الإثنين 6 مايو 2024

القيم الفنية والإنسانية برواية «ملائكة في الجحيم» لـ نشأت المصرى

مقالات21-2-2022 | 22:20

نشأت المصرى كاتب فذ، له إنتاج غزير متنوع بين شعر وقصة ومسرح وتراجم ودراسات وكتب تجاوزت المائة، فضلا عن تأليف المسلسلات والحلقات الإذاعية والتلفزيونية التى تعد بالآلاف.
وقد دأب على أعماله مخلصا لرسالة الأدب الرفيعة، متوجها بها إلى الكبار والأطفال، وحصد الكثير من الجوائز، وشارك – بفاعلية - في المؤتمرات والندوات، ونُشرت أعماله في الصحف والمجلات، وناقشها لفيف من العلماء والأدباء.
وترأس نشأت المصرى العديد من المجلات، وشارك في عضوية كثير من اللجان الأدبية، وتحكيم المسابقات، وغيرها مما جعله أهلا للتكريم والحفاوة في المحافل الثقافية المختلفة.


وأهم ما يميز أعمال نشأت المصرى اختياره للشخصيات ذات المواقف الأصيلة في الكتب التى قدمها عنهم، واهتمامه بالقضايا الكبرى في إبداعاته الروائية والشعرية، وغرسه التربوى في أدب الأطفال.
وقد أصدر "نشأت المصرى" رواية جديدة بعنوان: "ملائكة في الجحيم" يعنى بالملائكة الأطباء؛ الجيش الأبيض الذى واجه جحيم الكورونا – خاصة- وقدم الكثير منهم حياته فداء لهذا الواجب النبيل.
وغاص السارد/ الراوى في أعماق عالم الأطباء، وكان بطل الرواية وحبيبته من هؤلاء الأطباء الملائكة. حيث ضحى البطل براحته في سبيل علاج الفقراء، وكافح لفتح مستشفى لعلاجهم من الكورونا، وفقد حبيبته وزوجته التى وافتها المنية بعد أن شاركته في رعاية المرضى بإخلاص وتجرد وصدق لوجه الله تعالى. 
والخيط الدرامى للرواية شيق، يستطيع نشأت المصرى نسج وقائعه وتصوير شخصياته بحرفية وبراعة. وتتشابك أحداث الرواية لترينا الشخصية المناقضة لبطل الرواية، وهو زميله الذى حقد عليه مع أنه أكثر ثراء منه، وقد ناصبه العداء، لكنه وقع في شر أعماله محكوما عليه بالاتجار في أعضاء المرضى.
وتجذبنا الرواية بالتحليل العميق لشخصياتها، والبراعة في حوارها، وكشف كل فصل من فصولها عن أحداث كانت غامضة، ويستمر هذا حتى آخر فصل في الرواية.
وتكشف الرواية عن الحالة الفقيرة للمستشفيات الحكومية، والمفارقة بينها وبين المستشفيات الخاصة ذات الأسعار الخرافية التى لا يقدر الفقراء عليها.
لكن عزاء هؤلاء الفقراء أنهم يجدون مثل هؤلاء الملائكة من الأطباء الذين يتفانون فى علاجهم معرضين أنفسهم للموت، وقد ضحى الكثير منهم بحياته الغالية فى مواجهة الكورونا.
والحب تيمة الرواية مثالا للتضحية فى سبيل العطاء، وبطل القصة؛ طبيب الفقراء أشبه بطبيب قصة "قنديل أم هاشم" ليحيى حقى، وطبيب الغلابة الذى توفى مؤخراً.
وقد سمى بطل القصة المستشفى التى أقامها لعلاج الفقراء "مستشفى الرحمة"، فى إشارة دالة على الرحمة بهم،  والجائزة الكبرى التى يتلقاها هؤلاء الملائكة من الأطباء هى حب الناس لهم.
وخلال أحداث الرواية إسقاطات سياسية حول الحروب الأهلية فى بعض البلاد العربية الإسلامية تؤجج نيرانها القوى العالمية الكبرى.
وفيها أيضا إشفاق على النيل؛ النهر الخالد مما يحاك له من مؤامرات تهدد حياتنا وحضارتنا. ويتمثل الواقع المرير فى مفارقات كثيرة بالرواية، منها الحياة البائسة للأطباء مع أهميتهم، وكذلك الفقر الذى جعل شابا يحاول الانتحار لأنه لا يجد ثمن حقنة الأنسولين، وغير ذلك كثير مما صوره "نشأت المصرى" فى هذه الرواية من أحوال المجتمع المصرى.
وقد واجه بطل الرواية كثيرا من الأزمات المالية لعلاج الفقراء، وأخته الحبيبة وغيرها، لكن الفرج بعد الشدة واتاه لإخلاصه فى رسالته، وحرصه على كل ما هو جميل من القيم الإنسانية الجميلة.
ونموذج الممرضة التى تحب الطبيب، عالجته الرواية فى كثير من العمق الإنسانى الذى يتمثل فى المفارقة المتمثلة فى هذه العلاقة.
ونشأت المصرى بارع فى وصف الشخصيات، يقول فى الممرضة الجميلة: "وشعرها غابتان من ليل دافئ". ويتميز، أيضا، بدلالة الكلمات الموجزة على مآل الأحداث، مثل وصف الحب القلق بين الطبيب والممرضة بقوله – على لسان شخصيته- : قال وبالرقص نبدأ، قالت: وبه ننتهى.
حيث كشفت الأحداث خيانة الطبيب لحبيبته الممرضة، وانتقامها منه بعد جمع الأدلة التى تدين فساده أمام القانون. أما الإشارة فى الرواية فتمثلت فى الخطاب الذى وضعته الممرضة بإيعاز من الطبيب الذى تحبه للإيقاع بين بطل الرواية وحبيبته، حيث جعلنا "السارد" فى حالة ترقب لمعرفة سر هذا الخطاب الذى أثر على أحداث الرواية، وأفسد العلاقة بين بطل الرواية وحبيبته.
وبطل الرواية معبر عن السلام النفسى بقوله: "إن فرحتى الكبرى أن أرى الناس فى حالة من السلامة والسلام والحب".
وقد نهب عم البطل ميراث أخيه، ولكن ما ورثه البطل عن أبيه من تسامح هو الذى أعلى من مكانته وحب الناس له، وليس حب المال الذى حرم أصحابه الجشعين من هذه النعمة الكبرى.
والمآسى الإنسانية الموجعة التى صورتها الرواية لموت الأطباء جراء الإصابة بالكورونا فى معركتهم معها تدمى القلوب .
أما قدرة "نشأت المصرى" على وصف الأماكن فهائلة، ممثلة في تصويره للمستشفيات المركزية وتهالك ما فيها من أثاث وتجهيزات طبية. كذلك تتجلى البراعة في الحوار، وتوظيفه الفنى لمسار البناء الروائى.
يتمثل هذا في حوار أخت البطل معه للزواج من ابنة عمه الثرية، ونفيه أن يكون رفضه للزواج منها انتقاما من عمه الذى نهب مال أبيه.
ونشأت المصرى قدير في استنطاق مكنون شخصياته في تحليل نفسى وفلسفى رائع، خاصة شخصية زميل البطل الذى قام بإغراء حبيبة البطل بالزواج انتقاما منه، وغير ذلك من مواقف وأحداث. وفى الرواية تقديم وتأخير – على طريقة البلاغة العربية - بهدف الربط بين أحداث الرواية بتقنيات مختلفة، حيث ترد حكاية بطل الرواية مع زميله الحاقد فى الفصل الرابع لتحقيق هذه الغاية الفنية الدقيقة.
وتنمى "الرواية" أهمية العلم، وضرورة متابعة الأطباء لمستجداته، كما تمثل فى اجتهاد بطل الرواية وبحثه ومتابعته لكل جديد فى مجال الطب للنجاح فى عمله.
وتأتى صورة الصعيد رائعة فى فصول الرواية، تعبيرا عن أصالة أهله، وبهاء النيل فى ربوعه. وكان البطل قد نقل إلى الصعيد عقابا له عن تصديه للفساد، ولكن تلك المحنة تحولت إلى منحة، خاصة بعد قصة حب مع طبيبة عوضته عن أحزان الوقيعة بينه وبين حبيبته فى القاهرة. 
والرواية زاخرة بالحكمة التى ينطق بها "الراوى" معبرة عن عمق الفن القصصى، مثل قوله: "الحياة كتاب مفتوح، نحن الذين نملأ صفحاته". كذلك قوله : "أحيانا لا نفهم قلوبنا إلا فى وقت متأخر"، "والخصال قبل المال".
وتطرد هذه الحكمة أثناء الرواية من أولها إلى آخرها مفسرة – على إيجازها- كثيرا من وقائع الرواية.
وبدايات فصول الرواية أشبه بعتبة النص، ممثلة فى الفصل السادس، حيث تشير مقدمته إلى أحداثه، وهى: "أحلام بشرتها سمراء، وميراث من محبة... تعانق الأيدى، وبلسم النسمات يدحر الجراح" فى تعلق بوصف حياة البطل فى الصعيد.
كذلك، يؤكد الحوار بين بطل الرواية ورفيقة السفر من الصعيد إلى القاهرة تلك الصلة بين أحداث الرواية بحرفية بلغت المدى.
كذلك الحوار بين بطل القصة وأخته بعد رجوعه من الصعيد، ومحاولتها إرجاع البطل إلى حبيبته بعد انكشاف المؤامرة التى أوقعت بينهما، خاصة بعد قصة حبه الجديدة فى الصعيد، مما حدا بالأحداث إلى ذروتها، وقد انتهت إلى عودة الحب الأول.
ويبرز الحوار فنا رفيعا فى الرواية بين البطل وحبيبته بعد عامين قضاهما فى الصعيد، وبعد وقت قاس عانى كلاهما فيه من القطيعة المدَّبرة لهما. وبرز الحوار عنصرا فنيا أصيلا فى بناء الرواية فى مواجهة حبيبة البطل القاهرية بالأخرى الصعيدية، وقد ترك الأخيرة.
وفى الفصل الأخير من الرواية يصف "السارد" فحوى الرسالة التى تقدمها هذه الرواية فى وصف حبيبة بطل الرواية وزوجته الطبيبة العظيمة التى وهبت حياتها لآخر لحظة فى خدمة رسالتها الإنسانية من علاج المرضى غير القادرين بقوله: "أنت إحدى الملائكة التى فارقت بيتها العالى السماء لتصنع الابتسامات على وجه الأرض".
هؤلاء الملائكة الذين ضحوا بأنفسهم، ولم يخشوا جحيم الكورونا على حد تعبير "الراوى" . وفى توطئة حزينة لوفاة ملاك من الأطباء لإصابته بالكورونا، يقول الراوى، موحيا بحزن ولوعة " امتدت أصابع البرد إلى العروق أكثر، وتلكأت الشمس، وولولت الرياح، والناس يغلقون النوافذ، وليست النوافذ هى الحل، فللأرواح نوافذ أخرى لا نعرفها" إنه الموت الذى ينفذ إلى أرواح هذه الملائكة الطاهرة.
كذلك كان هذا الإحساس المروع لموت الطبيبة الملائكية حبيبة بطل الرواية، إذ يعلو صوت الموت الذى لا يخطف روحا فقط، وإنما يطعن قلوبا كثيرة، وما معنى النور والماء والهواء والضحكات والأمانى ومثل هذه التساؤلات التى دارت بخلد بطل الرواية المكلوم، كما صورتها الرواية.
والحق أن هذه المشاعر الحزينة فى نبلها قد طهرت النفوس كما يفعل الفن الحقيقى الأصيل الذى جسدته هذه الرواية التى تفاعلت مع أهم أحداث العصر الحزينة بسبب ضحايا الكورونا، خاصة مواجهة الأبطال الملائكة من الأطباء الذين خاضوا المعارك فى ميدانها، وضحوا بأنفسهم فى سبيل إنقاذ البشرية من ويلاتها، فهل نقول إن "نشأت المصرى" لمس هذا الوتر الحساس فى حياتنا الآن عبر فن جسَّد شخصيته الأدبية الرائعة؟

Egypt Air