الأربعاء 26 يونيو 2024

الناقد أحمد فرحات: شيرين العدوي شاعرة جموح

6-7-2017 | 09:58

 

وصف أحمد فرحات، أستاذ النقد الأدبي بجامعة الفارابي لـ"الهلال اليوم"، شيرين العدوي، بأنها شاعرة جموح، إذا ركبت الشعر فلا شيء يوقفها، ولا تقف عند حد من حدود النهاية، تقتات من ألمها كالنحل، لتفرزه شعرا مصفى للناس، تنير دياجير الظلام للحائرين، هي نسيج وحدها لتفردها في دنيا الشعر.

 

وأضاف أنه يمثل العنوان (صباح) عند الشاعرة أملا بعيد التحقق؛ فرمزية العنوان تحيلك إلى عالم من الخلاص، والأمل، والسعادة البعيدة، وهو كلمة واحدة تحمل دلالات شتى، فهو الحلم الذي ما تحقق بعد، وهو السلام الروحي الذي تستقر به الأنثى، وتطمئن. وهو هنا رؤيا لعالم مكبوت من الأحلام والآمال والرغبات.

 

ونوه أنها تنهض القصيدة برمتها على طرح سؤال وجودي، وهو سؤال متشعب، وله أكثر من إجابة، والاستفهامات القائمة كلها تحمل الأداة (هل)، فرغم سهولة الإجابة بنعم أو لا فإن الوجود يتجاوب مع أسئلتها تجاوبا فاعلا، ويجيب، وفي إجاباته تصدر الشاعرة زفرات متقدة، نابعة من أعماقها، ليصل المتلقي إلى رؤاها الفنية، وعالمها الفسيح.

وتتردد في السطور الشعرية تسعة أسئلة، تحمل دلالات الأمنية المكبوتة في الضمير، كلها تسأل عن: ضوء الصباح، وجه الصباح، قلب الصباح، عقل الصباح، بنت الصباح، طفل الصباح، وسؤالان وجوديان آخران، لم تهتدِ الشاعرة إلى إجابة شافية.

في السؤال الأول: هل ثم ضوء للصباح؟ تبدو السذاجة في طرحه؛ لأن الصباح دائما مقرون بالضوء، ولأن الصباح هنا ليس الصباح الذي نعرف فإن الدلالة تفرض نفسها على السياق، فهو صباح من نوع خاص بالشاعرة، فطالما زارها ألف صباح، لكنها من الداخل في غشاوة من ضوئه، فلا العين ترى ضوءه، ولا القلب يستشعر دفئه، فرمزية الصباح تحيل مباشرة إلى الخلاص، والأمل، وماء الحياة، والأمنيات التي أجدبت، وتتمنى أن تورق وتخضر، عندئذ تتساءل في حسرة وألم شديدين.

 

وحتى نصل إلى السؤال الثاني نرى ونسمع حوارا لأصوات متناغمة مع صوت الشاعرة، ووجود الأصوات هنا دليل على الصراع الداخلي العميق، وسريعا يتحول النص من نص سارد إلى بنية درامية، مسرحها الذهني هو القلب وما يختلج فيه من ذبذبات عاطفية متقدة.

ترسم الشاعرة صورة سوداوية للعالم الذي تعيشه شعوريا وليس حياتيا، فهو عالم أشباح، وظلام، ودماء، وجماجم فارغة، فما أفزع الصورة!

الصورة الكلية هنا قائمة على مفارقة حادة بين الصباح الحقيقي، رمز الخصب والنماء والميلاد الجديد، والبهجة والسرور، والصباح المجازي الذي عبرت عنه الشاعرة حيث وقعت تحت وطأة الخوف، وربما الفزع من المجهول، أي بين العالم النفسي المقهور، والعالم الخارجي الصارخ، وهنا نجد القصيدة تتذبذب تحت وقع الهلع والرعب. وهذه المفارقة هي أصداء لعالم نفسي يتشح بالسواد، والدماء، والجماجم الفارغة.

وتستمر المفارقة الحادة في النص ككل، بدءا من البدايات التي عبرت عنها الشاعرة، في لحظات الميلاد، حيث لا شيء سوى خالق الكون، وفراغ قاتل، تسوده الظلمة، ومطاردة الأشباح لها منذ البداية. وليس من شيء سوى الفراغ، وبدأت ترسم وجها للكون القار في قرارها، وهو وجه منفر، مفزع، كأن وجهه أشباح تطاردها، ورأس فارغة من أية ملامح محددة، عيناه نهران من الدماء. ومن هنا نصل إلى التساؤل الثاني: هل ثم وجه للصباح؟

 

وتستمر الشاعرة في رسم الصورة السوداوية من خلال إجابات الصدى للأسئلة، وهذا تكنيك فني ارتضته الشاعرة للوصول إلى متلقيها عبر مجازات غامضة، والغموض هنا مقصود، لأنه وسيلة فنية يخفي ويشف في آن معا، يصل ولا يصل، لكنه غموض مقبول وغير مستعص.

 

تكشف لغة القصيدة عن شاعرة متمكنة، تمتلك أدواتها، وقد عبرت عن لغتها بأنها لغة فراغ، ثيبات في معانيها، لغة أنثوية بامتياز، لغة أرهقها المجاز والتخفي، والتحلق في فضاءات الكون بلا أجنحة، لغة محكمة في مبناها وانتقاء ألفاظها، وتراكيبها. كل تركيب انتقته الشاعرة هو تعبير غامض، يصور ولا يكشف، يرسم لوحة، ولا يفصل التفاصيل.

اللغة في مجملها مجازية، تتخفى وراء الألفاظ نفس محطمة، قديسة نبتت من طين الحياة، لتواجه عالما من الموجودات تغلب عليه صفة الأشباح المفزعة، والكائنات المحطمة، لترتمي هي في أحضان عالم الحلم، وفيه تنتزع البراءة والقداسة والنشأة الأولى التي عليها خلقت، تهب الناس، كل الناس، روح الوداع والبراءة، وتكتفي هي بالوهن، والدمار، والقلق النفسي المدمر جراء مطاردة الأشباح التي تطارها منذ البداية. وهي في سبيل ذلك تروم الوصول إلى السعادة الحقة التي عبرت عنها بالطفل، يمارس اللعب الجميل، بصحبة الأطفال في رحم الجوار. ثم سرعان ما تعود إلى الواقع الأليم لتتساءل في ألم ممض: أو سوف يولد في فراش الكون حقا ما يموت الآن، في هذا الصباح؟

 

حملت اللغة تجربة متقدة غامضة، من بدايتها لنهايتها، ولكنه غموض شفيف، يشف ولا يفصح، نأت التجربة عن المباشرة والتقرير، وجنحت إلى الرمز والمجاز، وهذه حال اللغة الأنثوية، تسترق السمع لنداء داخلي ممض، فتجيب بالشعر فيتصوّح؛ فيطهر النفس من أدرانها، نتيجة ضغوط العواطف، واشتعالها، فتهدأ النفس لمجرد التعبير، وترتاح، وتنتابها حالة من الرضا النفسي الآني، إذ سرعان ما يعود إذا ما ازدادت الضغوط، واتقدت وتيرتها على النفس، فتعود معها حالة من الاستنظار الذاتي التأملي لتعيد اكتشاف ذاتها من خلال الصور الشعرية السوداوية الغامضة. وما أكثر هذه الصور الشعرية الحادة في شعر شيرين العدوي، يكفي الوقوف أمام واحدة أو اثنتين لتتأمل المعاناة الذاتية للشاعرة.

 

هل ثم طفل للصباح؟

مدَّ الذراعَ من الغَلَسْ

فتفتَّحَ الفجرُ الشريدُ كزهرةٍ

وفي برعمٍ تنضُو على غُصنٍ وَهِنْ

وتُحوِّلُ الليلَ الطويلَ

لزفرةٍ من نَسْمَةٍ رقراقةً

وعلى سرير الكونِ

تبدأُ هالةُ التسبيح في سِرِّ الليالي

تستَرقُّ الصمتَ حينَ تئنُ أوراقٌ الشجر

في لحظةٍ ممرورةِ الإيقاعِ يجلدها المطرْ

من شرفة للقلب يسقط طفلُنَا

من ذروةِ النجمِ البعيدِ

لعلَّ جَفنًا ناعسًا يصطاده

حلمٌ يراعٌ تائهٌ ضل الطريقَ إلى الرؤى

 

تأمل معي هذه الصورة لطفل الصباح، وقد مد ذراعه من شرفة الأحزان، يستولد فجرا جديدا ناعما، تتحول معه الأحزان والذات الشاعرة إلى نسمة رقيقة، تستمد القوة من الإله في سر الليل الباكي، وتبدأ مرحلة جديدة من حياتها، مع ميلاد فجر جديد، فلعل في هدأة الليل، وكمون الأسرار تنبثق فكرة جديدة، يستقبلها يراع حالم وتحولها إلى قصيدة متعددة الرؤى، والأحلام الزاهية، وهي تروم من ذلك إلى فكرة أن القصيدة حلم زاه، يتحقق فيه ما لا تستطيع أن تحققه في الواقع.

تكشف القصيدة عن معاناة المرأة المعاصرة حد الاكتئاب والنفور من الحياة، وما وجودها في عصر رحابة التقنية الحديثة إلا زادها تعبيرا عن نفسها، وعن رغباتها، وتشظي عاطفتها، وتصارحها.

 

كما تكشف عن طغيان المادية على الروحانيات، وإقصاء المجتمع للمرأة، وقد غفل عن عمد إلى التشبث بالمرأة الملاك، ما زاد المرأة مرارة وغضاضة، من هذا المجتمع الحداثي، الذي ما زال يفكر بطريقة الجاهليين، ونظرتهم إلى المرأة نظرة دونية.

كما كشفت القصيدة عن كثب عن الروح العالية التي تتمتع بها المرأة في مجابهة أمراض المجتمع الحديث، من خلال قدرتها عن التعبير عن قضاياها.