الثلاثاء 18 يونيو 2024

أنا وعصفور التنوير

إبراهيم خليل

ثقافة11-2-2022 | 17:59

د . إبراهيم خليل إبراهيم

خلال دراستي الثانوية والجامعية حرصت على شراء مؤلفات الكاتب والمفكر والباحث الدكتور جابر عصفور، وتزخر مكتبتي بالعديد من مؤلفاته، في عام 2000 بدأت في نشر مؤلفاتي بعد أن تقدمت إلى اختبارات الإذاعة المصرية، ونجحت مذيع تنفيذ لإحدى الإذاعات الإقليمية، لكن أمي رحمها الله، رفضت الذهاب معي، ولذا اعتذرت عن الوظيفة، وذات يوم تقابلت مع الدكتور جابر عصفور في مبنى الإذاعة والتليفزيون وجلسنا معًا وتحدثنا في موضوعات كثيرة، فإذا به يقول : أنا متابع كتاباتك وأحاديثك عن الوطن والأبطال والشهداء وهذا من الأعمال العظيمة لأنك بذلك تعد من حراس الوطن والهُوية الوطنية، فأنت شريك معي في التنوير، ثم طلبت الجلوس معه في مكتبه، وفي الموعد المحدد كنت معه، وجلسنا ساعات وساعات ثم قال لي : كيف وصلت إلى صائد الدبابات العالمي ورفاقه من صائدي الدبابات وأيضا الشهيد الحي وأول شهداء القوات المسلحة من الجنود في معارك أكتوبر 1973؟ فقلت : صائد الدبابات العالمي البطل محمد المصري الذي دمر 27 دبابة إسرائيلية من شنبارة منقلا مركز ديرب نجم بمحافظة الشرقية وأنا من الشرقية وحصلت على تليفونه وطلبته وجلسنا معا وسجلت بطولاته في كتابي "قاهر الدبابات" ورفاقه الأبطال عبد المعطي عبد الله عيسى الذي دمر 26 دبابة كان معه على جبهة القتال وعرفني إليه، والبطل محمد عبد العاطي من شيبة قش مركز منيا القمح بالشرقية، والشهيد الحي عبد الجواد سويلم من الشرقية ويعيش في الإسماعيلية، وعرفني إليه البطل محمد المصري وأول الشهداء من الجنود من سنديون بالقليوبية، وتقابلت مع شقيقه أحمد وكتبت عن كل هؤلاء.

كان الدكتور جابر عصفور يستمع بإنصات شديد والفرحة في عينيه، ثم قال: أنا لاحظت أنك تكتب أيضا النقد والفن والشعر والقصة بالتالي فأنت الأديب الشامل، فقلت : شهادة أعتز بها .. ثم قال : سمعني قصيدة من أشعارك فقلت:
يا صاحبى....
يا حاسس بأحوالى 
يا نبض الروح
 فى موالى 
احترت أنا فيك 
وإزى أراضيك؟
وأنا باقي عليك 
أنت يا غالي 
يا صاحبي....
يا رفيق كفاح عالٍ
تعال أفكّرك تاني...
اللقمة زمان.... 
قسمناها
والفرحة كمان .... 
حضنّاها
والدمعة اللي على خدودنا ...
بإيد واحدة مسحناها 
والغربة اللي على جبينّا 
فى حب بلدنا خُضناها
وكلمة مصر فـي ضلوعنا
ما جينا فـي يوم نسيناها
وكلمة مصر فـي قلوبنا
فى عز الشدة صُناها.

خلال إلقائي هطلت دموع الدكتور جابر عصفور على خديه، وبعد أن انتهيت من الإلقاء احتضنني، وبعد ذلك كنا نتحدث معًا بين الحين والآخر،
 وصباح يوم الجمعة 31 ديسمبر 2021 بكيت بشدة نظرًا لوفاة الدكتور جابر عصفور رائد التنوير والقيمة التي ساهمت في تشكيل وجداني.

الكاتب والمفكر الدكتور جابر عصفور من مواليد 25 مارس عام 1944 في المحلة الكبرى بمحافظة الغربية، وحصل على الليسانس من قسم اللغة العربية بكلية آداب جامعة القاهرة بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف عام 1965 والماجستير بتقدير ممتاز عام 1969 والدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى عام 1973، وعمل بالسلك الأكاديمي بكلية الآداب جامعة القاهرة منذ عام 1966 حيث عين معيدًا بقسم اللغة العربية بالكلية وحصل على درجة مدرس مساعد ثم مدرسا في 18 يوليو 1973 وأستاذا مساعدا زائرا للأدب العربي بجامعة ويسكونسن ماديسون الأمريكية عام 1977، وأستاذا مساعدا بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة اعتبارًا من 11 أكتوبر 1978 عمل أستاذًا زائرًا للنقد العربي بجامعة ستوكهولم بالسويد وعين أستاذًا للنقد الأدبي بقسم اللغة العربية بكلية الآداب القاهرة، وأستاذًا معارًا ثم عميدًا مساعدًا بكلية الآداب جامعة الكويت وترأس قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة من 19 مارس 1990 إلى فبراير 1993 ثم أمين عام المجلس الأعلى للثقافة اعتبارًا منذ 24 يناير 1993 حتى مارس 2007 وفي 31 يناير 2011 عين وزيرًا للثقافة خلفا للوزير السابق فاروق حسني، واستقال من وزارة الثقافة يوم 9 فبراير 2011 لأسباب صحية، وكان وزير الثقافة للمرة الثانية من يونيو 2014 حتى نهاية فبراير 2015.

الدكتور جابر عصفور كان عضوًا في لجان جوائز الدولة التشجيعية وجائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي بالكويت وجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية بالإمارات والمجلس القومي للمرأة ولجنة الدراسات الأدبية واللغوية بالمجلس الأعلى للثقافة وعضو المكتب التنفيذي بالمجلس القومي للمرأة منذ تأسيسه ولجنة الآداب والدراسات اللغوية بمكتبة الإسكندرية منذ تشكيلها، ومدير المركز القومي للترجمة منذ 28 مارس 2007 وعضو اتحاد كتاب مصر ومجلس إدارة جمعية النقاد بالقاهرة.

وشارك عصفور في عشرات من المؤتمرات والندوات التخصصية داخل وخارج الوطن العربي منها مؤتمر الدراسات العربية بالولايات المتحدة ومؤتمر طه حسين بجامعة القاهرة ومؤتمر حافظ وشوقي والعديد من المؤتمرات النقدية والأدبية في العواصم العربية المختلفة وجامعات أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.

الدكتور جابر عصفور قدم العديد من الدراسات والمؤلفات منها : الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي، ومفهوم الشعر، والمرايا المتجاورة والإحيائية والإحيائيون، والتنوير يواجه الإظلام، ومحنة التنوير، ودفاعاً عن التنوير وهوامش على دفاتر التنوير وإضاءات وأنوار العقل، وآفاق العصر، وزمن الرواية، وأوراق ثقافية والنقد الأدبي والهُوية الثقافية، وحصل على العديد من الجوائز والتكريمات منها : جائزة أفضل كتاب للدراسة النقدية وجائزة أفضل كتاب في الدراسات الأدبية وجائزة أفضل كتاب في الدراسات الإنسانية والوسام الثقافي التونسي من رئيس جمهورية تونس وجائزة سلطان بن علي العويس في حقل الدراسات الأدبية والنقد ودرع رابطة المرأة العربية وجائزة القذافي العالمية وجائزة النيل.

من أقوال الدكتور جابر عصفور أذكر: ( إذا تأملنا مظاهر التخلف العديدة فى مجتمعنا سنجدها ترجع إلى الثقافة، فهناك ضعف الوعي السياسى الناتج عن غياب الثقافة السياسية السليمة التى تؤثر على مستويي الوعي والممارسة، وهناك خلل القيم الأخلاقية والاجتماعية التى تؤدي إلى شيوع الفساد وغياب النزاهة فى كل مجال من مجالات الإعلام والدعوة الدينية والتعليم، وحتى فى الصناعة والتجارة لن يختلف الأمر كثيرا، ومعنى ذلك أن الثقافة كالتعليم هي الأصل فى تقدم المجتمع أو تخلفه، ولذلك أدركت الأمم المتقدمة أنه لا تنمية بشرية حقيقية وفعالة دون ثقافة مستنيرة ومتقدمة ونحن فى أمس الحاجة إلى هذا النوع من الثقافة ).

وقوله : ( كلنا نشرف بالوقوف أمام القضاء المصري الذى لا يزال أعلام قضاته حراسًا للتنوير وحماة للدولة المدنية الحديثة فى وطن يسعى إلى تحقيق أحلامه الوطنية التى تشمل حقوق المواطنة التى هي حقوق الإنسان المنصوص عليها فى الدستور الذى هو الأساس المنطقى الوحيد للقانون)
وقوله : ( بلادُ العُربِ أوطاني منَ الشّـامِ لبغدانِ
ومن نجدٍ إلى يَمَـنٍ إلى مِصـرَ فتطوانِ
فـلا حـدّ يباعدُنا ولا ديـنٌ يفـرّقنا
لسان الضَّادِ يجمعُنا بغـسَّانٍ وعـدنانِ
لنا مدنيّةُ سَـلفَـت سنُحييها
 وإنْ دُثرت ولو في وجهنا 
وقفتْ دهاةُ الإنسِ والجانِ
فهبوا يا بني قومي إلى العـلياءِ بالعلمِ 
وغنوا يا بني أمّى بلادُ العُربِ أوطانى
ولا أزال مؤمنا بكلمات هذا النشيد إيمانى بوحدة الأمة العربية ووحدة ثقافتها لكن إيمانى بوحدة الثقافة العربية لا يعنى إلا قبولى لمبدأ التنوع والتعدد الذى تنبنى عليه الثقافة العربية ) .

عندما تُوُفي المفكر الدكتور جابر عصفور نعته وزارة الثقافة المصرية حيث قالت الوزيرة الدكتورة الفنانة إيناس عبد الدايم : الثقافة المصرية والعربية فقدت أحد أعمدتها الراسخة والراحل وضع بصمات بارزة في مجال التنوير وحقق الكثير من الإنجازات الخالدة به.

وقدم سفير اليونان بالقاهرة نيكولاوس جاريليدس العزاء لمصر وللشعب المصرى فى وفاة الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة الأسبق، وقدم سفير روسيا بالقاهرة جيورجي بوريسينكو العزاء للشعب المصري في رحيل الدكتور جابر عصفور أحد الرموز الثقافية في مصر والوطن العربي والذي ساهم مساهمة فعالة في بناء الفكر العربي المعاصر ولعب دورًا متميزًا في تطور العلاقات الثقافية بين روسيا ومصر من خلال مواقعه المختلفة كوزير للثقافة ومن قبل من خلال قيادته للمركز القومي للترجمة والمجلس الأعلى للثقافة.

وقال شريف جاد، رئيس الجمعية المصرية والاتحاد العربي لخريجي الجامعات الروسية والسوفييتية، إن رحيل عصفور يُعد فقداً عظيماً للثقافة المصرية فقد كان بمثابة الأب الروحي لها وأحد رموز حركة التنوير الذي تصدى بشجاعة للفكر الظلامي المتطرف وتحمل في هذه المواجهة الكثير إلا أنه أصر على مبادئه حتى النهاية.

وببالغ الحزن والأسى نعت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم الدكتور جابر عصفور وقالت إنه من أبرز المثقفين العرب وأحد كبار النقاد والفاعلين الثقافيين في مصر والعالم العربي، جامعي مبرز وباحث أكاديمي موسوعي ووزير للثقافة بجمهورية مصر العربية قضى خمس عشرة سنة في منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة قدَّم خلالها جهودا محمودة معتبرة للثقافة المصرية والعربية، كما أشرف على المشروع القومي للترجمة وبلغ ما صدر تحت إشرافه عن المشروع أكثر من ألف عنوان تعد اليوم مفخرة للثقافة العربية.
 
كما أعلن الدكتور محمد عثمان الخشت، رئيس جامعة القاهرة إطلاق اسم الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة الأسبق والأستاذ بكلية الآداب على أكبر مدرج بكلية الآداب تخليدًا وتكريمًا لاسم الراحل باعتباره واحدًا من القامات العلمية الكبيرة ومن أهم النقاد والمفكرين فى الوطن العربي وهو صاحب مدرسة علمية في العقلانية والدرس الأدبي والفكري.

رحمة الله على روح عصفور التنوير المفكر الدكتور جابر عصفور.

نشر في "مجلة الهلال"عدد فبراير 2022