ ودفعه لتصديق كل ما جرى ودار له منذ أن كان غيبا حتى صار جسدا من لحم ودم على أرض المعاناة والسيوف الحادة؟

    الإيهام في "الرق" قائم على تجاوز تجربة الواقع، أو تنظيم الواقع المبعثر، ولذلك تختلط الحقيقة مع الخيال، مما يتطلب حالة خاصة من الوعي لدى القارئ. فالرواية لا تعطي نفسها بسهولة، بل تتمنع وتتشعب مع كل فقرة، تجبر القارئ على فك التراكيب محاولا فهم الارتباطات بين كل قسم فيها، وتفسير الإشارات والإحالات والرموز والروابط بين ما تواتر من حكايا تاريخية ذكرتها الكتب المقدسة وإسقاطاتها على الواقع، وكل ذلك بمرونة انتقل فيها الكاتب من سرد للواقع إلى الإخبار عن الغيب المضمر أو المستقبل المتخيل مستعينا بتقنيات الاسترجاع والاستباق، في دمج مدهش للقصص القرآنية مع أسفار العهدي القديم والجديد وما تواتر من قصص وحكايا العامة وكبار السن. وظهر جليا مدى تأثره بالفكر الصوفي وتيم الارتقاء والقرب والتجلي، في دفقة شعورية متصلة وكأن الرواية قصيدة طويلة بطول العمر، قصيرة المدى كمسافة القرب للعاشق الذي بلغ أسمى درجات القرب والتجلي. وهذا ما جعل المؤلف يلجأ إلى وضع فواصل غيبية بين فصول الرواية للتأكيد على البعد الروحي الذي قامت عليه روايته، ولخلق حالة من الدهشة قائمة على كسر حاجز الرتابة والتعود على الأنماط المتداولة في السرد الروائي.

    تبدأ الرواية بالحكاية كمفتتح غيبي، كسر به الحاجز بين الأضداد والمتناقضات بين الرحابة ومحدودية المسافة، بين البرودة والسخونة المنبعثة من "الركية" المتوهجة نارا، بين الحلم والواقع، بين النور والعتمة، بين القداسة والدنس، وكل ذلك في رحلة البحث عن الذات أو الأنا. فالجدة تجمع بين الخرف والحكمة، بين الاحترام والتقديس والامتهان، فهي الحكيمة التي تتحدث عن (قدر) كل إنسان أو ما أشارت إليه بكلمة "ورقة "التي ربما تشير إلى قوة علوية أو منزلة ما يتم الارتقاء إليها عن طريق وسيط، في ذات الوقت الذي لا تأبه فيه لما يتكشف من جسدها بعدما وصلت إلى عمر فقدت فيه الشعور بعار التكشف، لتعود إلى فضيلة عري الميلاد وبياض الذاكرة.

   توهم الرواية القارئ بأن بطلها "محمد" سيرتقي سماوات سبعا، وفي كل سماء سيقص عليه ما يرى، وقبل أن يبدأ هذا الصعود المتوهم، يتحدث الروائي عن "السدرة"، ويصف شجرة توت عقيم، ترمز إلى "أرض الميعاد" التي تتأرجح علاقته بها بين الحب والكره، فهي تمنح من لا يستحق، وتسحق من يهواها. الشجرة هنا ترمز إلى الوطن الذي يرحب بالغرباء و"لا يقف عليها إلا الغربان...يصعد عليها آلاف الآلاف من الجراد ولم تحاول يوما منعهم بل تتمايل أغصانها فرحا بهم".

   في كل فصل سرد لرحلة البطل في الحياة، باستخدام مفردات تحيل إلى رحلة الإسراء والمعراج، حيث يرتقي طبقا تلو طبق مستفتحا بكلمة سر تأتي تكريما للفقراء: "باسم من جعل الفقراء عيالا له". ومن الملاحظ أن الكاتب يلجأ إلى الإيهام بالصعود متنقلا بين سماواته، بينما الرحلة على امتداد الأرض، فيذكر قصة من قصص الظلم واستيلاء أحدهما على أرض غيره، ويقرر أنه لا بد من المقاومة لاسترجاع الحقوق المسلوبة، فإذا بدأ المظلوم ثورته، فإن كل الوجود يستجيب له.

   وفي رحلته إلى (السماء الأولى)، يستمر الإيهام بالصعود: "حتى أحسست أنني لم أصعد وأن سمائي الأولى هي ما كنت أعيش فيه.. كل الأشياء يغطيها الجمال، الأرض متسع أخضر رياض وأنهار تلال وجبال تظهر على البعد الخضرة بدرجاتها تغطي الأرض، ولا أثار لبيوت أو بشر" ولكن رغم هذا الجمال، فأهله لا يستشعرونه من جو القهر الذي يلفهم، فهم ضحايا القهر والذل، مثل يرقات فراشات محبوسة داخل شرانقها. فيرى الصاعد "محمد" رجالا أسارى داخل يرقات كبيرة يحاولون تنسم الهواء لبرهة، يعاودون بعدها إلى سجونهم. "فأجد واحدة بداخلها رجل يحاول أن يقطع بعض خيوطها بيده وحين ينجح في ذلك يقطع الخيوط التي تغطي وجهه ثم يرفع رأسه ليتنسم طيب الهواء ويدخل مرة أخرى ليستسلم لتلك الخيوط التي تتشابك عليه مرة أخرى".. وهذا حال كل اليرقات الأخرى التي بها أناس يحاولون الخروج أيضا، بينما لا يُسمح لهم بمساعدة خارجية من أحد. ورغم حالة الإيهام تلك، فإنه بين الحين والآخر، يؤكد على كونه يتحرك أفقيا على الأرض نفسها، ولم يرتق رأسيا نحو السماء، فيصف السجون التي سيرد ذكرها لاحقا حين يسألونه لماذا جاء، فيجيب لأنه رفض معاهدة الاستسلام والذل، كذلك وصفه للمذلة التي يستلذ البعض بها طلبا للسلامة: "يحبو الواحد منهم كثيرا ثم يقف ليمشي خطوتين، ثم يعود ليحبو على يديه ورجليه، ويتساءل مستنكرا: لماذا يحبو الناس وهم يستطيعون المشي؟" ثم يلعنهم لتخاذلهم واستسلامهم، وهذا ما أورثهم ذل السيوف المسنونة التي رأى الناس يمشون عليها في السماء الثالثة حين أصبحت الأرض سيوفا مسنونة طول ضلعها السموات والأرض والناس تمشي على تلك السيوف. هي الحياة بتفاصيلها الخاصة والعامة، مكابدة قاصمة فرضت عليه، وعليه أن يواجهها بمفرده، فهي سنة الحياة التي لا تعطي الإنسان ما يريد ولا ما يشتهي كما شاهد في السماء الرابعة: "يأكلون ما لا يشتهون ويمنعون أنفسهم عما يشتهون، تبدو رغباتهم كبريق في أعينهم سرعان ما ينطفئ. أجساد نحيفة يظهر عليها الإعياء، يتمنون ولا يطلبون، يعيشون بين رجاء ويأس".

    و"محمد" صاحب الرحلة، واحد من الذين طحنتهم الحياة، وضيقت عليهم خيارات النجاة. ولذلك يعيد بعث الأجداد الذين كانوا سترا وغطاء لا يلتفتون لعري بعضهم بعضا، قدر تقديرهم للآخرين ولذلك كانوا في السماء الخامسة حيث مقام القرب من ورقة النور، بينما هو تائه بين ظلمة النفس، والوحشة، يكابد الظلام والوحدة من أجل الوصول إلى مقام التجلي "الحرية". ولكن إرادة الوصول تأخذ بيد المريد لا بيد الحالم، فمن يريد تغيير واقعه المظلم عليه أن يركض نحو النور، لا أن يقبع في الظلام لاعنا له. وتأتي المكابدة في قصة الميلاد، ومكابدته للحياة التي يسوقها في ورقات خمس تحمل قصة حياة "محمد" منذ الميلاد جسدا ثم روحا عبورا إلى لحظة الفراق للعالم والتوحد مع النور الداخلي.

    وفي وصفه لميلاد بطل الرواية "محمد" يلجأ الروائي إلى عدة إيهامات، يوظف فيها بعض آيات الإنجيل والقرآن معا بصورة مدهشة، فالقابلة تضحك وتقول مفسرة لضحكها: "رأيته نازلا من فوق من عند السحاب ونور القمر يغطي جسمه بين زوجين من الحمام الأبيض يمسكان غصنا من زيتون وصوت حلو من بعيد يقول: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" وهكذا وظف الكاتب قصة الطوفان، عندما أرسل "نوح" زوجا من الحمام ليستشكف الأرض، فرجع إليه حاملا غصنا من زيتون، فعلم أن الأرض أصبحت مهيأة لاستقباله. وأيضا وبصورة مدهشة وظف آيات من الإنجيل في السياق، وخاصة "إنجيل متى" الإصحاح الثالث: "وإذا السّماواتُ قد انْفتحتْ لهُ، فرأى رُوح الله نازلا مثْل حمامة وآتيا عليْه، وصوْتٌ من السّماوات قائلا: هذا هُو ابْني الْحبيبُ الّذي به سُررْتُ". ولكن بدلا من البشارة بميلاد "عيسى" وفقا للإنجيل، أصبحت بشارة بميلاد "محمد" صاحب رحلة الصعود في الرواية. إلى جانب استخدام آيات من القرآن كمفتتح لبعض الفصول.

   وفي الفاصل الغيبي يستعير قصة خلق الكون والمخلوقات من سفر التكوين عن قصة خلق العالم في سبعة أيام. ولكن باختلاف جوهري، فالله سبحانه وتعالى في "سفر التكوين" استراح في اليوم السابع بعد أن أكمل مهمة الخلق على أكمل وجه، ولكن هنا في اليوم السابع في الرواية اكتشف المخلوق أنه مسير لا مخير، وأن ما فعله كان عن إرادة من هو أقوى منه لا عن اختيار منه. هي إذن قصة حياة الإنسان من قبل الميلاد والانتباه إلى أنه يعيش ما لا يختار، ويركض وراء ما لا يستطيع إدراكه.

   ورغم كل ما سبق، فإننا نكتشف أننا وقعنا في شرك الايهام الذي نصبه لنا "محمد نصر" في "الرق" منذ البداية التي حاول أن يتملص فيها من إيحاءاتها السياسية، ليأتي متن السرد ليشي بها رغما عنه عندما يتحدث عن عذاب الآخرة، فنجد أسئلة لا توجه إلا لسجين سياسي، ولكنه يغلفها بغلالة صوفية، حتى إنه حين يتحدث عن تيمة المقاومة، يسوقها من خلال مقولة ابن الرومي "من ركب المخاطر نجا، ارفع رأسك للسماء تجد ما يسرك".