مع أن الجزء الأكبر من تراثنا لم يزل مخطوطا، إلا أن ذلك لم يحل دون قراءة ما وصلنا منه، وخاصة تراثنا النقدي؛ الذي استأثر بقراءات عديدة؛ فإلى جانب قراءة طه أحمد إبراهيم في كتابه: تاريخ النقد الأدبي عند العرب، هناك قراءة محمد مندور في كتابه: النقد المنهجي عند العرب، وعبد القادر القط في كتابه: مفهوم الشعر، وإحسان عباس في كتابه: تاريخ النقد الأدبي عند العرب، ومحمد زغلول سلام في كتابه ذي الجزأين : تاريخ النقد الأدبي والبلاغة، إلى غير ذلك من القراءات.
وبدهي أن يلتقي جابر عصفور مع سابقيه في بعض المنطلقات؛ فهو يلتقي مع طه أحمد إبراهيم ومحمد مندور في مبدأ لا يمكن تجاهله، وهو أن ناقدًا لن يستطيع أن يكون محايدا في قراءته للتراث؛ ومرجع ذلك عنده إلى أن الناقد ينطلق في قراءاته من مواقف فكرية محددة، ويفتش في تراثه عن عناصر للقيمة الموجبة أو السالبة.
وتختلف قراءة جابر عصفور للتراث النقدي عن قراءة سابقيه من وجوه عديدة لعل من أوضحها أنه لغير سبب منطقي أسقط طه أحمد إبراهيم، ومحمد مندور كتاب عيار الشعر لابن طباطبا العلوي من قراءتهما؛ مما يوهم عند الوهلة الأولى بأن عيار الشعر كتاب ليس جديرا بالقراءة.
أما قراءة جابر عصفور فقد أنزلت عيار الشعر في مكانته اللائقة دون تهويل؛ لكونه بلغ درجة من النضج والتكامل لم تتوفر في كتابات أسلاف ابن طباطبا، أمثال ابن سلام الجمحي، وابن قتيبة وغيرهما؛ ممن عُنِيَ بقراءتهم طه أحمد إبراهيم ومندور. كما تضمن عيار الشعر أول تحليل نقدي عن صلة البناء الشعري باللذة ، وأول فهم صحيح لصلة الشعر بغيره من الفنون.
ولقد يشترك جابر عصفور مع سابقيه في قراءة نص من تراثنا النقدي، ولكن قراءته تختلف عن قراءتهم؛ يؤكد هذا أن كتاب نقد الشعر لقدامة بن جعفر قرأه طه أحمد إبراهيم ، ومندور، وجابر عصفور؛ أما طه أحمد إبراهيم فقد عمد إلى تخطئة آراء قدامة في لغة مبطنة بالسخرية ؛ إذ يؤكد أنه " لو صح ما يقوله قدامة لنضب الشعر في جيل واحد ".
وأما مندور فقد جاءت قراءته مشوبة بالانفعال، والتعسف في الحكم؛ فهو يصف مقولات قدامة النقدية بالتفاهة، ويصف قدامة نفسه بالغباء والحماقة وصفاقة الذوق.
وأما جابر عصفور فقد نظر إلى كتاب نقد الشعر بوصفه محاولة منهجية فذة ، استهدف بها قدامة تخليص النقد من فوضى الأحكام ، وتأسيس علم يميز جيد الشعر من رديئه، وإلى شيء من هذا لم يقم وزنا كل من طه أحمد إبراهيم ومندور.
وينطلق جابر عصفور في قراءته من عقيدة مؤداها أن قراءة التراث النقدي هي الوجه الآخر للحاضر المعيش، وهي جزء لا ينفصل عن القراءة الأعم للنقد العربي المعاصر، ومع هذا فقد ألقى على تراثنا النقدي أسئلة بالغة الدقة، وأعطى تفسيرات موضوعية للعديد من قضاياه الشائكة؛ فقد توقف أمام قضية محنة الشاعر المحدث في كتاب عيار الشعر وكشف عن تأثيرها على اختفاء عنصر الصدق من شعر المحدثين، وأرجع المحنة إلى أن التفكير السائد في عصر ابن طباطبا حدد للشاعر وظيفته الاجتماعية، ووجهه إلى مراعاة التمايز لا بين طبقات الممدوحين فحسب، بل بين المادح والممدوح أيضا. وأكد أن مثل هذا التفكير لم يكن يسمح للشاعر بالتعبير عن قناعاته الخاصة ، وأن ابن طباطبا نفسه لم يكن بوسعه أن يجد لمحنة الشاعر المحدث حلًا؛ لأنه كان يؤمن - بحكم تكوينه العلوي- بضرورة ثبات العلاقات الاجتماعية وتمايز الطبقات، بل إنه يكاد - كما يقول جابر عصفور- يسلم بأسبقية مراعاة الشاعر لمقام الممدوح على أصول تحسين الأقاويل الشعرية.
وبرغم إشادة جابر عصفور بما وجده في كتاب عيار الشعر من تحليل نقدي رائد لعلاقة البناء الشعري باللذة، فإنه لم يتردد في الكشف- دون تهكم أو انفعال- عن المزالق التي وقع فيها ابن طباطبا، والتي منها أنه أوجب على الشاعر المحدث أن يعتمد الصدق والرفق في تشبيهاته؛ حتى يظل وجه الشبه قابلا للتفسير المنطقي، مع ما ترتب على ذلك من سوء الظن بالاستعارة، والإلحاح على أن الجيد من الاستعارات لابد أن يقارب الحقيقة، وهو إلحاح أنزل بأخيلة الشعراء أبلغ الإضرار.
وفي قراءته لابن المعتز يكشف جابر عصفور عن التوظيف السياسي للنقد الأدبي؛ فقد لاحظ أن ابن المعتز يوظف كتابه : طبقات الشعراء المحدثين، في دعم بني عمومته من خلفاء بني العباس، واستدل على ذلك باحتفاء صاحب الطبقات بالترجمة للشعراء البارزين ممن مدحوا بني العباس، في مقابل إقصاء شاعر بارز مثل ابن الرومي من تراجم الكتاب؛ لأنه هجا الخليفة المعتز بالله، وكذلك إقصاء من تحدث من الشعراء عن سوء أحوال الرعية. ويضيف جابر عصفور أن ابن المعتز أفسح المجال، في طبقاته، لموالي بني العباس، أمثال منصور النمري الذي مدحهم بقوله:
إن الخلافة كانت إرث والدكم من دون تيم، وعفو الله متسع
ومـا لآل علـي فــي إمـارتكــم حـق، وما لهم في إرثكم طمع
فهذه القصيدة عند ابن المعتز من المدائح العجيبة التي لم يقل مثلها أحد.
وعلى هذا النحو مضى جابر عصفور في قراءة طبقات ابن المعتز، رابطا بين محتواها وفكرة الفضل الإلهي؛ الذي يجعل خلافة بني العباس إرثا اختصهم الله به دون غيرهم من عباده؛ مما يُجْبَرُ الرعية على طاعتهم، ويجعل مناوأتهم مدعاة لغضب الله والصالحين من عباده.
ومهما يكن من أمر فقراءة جابر عصفور للتراث النقدي تتجاوز مجرد الكشف عن عناصره الموجبة أو السالبة، إلى تأكيد الوعي بالذات الحضارية، ومكافحة التماهي مع الوافد من مقولات الآخر ومناهجه النقدية؛ وعيا منه بأنه إذا كان الانفتاح البصير على الآخر مطلبا حضاريا لا شك فيه، فأحرى بنا أن ننفتح على تراثنا مراجعة ومساءلة؛ بحيث نقف على ما حققه أسلافنا لننطلق منه نحو ما نتطلع إلى تحقيقه.
ويبقى أن أشير إلى أن جابر عصفور يتوسل، في قراءته، بلغة تميل إلى التفسير والشرح، وتتسم بالاحتياط؛ لغة لا ترفع ناقدا إلى مستوى الزعامة، ولا تنزلق إلى هجاء ناقد آخر.
نشر في "مجلة الهلال" عدد فبراير 2022